|
سايكولوجيا الفساد في العراق
دينا الطائي
الحوار المتمدن-العدد: 3403 - 2011 / 6 / 21 - 23:23
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
كنا نأمل أن التغيير في أمتنا العراقية - الذي حدث عام 2003 - هو إسقاط النظام والفساد معا .. لكن ما حدث في الحقيقة أن الفساد سيكولوجيا أصبح مقبولا ولا يشكل اختلالا للوضع النفسي للشخصية العراقية كما يشكله في حقب سابقة .. واتسعت رقعة قبول الفساد المالي اجتماعيا وهذه هي الحلقة الأخطر في المجتمع العراقي كونها ظاهرة طرأت عليه دون استئذان. وإذا أحببنا العودة للوراء .
فمنذ حقبة الثمانينيات من القرن الماضي .. كانت المؤسسة العسكرية حافلة بدفع الرشاوى والهدايا لآمري هذه المؤسسة من قبل المجندين ميسوري الحال مقابل الحفاظ على حياتهم أو الحصول على إجازة .. و حدا ببعض ضباط و قادة عسكريين بالتوسط لمنحهم أوسمة شجاعة مقابل رشا مالية لما فيها من عوائد ضخمة وأراضي .. خلقت منهم فئة فاحشة الثراء .. أدت لتوليد شعورا بالحيف لدى الآخرين من الضباط والجنود .. فبادروا لاسترداد حقهم ــ حسب زعمهم ــ من الدولة بالرشوة والاختلاس .. نجم عنها ما يسمى بالتطبيع السيكولوجي الذي مهد لقبول هذه الظاهرة.
أما حقبة التسعينيات من القرن الماضي .. من منا ينسى أن كثيرا من أساتذة الجامعات وكذلك المدرسين اضطروا للعمل كسائقي أجرة ووصل بالبعض فتح ( جنبر ) لبيع السجائر .. وجاء تدريجيا ليستشري الفساد ويدخل المؤسسات التعليمية التربوية عبر تسريب الأسئلة أو بيعها ومنح الدرجات والشهادات الدراسية بشكل جزافي أدت لحصول المئات على درجة الدكتوراه والماجستير بشكل يثير السخرية وسقطت النخبة التي كان على عاتقها الحفاظ على تقاليد هاتين المؤسستين الحيويتين .. مما حدا بمنظمة اليونسكو إلى أن تشير إلى اختلال التعليم في العراق آنذاك وبذلك الفساد تلوثت الضمائر الفتية وتم تهيئتها لمرحلة القبول .. لينتقل التطبيع النفسي الذي كان في صراع مع ترويض الضمير لسنوات عدة .. حتى أوجد الفساد بعد سقوط النظام عام 2003 المبرر النفسي لتواجده لثمان سنوات أخرى .. أي إلى وقتنا الحالي .
وجاء التغيير ولتظهر فئة الحواسم من محرومين وعاطلين وممن فقد الأمل بمستقبله وبنفسه نتيجة الأوضاع المتردية وفئة جاءت مع السلطة لتمارس النهب المنظم عبر عقود ومناقصات او مزايدات وهمية وانتقل الفساد من عمليات النهب العام الى السرقة والنهب المنظم للمال العام لنشهد طبقة جديدة من الأثرياء كانت فبل شهور معدودة طبقة معدومة وسادت في المجتمع عموما نغمة السكوت والاستساغة لهذه الظاهرة بلغت حدا غريبا من التباهي وعدم كتمان أسرار تكوين الثروة .
ومن هنا تعطل الضمير والوازع الأخلاقي تعطيلا مخيفا .. بحيث أدى لظهور المبررات السيكولوجية التي جاءت نتيجة التطبيع السيكولوجي الجديد مع ظاهرة كانت مع وجودها تمارس بنوع من الاستحياء والكتمان .. فتعددت .
و أولى هذه المبررات الحرمان و القلق من المستقبل وعدم الاطمئنان إلى ما يكفل الحقوق أو إلى منظومة ممكن أن ترعى ذلك .. ونلحظ هذا المبرر استشرى في الثلاث الأعوام الأولى ما بعد التغيير في 2003 .. وكمثال نلحظ أن برلمانيين و مسؤولين ومتعاقدين مع الحكومة .. اعتبروا وجودهم في السلطة هو فرصة يجب عليهم استغلالها لتأمين مستقبل أسهرهم .. وبممارسة تلك السلطة .. إنتشر الفساد واستشرى بشكل غير مسبوق .
