|
ألحاج تركي
أسعد البصري
الحوار المتمدن-العدد: 3404 - 2011 / 6 / 22 - 02:39
المحور:
الادب والفن
كان بيتنا في البصرة القديمة بمنطقة ( نظران ) ، نسكن بيتاً
من بيوت الشناشيل . كانت الدنيا فتيةً وحلوةً جداً في عينيّ .
كنت أقضي وقتي ولعبي مع صديقي المسيحي باسل . لأن بيتهم
كان ذو نوافذ خشبية وزجاج ملون ، أيضاً . إلا أن المسيحيين
كانوا أكثر آهتماماً بالتفاصيل وآلديكور من المسلمين . اللوحات وتناسق
الألوان والبيانو والتماثيل والنظافة المبالغ فيها . كانت هناك شجرة عنب
في باحة البيت تحتها طاولة منضدة ومضارب حمر . كان إخوة باسل
الكبار يلعبون أحياناً تحت شجرة العنب لعباً يقشعرّ له بدن الربيع .
إخوة باسل هم طلال و جمال و كمال . غاية في البصرية والوسامة
والأناقة . جلال بطل الكاراتيه عنده عشيقات مسلمات و مسيحيات
تضطر أمه إلى طردهن أحياناً. أما طلال فهو بطل البصرة
بلعبة المنضدة . وحده الإبن الأكبر جمال ينزوي للقراءة ويعشق جمال عبد الناصر .
أم جمال السيدة( رؤى) كانت تهتم بي كثيراً . ولأنها كانت قارئة فنجان
تشفق عليّ . وتقول : يا أسعد أرى عذاباً مخيفاً ، فيما سيأتي من حياتك . مرةً وضعتْ أم جمال
يدها على رأسي وقرأتْ صفحةً من إنجيل يوحنا ، ثمّ دعت المسيح أن يُخلّص روحي من العذاب .
سألها زوجها المتقاعد السكران دائماً ، لماذا تقرأين له من إنجيل يوحنا
وليس لوقا أو مرقص . : لأن يوحنا شاعر وهذا الولد شاعر يا أبو جمال .
كان والدي ماركسي متطرف وكلما رأى أم جمال سخر من قراءة الفنجان
قائلاً : إلى متى تبيعين الخرافات يا أم جمال ؟ وكانت تقول له :
إلى متى تبيع الأوهام با أبو أسعد ؟
فيرد عليها : أنا أنشر العلم والفلسفة ماذا ترين أنتِ في الفنجان ؟
تقول بكبرياء : أرى آمرأةً تتألّم فأخفّف عنها الألم .
يقول والدي : عجيبٌ أمر المسلمات لماذا يتقاطرن حتى تهوي أفئدتهن إلى بيتك ؟
بعناد هند بنت عتبة تقول أم باسل لهذا الديالكتيكي :
أنتم العرب كنتم مشغولين بالفتوحات والحروب . بينما المسيحيون والفرس
آنشغلوا بالعلم والحكمة والطب . لهذا ترسختْ عندكم
لحد الآن فكرة أن المسيحي والفارسي عنده علم الغيب . نحن المسيحيين نحبكم لأنكم أرحم من الفرس .
ذُعر أبي من قارئة فنجان مسيحية قادرة على دحض مدرس فلسفة ماركسية . في عز وبهاء الحزب الشيوعي .
كان لصديقي باسل أخت في العشرين إسمها نوال . في السابعة من عمري
كنتُ أحب مراقبة نوال تمشط شعرها وأشعة الشمس تخترق الزجاج الملون لتلون وجهها المشرق .
كنت أحب صوتها وطيبة قلبها وآبتسامتها و ثيابها .
عندما آحتضنتني في عيد الميلاد شعرتُ بدوار وكادت رائحتها أن تفقدني الوعي .
يوم الأحد كنت أذهب إلى بيتها لأراها بعطرها ومرحها وثيابها الأنيقة
قبل أن تخرج إلى الكنيسة . الحياة كلها تتفجر من جسدها ، حتى الصبايا المسلمات
كُنّ يتغزلن بها . أمّا جارتنا الزنجية فكانت تستعيذ بالله عندما تراها وتقفل بابها بغضب .
