|
على ضوء الأحداث (2)
وفاء سلطان
الحوار المتمدن-العدد: 3388 - 2011 / 6 / 6 - 08:56
المحور:
التربية والتعليم والبحث العلمي
إذن، القهر المتراكم عبر عقود من الحرمان والجوع والظلم قد أينع وحان الوقت لأن ينفجر ويبقى السؤال: من استطاع أن يقنع تلك الجماهير، التي هي في الأصل خاملة وغير مبالية، بضرورة أن تثور، علما بأنك من الصعب أن تجد فيها شخصين متفقين على قناعة واحدة؟!!!
**************** الجواب: لا أحد استطاع، ولن يستطيع، إلا في حالة واحدة ألا وهي تهييج مشاعر الكره ضد عدو مشترك! الأمر لا يتعلق بالحركات الجماهيرية التي نراها اليوم في العالم العربي وحسب، وإنما يتعلق بأية حركة جماهيرية قامت وستقوم عبر التاريخ. لم يُثار شعب في العالم إلا من خلال إحساسه بالكره تجاه عدو مشترك. الكره، كعاطفية بشرية، يستطيع أن يلعب دورا كبيرا كعامل موحد، و يجب أن يوجه ضد عدو واحد ـ لا شريك له ـ كي ينجح في أداء تلك المهمة! الحب، بعكس الكره، يصعب أن يوحد! في أغلب لغات العالم يوجد صفة للشخص الذي ينافس آخرا على الحبيب الواحد، تقابل في العربية صفة "غريم". لكن لا توجد تلك الصفة لمن ينافس آخرا في كرهه لعدو مشترك، بل على العكس أن من المتعارف عليه القاعدة العامة "عدو عدوي صديقي"! إذن، من المألوف عندما ينافسك أحد على كره عدو مشترك، أن تعتبره صديقا وليس غريما، الأمر الذي يوحدك مع هذا "الصديق". وكلما اشتدت حدة الكره ضد عدو مشترك كلما ازداد قدرة على توحيد الناس فالإنسان لا يبحث عموما عن من ينافسه على محبوبه، بل يبحث ـ بلا ملل أو كلل ـ عمن يشاركه في كره عدوه. وكما يؤمن الناس بوحدانية الإله يؤمنون بوحدانية الشيطان لذلك يحاولون أن يوصموا عدوهم بأنه الشيطان الأوحد الذي لا ثاني له، وفي معظم الحالات يعتبرون ذلك الشيطان غريبا عنهم، ويؤكدون على كونه أجنبيا، كي ينفوا إنتمائه لنفس الوطن أو العقيدة التي يتنتمون له بغية النجاح في تأجيج مشاعر الكره ضده. كان هتلر يطلق على يهود ألمانيا اسم "الأجانب" كما اتهم أتباع الثورة الروسية الطبقة الارستقراطية في روسيا باصولها الفرنجية والتتارية والغربية. أثناء الثورة الفرنسية اعتبر الثوار الارستقراطيين في فرنسا من اصول البربر الألمان، بينما بقية الشعب تنحدر من الغولس والرومان المتحضرين. كذلك اعتبرت الثورة البروتستانتية في انكلترا طبقة الملوك من أنها تنحدر مما يُطلق عليهم "النورمانز" وهم الذين ينحدرون من الغزاة الأجانب. في سوريا يطلق بعض السنة على العلويين اسم "الألمان"، وعندما تسألهم عن السبب يقولون مازحين "لأنهم يشبهون الألمان" محاولين بذلك تجريدهم من انتمائهم الوطني، وكذلك يتهم الديكتاتور السوري وزبانيته اليوم الحركة الجماهيرية بأنها مؤامرة خارجية. في العراق اُتهم صدام بأنه يجلب السنة من غير العراقيين لخلق توازن ديموغرافي مع الأكثرية الشيعية. في لبنان يُتهم حزب الله بأنه حركة ايرانية، وكذلك الحركة الجماهيرية في البحرين، بينما في ايران تُتهم الأقلية السنية في الأهواز بموالاتها للسعودية، وهكذا دوالييك لأنه عندما يُتهم "الآخر" باصوله الأجنبية، يَسهل تأجيج مشاعر الكره ضده، ويساهم الأمر في إقناع الأغلبية بتجاوز خلافاتها والتوحد لمقاومته. عبقرية أي قائد عظيم عبر التاريخ انحصرت في تركيزه على عدو واحد مشترك، لأنه بذلك خفف من حدة الخلافات بين أتباعه، وضمن ولائهم الشديد له. ………….. هنا يواجهنا سؤال آخر: ما الذي يؤجج مشاعر الكره، وما الذي يزيد من حدة تلك المشاعر؟ ……….. قبل أن اُجيب على هذا السؤال، بودي أن اوضح بأننا لا نستطيع أن نتفاعل مع أية ظاهرة مالم نعرف الأسباب المباشرة وغير المباشرة لتلك الظاهرة. دراسة الأسباب خطوة غير معروفة، وقد لا تكون مقبولة لدى الإنسان العربي ، لأنه اعتاد أن يحكم على الأمور بناءا على ما يرغد ويزبد فوق السطح، متجاهلا أن جذر أية مشكلة يغوص دائما في العمق، وبأن البحث عنه عملية شاقة، لكنها تزيد من قدرته على إيجاد حل لتلك المشكلة! في تاريخنا ـ ويهمني منه المعاصر ـ لم نستطع أن نحل مشكلة واحدة، بما فيها وأبسطها نظافة مراحيضنا، لأننا لم نتعلم يوما كيف نتوصل إلى جذر المشكلة. أحد القراء، والكارثة أنه طبيب، رد على استخدامي لتجربة عالم النفس على الكلب، والتي ذكرتها في سياق شرحي المفصل للمعنى السياكولوجي لمفهوم الإجباط، رد بقوله مستهزءا: ومتى ستتحدثين لنا عن الصراصير؟ لقد عبر عن استيائه لوصفي الأمة الإسلامية بأنها منكوبة عقليا ونفسيا، دون أن يدري بأنني لا أملك برهانا على ماقلت أقوى من رده هذا. في أعقاب هبوط أول مركبة فضائية سوفياتية على سطح القمر عام 1959، يحكى أن المسؤول العام عن التعليم في أمريكا كان قد صرح: يبدو أن خللا ما يوجد في مناهجنا الإبتدائية، والذي يكمن وراء تفوق الروس علينا فضائيا! تصورا لو خرج عالم فضاء أمريكي آ نذاك، ورد على مسؤول التعليم بقوله مستهزءا: متى ستتحدث لنا عن مارلين مونرو ـ على سبيل المثال ـ كسبب لتفوق السوفيات علينا فضائيا؟ بالتأكيد، لم يطل الأمر حتى تفوق الأمريكان على السوفيات، وانزلوا بعد عشر سنوات من ذلك الحدث (المدة الكافية لخلق جيل جديد) أول إنسان على سطح القمر، ربما لأنهم أعادوا النظر في مناهجهم الإبتدائية! في اوائل الثمانينيات سافر زوجي ضمن بعثة من اساتذة كلية الهندسة الزراعية إلى بريطانيا، للإشتراك في دورة تدريبية تشرح أصول التدريس الحديث مدتها أربعة أشهر. في أول يوم قام الدكتور البريطاني المسؤول عن البعثة بأخذهم إلى أحد الحقول لدراسة ظاهرة الأزهار البرية. طلب من كل منهم أن يقوم بعد الأزهار الموجودة في متر مربع ثم ضرب الناتج بمساحة الحقل الكلية لتقدير عدد الأزهار الإجمالي. هاج وماج أعضاء البعثة متهمين الدكتور البريطاني بالتآمر عليهم لإضاعة وقتهم الثمين في أمور ليس من ورائها إلا العبث، فهم "حملة شهادات عليا" وهذا الأمر ليس إلا استخفافا بقدراتهم العلمية، وظلوا متمسكين بنظرية "المؤامرة" حتى عادوا إلى سوريا بخفي حنين! ولذلك، تطفو اليوم سوريا على بحر من الأزهار، بينما تصحر كل شيء في بريطانيا لعجز البريطانين عن تقدير قيمة الوقت (!!!) لنفس السبب، قد يرى بعض القراء في دراستي لأسباب ظاهرة الحركات الجماهيرية مضيعة للوقت، ليس هذا وحسب، بل وسيرون فيه مؤازرتي للديكتاتور السوري على أساس طائفي محض! لا يهم، كل ما يهمني أن أزرع حقلا، لا أن أرضي ذقنا! بعد جيل أو جيلين سينسى الناس إلى أية طائفة تنتمي وفاء سلطان، وستبقى رائحة الأزهار التي غرستها تملئ رحاب الوطن. ………… نعود هنا إلى السؤال السابق: ما الذي يؤجج مشاعر الكره، وما الذي يزيد من حدة تلك المشاعر؟! قد يكره الإنسان إنسانا آخر، لأنه أساء معاملته أو اتخذ موقفا سلبيا منه. لكن التطرف في الكره ـ كما هو الحال في أية عاطفة بشرية سواء كانت سلبية أم إيجابية ـ يعكس أسبابا أكثر عمقا. طبعا، يخيل إلينا أن هذه الجموع الثائرة يوحدها كرهها للطغمة الحاكمة والتي أساءت معاملتها. لكن، لا نستطيع تفسير الكثير من سلوكيات تلك الجموع بناء على كرهها للطاغية فقط، كما ولا نستطيع تفسير سلوكيات الدكتاتور وطغمته بناء على مشاعره تجاه تلك الحركات فقط! الكره في حيز الوعي له أسبابه، والتي هي سوء المعاملة، ولكن عندما يتجاوز الحد المعقول ويؤدي إلى نتائج ضارة وغير متوقعة، يعكس أسبابه الخفية والتي تقبع في اللاوعي. كلنا متفقون على أن فساد الطغمة الحاكمة كان السبب المباشر وراء تلك الجموع الثائرة، ولكن السبب غير المباشر أعمق بكثير. فالأسباب غير المباشرة والكامنة في اللاوعي هي المحرك الأقوى ، وهي دون سواها تفسر الكثير من الظواهر التي لا يستطع كره الشعب للطاغية وحده أن يفسرها. لا يتفاقم كره الإنسان للآخر ـ مهما كان السبب ـ إلى هذا الحد إلا عندما يخفي ورائه كره الإنسان لنفسه! الضغوط النفسية التي يسببها كره الإنسان لذاته أعلى بكثير من تلك التي يسببها كرهه للآخر. وفي محاولة للتخفيف من حدة تلك الضغوط يلجأ الإنسان ـ وفي اللاوعي عنده ـ لأن يستبدل مشاعر كره لنفسه بكرهه لغيره! حتى في الحالات التي تكره فيها شخصا أو حالة ما لسبب مقنع، ولنقل (سوء معاملته لك، و سوء وضعك عموما)، عندما تطرف في كرهك، لا بد أن تطرفك يخفي في بعض جوانبه كرهك لنفسك! يقودنا هذا الجواب إلى سؤال آخر: لماذا يكره الإنسان نفسه؟!! لأسباب تعد ولا تحصى، ولكن أهمها على الإطلاق: هو إحساسه بعقدة الذنب لقيامه ـ أو لعدم قيامه ـ بعمل ما! الندم يدفع الإنسان لأن يكره ذاته، ويتفاقم ذلك الكره كلما تفاقم إحساسه بعقدة الذنب، حتى يصل إلى درجة يضطر عندها الإنسان أن يدفن مشاعر كرهه لنفسه في حيز اللاوعي عنده ويستبدلها في حيز وعيه بكرهه لشخص آخر . على ضوء تلك الحقائق، وعلى ضوء ما يحدث اليوم، ومن خلال نظرة سريعة على التاريخ الإسلامي عموما والتاريخ العربي خصوصا، نستطيع أن نتبين أنه لم تبخل التعاليم الإسلامية إطلاقا في تأجيج مشاعر الكره ضد الذات، ناهيك عن ضد الآخر! قد يكون لكل بلد أسبابه المباشرة والتي تقف وراء حركته الجماهيرية، لكن ليس هناك أي شك من أن الكره (للذات) التي سببته تلك التعاليم ومازالت تسببه هو السبب غير المباشر والأقوى، الذي يستقر في عمق اللاوعي عند الإنسان المسلم، والعربي على وجه التحديد! ………….. كيف استطاعت العقيدة الإسلامية أن تثير مشاعر الكره ضد الذات؟ من المؤكد أنه كلما ازدادت العقيدة ـ أية عقيدة ـ تعظيما لقدسيتها، كلما ازداد إحساس الناس الذين يتبعونها بعقدة الذنب، لماذا؟!! لأن الإنسان، وأمام تلك العظمة والقدسية، يشعر بعجزه البشري عن القيام بواجبه تجاهها، الأمر الذي يعزز إحساسه بالذنب وبالتالي إحساسه بكرهه لذاته. كل دين وكل عقيدة تدعي احتكارها للحقيقة، ولكن الإسلام يتفوق على كل الأديان والعقائد الأخرى في درجة تعظيمه لذاته، وفي قدرته على إقناع أتباعه بدرجة تلك العظمة. لقد لمست ذلك شخصيا من خلال الأخذ والرد بيني وبين قرائي من المسلمين، إذ تكاد لا تخلو رسالة من مسلم، من تأكيد على أن (المسلمين مقصرون حيال دينهم العظيم، وتقصيرهم لعب الدور الوحيد في تخلفهم) إيمانهم بتقصيرهم يأجج إحساسهم بعقدة الذنب، وبالتالي إحساسهم بكرهم لذاتهم. لذلك، وكأي إنسان آخر، يحاول المسلم أن يدفن مشاعر كرهه لذاته في حيز اللاوعي عنده، كي لا تعذبه تلك المشاعر، ويستعيض عنها بمشاعر كرهه لغيره. لا أعتقد بأن أي مشارك في تلك الحركات يكره "عدوه الاوحد" والمتمثل في الديكتاتور أكثر مما يكره ذاته، ليقينه المطلق من أن الحالة التي وصل إليها هي نتيجة حتمية لتقصيره حيال عقيدته، وليس للقوة الطاغية التي يملكها ذلك الديكتاتور. ………. من المعروف أن من أكثر النقاط سوداوية في التاريخ المسيحي هي فضائح "صكوك الغفران"، التي كان رجال الدين المسيحي يبعونها لأتباع المسيحية في القرون الوسطى، ويمنحونهم بومجبها غفرانا لذنوبهم الدنيوية، وبالتالي يضمون لهم مكانا في الجنة. سلوكهم هذا، كان استغلالا منهم لفكرة "الإعتراف بالذنب" من قبل الإنسان المذنب أمام رجل الدين وطلبه للغفران السماوي، تلك الفكرة التي تنطوي عليها العقيدة المسيحية. وبغض النظر عن الأمور الغيبية والتي تتعلق بالدين، أي دين، إذا حاولنا أن نقرأ تلك الفكرة سيكولوجيا، استطيع أن أعتبرها من أهم الأسباب التي تلعب دورا في بناء شخصية الإنسان المسيحي ليكون أقل إحساسا بالذنب عندما يتعلق الأمر بقيامه بواجباته الدينية، وبالتالي أقل كرها لذاته من نظيره المسلم! الأمر الذي يخفف بدوره من كراهية المسيحي لغيره! سيكولوجيا، يحتاج الإنسان لأن يتحرر من إحساسه بعقدة الذنب بين الحين والآخر، كي يضمن قدرته على قبوله لنفسه، وبالتالي كي يتصالح مع تلك النفس! الإنسان الذي يتصالح مع نفسه، لا يجد حاجة لأن يكره غيره، إذ أن كل أشكال الكره (المبرر منه وغير المبرر) وعندما تتجاوز حدا ما، تعود في باطن اللاوعي إلى سبب واحد، ألا وهو كره الإنسان لنفسه! لذلك، من أسوأ العقد النفسية التي تهيمن على المسلم هو تضخيمه المبالغ فيه لقدسية وعظمة تعاليمه، وبالتالي إحساسه بعجزه وتقصيره تجاه الإلتزام بتلك التعاليم! هل قابلت في حياتك مسلما، إلا ـ بشكل أو بآخر ومهما كان ملتزما بتعاليم دينه ـ عبر لك عن إحساسه بعقدة الذنب تجاه تقصيره عن القيام بواجباته الدينية على أتم وجه؟!! عقدة