وبعد الأحداث الدامية في 2005 و2006 و2007 وخلالها .. تعمقت المحاصصة الطائفية .. فأنتجت لنا مبرر سيكولوجي جديد يستند أيضا الى القلق من المستقبل .. فشاعت ظاهرة سيكولوجية جديدة هي سيكولوجية الاحتماء .. حيث لجأ الفاسدون إلى الاحتماء بطائفتهم وحزبهم الطائفي .. وهذه الظاهرة دفعت الكثير الى سرقة المال العام .. وبوجود تلك المحاصصة المقيتة .. ووجود قوى مختلفة في السلطة .. أدت هذه الظاهرة لظهور ظاهرة أخرى لنسميها إسكت وأنا أسكت . هذه الظاهرة الوليدة منحت هؤلاء المفسدين شعورا بالأمان النفسي .. وبذلك تصدر العراق رابع مرتبة في العالم من حيث الفساد .
وبسكوت الحكومات المتعاقبة منذ عام 2003 وحتى وقتنا الحالي عن محاسبة الفاسدين .. ولجوء القوى السياسية لتبادل التهم .. وغياب رجال الدين وسكوتهم المريب .. جعل المجتمع يفتقد لمن يقتدي به بالنزاهة والنقاء وبذلك أصبح الموظف البسيط يرمي بضميره عرض الحائط ..
قائلا ( الكل يبوك وينهب ) فأنا لست بأحسن منهم .. وإن الله غفور رحيم !! .. وحتى في حال توجيه التهم للكبار بالفساد .. وخاصة في حلبات الاستجواب .. نلحظ قدرة هؤلاء من الالتفاف على القوانين والنجاة في النهاية من سحب الثقة أو الإحالة إلى القضاء .. لن الأمر حقيقة لا يتعدى المساومات السياسية والمناورات الكلامية وحيل استنطاق القوانين والحصول على تعديلات في القوانين والقرارات .. وهي تعديلات تسعى لتكييف حالات الفساد وشرعنتها استجابة لطلبات الفاسدين .
وأحيانا تكون أجراس إنذار الفساد التي تنطلق هي حقيقة لإنتاج تعليمات تمنح ممارسات الفساد أغطية قانونية .. كل ذلك الفساد يدخل تحت مسمى سيكولوجية الاحتماء ( وإسكت وأن أسكت ) . . وبذلك صار الفاسد يقول لخصومه بالفم الملآن من كان منكم غير فاسد فليرمني بحجر .. لتصبح اليوم هي قاعدة عامة لجميع القوى السياسية وحتى المجتمع بمكوناته التي عاثت فسادا ولازالت .
إن تفاعل تلك المبررات السيكولوجية على مدى ثلاثين سنة أفرز نتيجة سيكولوجية مفادها أن المجتمع يضطر اليوم إلى قبول أو غض الطرف عن سلوك كان يرفضه .. ويجد نفسه غير قادر على تغييره .. فأنتشر الفساد مع مبررات وإسقاطات وتعطل الضمير .. وبذلك شاعت ظاهرة الفساد بشكل سيكولوجي وتناغم اجتماعي خطير . اذن نحن أمام عملية إنتاج لتقاليد فساد عراقية جديدة .. وهي تقاليد لم تبقي للدولة أثر .. وهمشت المجتمع .. كما أنها قوضت شرعية العملية السياسية والخوف يتزايد بازدياد المتورطين بالفساد .. بل إن خللا كبيرا وفراغا مهولا سيصيبان الدولة العراقية والآمة العراقية ككل لو لم تتخذ إجراءات حقيقية لمواجهة الفساد .