في يومٍ من الأيام رقص الفتيان عند باب
نوال . وصاحوا ( مريم مريمتي على صوت الأورك وتحت شجرة العنب ) ، قال باسل
تعال إنه زفاف نوال . خرجت نوال من بيت الشناشيل إلى بيت حبيبها . وخرجت روحي خروج المسيح من أورشليم .
في اليوم التالي أعطتني أم جمال علبة جكليت وقالت أن نوال
أوصت بها إليّ . كان البيت فارغاً . والشارع والوجوه وشجرة العنب . كان كل شيء
يعاني الفراغ . لم آكل ولم ألعب ثلاثة أيام حتى خاف والدي فأخذني
إلى جدي الحاج تركي وقال : يا أبي هذا الولد مريض . فجلبته لك علك تشفيه .
جدي هذا هو الحاج تركي هيجل أكبر أسطورة في حياتي .
كلما تحدثتُ عنه طلب مني المثقفون أن أكتب . ولأنني لا أتصل
خوف أن يقول لي أحدٌ أنه قد مات فهو من مواليد ١٩١٤ م . ولعله
قد مات فعلاً وإلا لماذا أراه يضغط الآن ليخرج من قلمي .
الحاج تركي إبن الإقطاعي ملّا هيجل والسيدة وضحة . جاء ملّا هيجل
من نجد واستنبط الأرض و وأنجب تركي و عقاب وعدداً
من البنات . بنى بيتاً من الطابوق الأصفر ، بيتاً كبيراً يحوي أكثر من عشر غرف
و أربعة لواوين و مضافة ترى أولها ولكنك لا ترى آخرها . كان الناس يسمون ذلك البيت
قصراً . أدركت ذلك المنزل وبقاياه في طفولتي . كانت الذكريات تخرج من الطابوق ومن النخيل و الجداول المحيطة به .
ألحاج تركي يختلف عن أبيه الذي كان رجل مال و سياسة وعلاقات واسعة
مع بيت النقيب والسعدون وسوق الشيوخ وبني مالك والسدير و عنزة .
كان ذلك الرجل عندما ينام يضع رجليه على المخدة ورأسه بلا وسادة . وقد كان
محقاً فقد أصابته رصاصة في ساقه وهو نائم بهذه الطريقة .
أما أخوه الحاج عقاب فهو يهوى النساء والصيد والمغامرات لا أكثر .
ألحاج تركي كان مختلفاً تماماً ، كان مسالماً ومؤمناً بآلله وبالأرض و ببساتين النخيل .
كان هو بداية دخول التمر ممزوجاً بآلإيمان إلى العائلة . كان هو ذلك الشيء
الذي وصفه المتنبي ب ( حلاوة التوحيد . )
وقف الحاج تركي بيني و بين الشمس في ذلك البستان وسألني :
ما بك يا ولدي ؟ أجبتُ : لا شيء .
قال صدقْت أعتقد أن المشكلة هي هذا اللاشيء .
سقينا البستان معاً . وجلبنا الحشيش معاً . وفي الليل
تناولنا العشاء مع جدتي زاجية التي كانت أعظم شاعر رأيته في حياتي .
عمتي أمينة كانت معنا فلم تكن قد تزوجت
بعد . وهذه العمة إلهة من آلهات الأمومة النادرة . طبعاً هذه الألوهية
آختفت عندما أنجبت ولدها الأول عصام وتحولت إلى أم عادية .
نمتُ باكراً لأن العمل في الحقل قد هد قواي .
في اليوم التالي طلب مني جدي أن أتعرف على أطفال القرية
وأن ألعب معهم . لاحظت أن هؤلاء الأطفال يختلفون
عن أطفال المدينة . فهم طيبون ويحسنون الظن ومؤدبون للغاية . الأمر الذي يجعلني
اليوم أفكر بما يمكن أن يفعله بهم تجار الطائفية والسياسة . لعبنا معاً ، غطسنا
في الأنهار وقفزنا الجداول و آصطدنا الأسماك والعصافير و سرقنا البيض من منزل سيدة عمياء إسمها أم سلمان .
عندما جاء أبي وجدني على أحسن حال فسأل جدي كيف أصلحت هذا المعطوب ؟ . فقال له :
يعتقد المؤرخون أن عمر بن الخطاب عظيم لأنه ملأ الفراغ . بعد وفاة النبي
وحمل الناس حملاً على بيعة أبي بكر لكي لا تحدث الفتنة وتضيع الرسالة . لكن هناك فراغاً آخر حذر منه عمر حين قال :
(( أحذركم عاقبة الفراغ ، فهو أجمع لأبواب المكروه من السكر. ))
وكما شغل عمر الأمة بالفتوحات والعمل ، شغلني جدي بجمع الحطب واللعب .
~~~~~~~
في اليوم التالي قمنا بإحراق عُمر .
كان هناك تقليد في تلك القرية القريبة من إيران
أن يحتفل الأطفال في ذكرى آغتيال عمر ونسميه فرحة الزهراء . كنا نشعل ناراً نقفز عليها ونغني :
عافاك الله يا فيروز
خلّيت الخنجر مقروز
قزّه قزّه بفّاده
هذا عدوّ السّاده .
~~~~~٠~~~
أمهاتي العراقيات أعطينني خبزة طيبة من خبز العباس . وكان اللعب
حول اللهب ممتعٌ حقاً .
عندما رآني عمي القومي حاملاً خبز العباس ، قافزاً بفرح فوق اللهب .
ركض نحوي إلا أنني وبأقصى سرعة ركضت ودخلتُ في عباءة جدي .
سأله جدي ماذا تريد منه ؟
قال : هذا الكلب يرقص كالمجوسي
حول النار ، ويلفظ الغين قاف ، والقاف غين كما يفعل
الفرس . ويحتفل بآغتيال عمر بن الخطاب الذي هو بطرس القومية العربية
وفاتيكانها . المسيحيون يسمون أبناءهم عمر لأنه أوصى بهم
قبل أن يموت وقال ( قاتلوا من ورائهم ، ولا ترهقوهم .) وهذا المسلم يحتفل بموته .
ضحك جدي عليه وقال :
يا جاهل .هؤلاء الأولاد يحبون بعضهم وهذا هو المهم الآن .هذه تقاليد
بسبب التخلف زمن العثمانيين والصفويين . غداً يذهبون إلى المدارس
ويتعلمون ويعرفون أنهم عرب . ويقرأون التاريخ ويفهمون من هو عمر .
أما الآن دع الأولاد وشأنهم .
والدي كان يسمع ويضحك . فهو ماركسي متطرف . وبالنسبة له
حرق عمر وحرق علي هرطقة جميلة . فهو يحب القرامطة
الذين هدموا الكعبة ومنعوا الحج وجعلوا الحجر الأسود مربطاً للخيل . فسأل جدي :
ومَنْ هو عمر ومن هو عليّ ؟
فقال جدّي بحكمته لأنه يعرف مكر ولده هذا :
رُوي عن أعرابية في مجلس المأمون أنها قالتْ :
ألحبُّ هو تحريك الساكن ، وتسكين المتحرِّك .
عمر بن الخطاب هو تحريك الساكن في التاريخ الإسلامي .
و عليّ بن أبي طالب هو تسكين المتحرِّك في التاريخ الإسلامي .
واحد لبناء الدولة - والآخر لفكر ورسالة هذه الدولة .
هذان جناحا الحب العربي في التاريخ .
أكل جدي خبز العباس معي ... وحين سألته ما بال هؤلاء قال :
هؤلاء مهابيل .
~~~~~~~
هؤلاء مهابيل...
هي ذات الكلمة التي سيقولها لأحفاده في الرياض بعد عقود طويلة .
أحفاده الذين تفقهوا في العلوم والمحاماة والدين
والسياسة . حتى أنهم صاروا في مراكز إجتماعية متقدمة جداً هناك . حين زارهم
الحاج تركي تحلقوا حوله . فهو الحكيم العراقي البسيط المحب لله
والناس والعراق . قال لهم ( الحرام غالي ، والحلال رخيص ) لهذا
هو لا يحب المال . لكن أكبرهم وأفقههم قال لجدي :
يا حاج أنت حكيم طيب ، لكن الشيخ أحمد الوائلي أفسد عليك عقيدتك .
فضحك جدي وقال : أنتم مهابيل .
جدي لا يشبه حسن العلوي فهو مخلص ، ولا يخشى في الشيخ أحمد
لومة لائم . لأنه لا يسب عمر بن الخطاب ويتكلم بعقلانية رائعة .