لأن لا نصائح ولا مواعظ ستفي بالغرض ولن توقظ الضمير .. لأن الضمير اليوم في أمتنا العراقية توقف فيه نبض الحلال والحرام .. و لن يعاد نبضه الا برجّة كهربائية. والرجّة التي أقصدها .. تكون بنظام رقابي وعبر آليات وإجراءات إدارية حازمة ودقيقة تعمل على كشف ملفات الفساد دون خوف و تشكيل محكمة من قضاة مستقلين تبدأ بمحاسبة الحيتان الكبيرة .. يأخذ فيها كل فاسد ومفسد جزاءه بالعدل .. وبذلك نسترد المال .. بل الضمير الذي تهرّأ .
يتبع ...
21 حزيران 2011 دينا الطائي سعدون جابر
للتواصل والاستفسار .. روابط مجاميعنا هي :-
1- اللجنة المبادرة لمشـروع الأمــة العــراقية http://www.facebook.com/group.php?gid=28388261895
2- أرشيف الأمــة العــراقية http://www.facebook.com/pages/أرشــيف-الأمــة-العـــراقيـة/214893651869953
3- المنبر الثوري الحر .. خاص للحوار والنقاش بواقع الأمة العراقية الحالي http://www.facebook.com/home.php?sk=group_153556588032181&ap=1
4- مجموعة الأمــة العــراقية .. لنعتز بهويتنا العراقية أولا للبحوث والدراسات والحوارات الجادة http://www.facebook.com/home.php?sk=group_196331113736733&ap=1
5- موقع الأمــة العــراقـية على تويتــر https://twitter.com/Iraqi_Nation
6- قناة الأمــة العــراقية على اليوتيوب http://www.youtube.com/IraqiNation1
7- بريدنا الألكتروني [email protected]
#دينا_الطائي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ردا على الحوار الدائر حول مقال الأستاذ سعدون جابر ( تنفيذ حك
...
-
حوار القلق في حضرة الحب
-
بيان (7) يدين المنشورات التحريضية التي تهدد الصابئة المندائي
...
-
غيبوبة عشق .. لا تفيق
-
بيان (6) حول إعتقال شباب التحرير الأربعة صادر عن اللجنة المب
...
-
دهشة في حنايا الحروف
-
ساحة التحرير .. والصعود الى الهاوية
-
بيان (5) عن توجهاتنا الحقيقة .. سليم مطر مثالا .. صادر عن ال
...
-
الأمة العراقية .. إرادة أم حلم !!
-
بيان (4) هام صادر عن اللجنة المبادرة لمشروع الأمة العراقية
-
إنتظار على إمتداد وجهك البحري
-
الأمة العراقية وسيكولوجية الفرد العراقي
-
بيان (2) صادر عن شباب الأمة العراقية
-
بيان (1) صادر عن شباب الأمة العراقية
-
الأهداب المرتجفة
-
هذا حال صديقي ..
-
خريفي الأبدي
-
جدلية العشق الأبدي
-
لرجل أربعيني !!
-
عتبي على وطني
المزيد.....
-
إسرائيل توسع عملياتها في الضفة الغربية والسلطة الفلسطينية تت
...
-
-هجوم- أوروبي مضاد في وجه أطماع ترامب التوسعية
-
السجن 14 عامًا لجندي بريطاني سابق مُدان بالتجسس لصالح إيران
...
-
كيف وقع حادث اصطدام الطائرة والمروحية في واشنطن؟ - بي بي سي
...
-
حرب -لا رابح- فيها... أوروبا تتوحد سياسة ترامب الجمركية
-
الاستخبارات الروسية: -الناتو- يستعد لحملة تشويه بزيلينسكي
-
-حماس- تعلق على إمكانية عودة إسرائيل إلى الحرب في قطاع غزة
-
رسميا.. جورجيا تسحب وفدها من الجمعية البرلمانية الأوروبية
-
ملتقى سلطنة عمان للسياحة يدعو لتفعيل التأشيرة السياحية الخلي
...
-
مبادرة المشري وتكالة.. هل تضع حدا لانقسام مجلس الدولة في ليب
...
المزيد.....
-
حوار مع صديقي الشات (ج ب ت)
/ أحمد التاوتي
-
قتل الأب عند دوستويفسكي
/ محمود الصباغ
-
العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا
...
/ محمد احمد الغريب عبدربه
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
المزيد.....
|