لكنه يعتب على الشيخ أحمد هجومه على عرب الجاهلية
وآستشهاده بأبيات يعتقد أنها منحولة ومدسوسة . مثل هذا البيت :
لا يشربُ الماء إلّا مِنْ خليطِ دمٍ
ولمْ ينمْ جارهُ إلّا على وجلِ
~~~~~~~~~
فهو مهما كان بدوي ويعتقد أن العرب أهل مروءة .
كانت أناقة الحاج تركي تختلف عن أولاده ( الأفندية )
فهو يلبس الصاية والعباءة والعقال والكوفية والعكازة والنعال .
ويضحك عندما يرى رجلاً يمشط أمام المرآة
يحب الصيف ويكره الشتاء ، ويردد كل يوم حديث النبي
قرب الصوبة حتى ينتهي الشتاء
:
ألنار فاكهة الشتاء
.
عندما يموت أحد أطبائه المتخرجين من بريطانيا يضحك ويقول:
كل العقاقير لا تفيد ، لا خلاص إلا بتقوى الله ويردد
:
ليس شيء سوى التّقى
فخذي منهُ أو دعيْ
~~~~~~~~
أرسل يوماً في طلب صديق عمره السيد نجم وقال له :
يا سيدنا ...سمعتُ من الشيعة وسمعتُ من السنة
وقررت اتباع الإمام مالك . فقال السيد نجم : ولماذا الإمام مالك ؟
فقال : ألا يكفي أنني لا أصلي على تربة ، على الأقل
أُسبل حين أصلي معكم . والإمام مالك يُسبل .
فضحك صاحبه من هذا الداهية الذي يُذكر بدهاة العرب الأوائل .
كان يقول أن العراق هو البلد العربي الوحيد الذي فيه مدرستان .
مدرسة الكوفة ومدرسة البصرة . عندما تفقد البصرة
صوابها تعيدها الكوفة إلى الطريق الواضحة . وعندما
تفقد الكوفة صوابها تعيدها البصرة ،إلى المحجة البيضاء .
هذه الأيام أرى الكوفة قد فقدتْ صوابها ، وعلى البصرة
أن تساعدها وتعيدها إلى طريق العراق القويمة .
هذا الرجل رباني وأدبني لكنني تبعتُ حسين مردان وتركته :
هذا أنا رجلُ الضباب ومنْ لهُ
في كُلِّ موبقةٍ حديثٌ يُذْكَرُ
[email protected]
http://www.youtube.com/watch?v=e_VXcOAZxdw
#أسعد_البصري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
التأويل
-
أنكيدو
-
أسكبُ كلامي في قلبكِ المفطور
-
كأنّ بنيهم عالمون بأنّني
-
الكاتب من عزلته
-
نساء البصرة
-
حسن العلوي وأشياء أخرى -ألسعودية 3
-
العراق الأمريكي لن يثور ولن يصبح عراقياً
-
حسن العلوي و أشياء أخرى - 2
-
حسن العلوي وأشياء أخرى
-
دعاء خبيث
-
فجر أوديسة و أفول الشرق
-
أحمد عبد الحسين
-
قرار مجلس الأمن ضد ليبيا ١٩٧٣
-
قضاء الكتابة وقدرنا
-
قراءة تحاور قراءة تمارة فريد لنجيب محفوظ
-
ألندم
-
سجالات
-
وطني كلبٌ مسعور
-
ضَحِكٌ و رثاءْ
المزيد.....
-
الملك تشارلز يخرج عن التقاليد بفيلم وثائقي جديد ينقل رسالته
...
-
شائعات عن طرد كاني ويست وبيانكا سينسوري من حفل غرامي!
-
آداب المجالس.. كيف استقبل الخلفاء العباسيون ضيوفهم؟
-
هل أجبرها على التعري كما ولدتها أمها أمام الكاميرات؟.. أوامر
...
-
شباب كوبا يحتشدون في هافانا للاحتفال بثقافة الغرب المتوحش
-
لندن تحتفي برأس السنة القمرية بعروض راقصة وموسيقية حاشدة
-
وفاة بطلة مسلسل -لعبة الحبار- Squid Game بعد معاناة مع المرض
...
-
الفلسفة في خدمة الدراما.. استلهام أسطورة سيزيف بين كامو والس
...
-
رابطة المؤلفين الأميركية تطلق مبادرة لحماية الأصالة الأدبية
...
-
توجه حكومي لإطلاق مشروع المدينة الثقافية في عكركوف التاريخية
...
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|