الذنب، التي يسببها إحساسه بتقصيره حيال تعاليمه، هي وحدها السر وراء فشل المسلم في أن يتصالح مع نفسه، الأمر الذي يقضي على مكامن القوة في تلك النفس. وكتحصيل حاصل لكرهه لذاته، يفشل المسلم في أن يتصالح مع غيره، الأمر الذي يجنبه فوائد العلاقات الجيدة مع ذلك الغير! أذكر في طفولتنا كيف كان كبارونا يستهزأون من عادة "الإعتراف بالذنب" لرجل الدين عند المسيحيين، وكان يقولون بالحرف "المسيحي يرتكب الفواحش ثم يذهب إلى رجل دينه فيمحيها له"! لكنني لا أعتقد بأن المسيحي يرتكب الفواحش بمعدل أعلى من المسلم، أو من أي رجل في أي دين آخر، إنها الطبيعة البشرية (الأمارة بالسوء) التي تجدها في كل دين ولدى كل قوم، ولكن عندما يعترف المسيحي لرجل دينه بتقصيره حيال أمر ما، يساعده هذا الإعتراف على أن يتحرر من عقدة الذنب، وبالتالي على أن يتصالح مع نفسه ويصبح أكثر قدرة على قبول ذاته وقبول غيره. أرجو أن يؤخذ بعين الإعتبار، أنني أتكلم هنا عن الشخصية الجمعية وبشكل عام، إذ قد يجد أي شخص من أي دين من الأسباب ما يكفيه ليكره ذاته، وبالتالي ليكره غيره! …………… لم تستطع حركة جماهيرية عبر التاريخ البشري أن تنشأ إلا بعد أن استطاع القائمون عليها من إيجاد عدو مشترك، واستطاعوا ايضا تأجيج مشاعر الكره ضد ذلك العدو، الأمر الذي ساهم في توحيدهم. لا يحتاج القائمون على الحركات الجماهيرية التي نراها تجتاح العالم العربي اليوم، لا يحتاجون إلى جهود كبيرة من أجل تأجيج ذلك الكره وإشعال فتيله، فلقد تراكم عبر أربعة عشر قرنا، وهو اليوم أكثر حدة من أي وقت مضى. في كتابه The True Believer يختصر المفكر الأمريكي Eric Hoffer كل ما يمكن أن نتوصل إليه يخصوص الحركات الجماهيرية في عبارة واحدة: "صاحب الكلمة يحضر لها، والمتطرف يشعلها، والعامل ـ بما فيه رجل السياسية يقطف ثمارها" وبناء على ذلك، تمر الحركة الجماهرية بثلاثة مراحل: ـ مرحلة التحضير ـ مرحلة الإشتعال ـ مرحلة قطف الثمار ويؤكد السيد هوفر على أنه عندما يلعب أي منهم دور الآخر تتحول الحركة الجماهيرية إلى كارثة. أي: لا يجوز لصاحب الكلمة أن يكون متطرفا ولا سياسيا، ولا يجوز للمتطرف أن يكون صاحب الكلمة أو السياسي، ولا يجوز للسياسي أن يكون صاحب الكلمة أو المتطرف. بالنظر إلى ما يجري في العالم العربي اليوم نرى بأن المتطرف هو الذي حضر لها، وهو الذي أشعلها، وهو الذي يتربص كي ينقض على ثمارها لو كتب لها أن تنجح! لقد افتقرت المرحلة التحضيرية لتلك الحركات إلى صاحب الكلمة ذي الفكر الحقيقي والنظيف، وتفتقر اليوم إلى السياسي البارع والجاهز ليستلم مقاليد السلطة ويصل بأتباع تلك الحركة إلى تحقيق أهدافهم، لكنها لم تفتقريوما إلى المتطرف الذي نحتاج إليه كي يشعلها. لقد لعب المتطرف دور صاحب الكلمة، وكل المؤشرات تدل على أنه سيلعب دور السياسي في المستقبل، ولذلك لا أتوقع أن تأتي تلك الحركات بواقع أفضل مما نعيشه اليوم تحت قبضة الديكتاتور! في المرحلة التي حضرت لتلك الحركات كان رجل الدين المتطرف هو صاحب الكلمة المطلق، وله دون غيره حرية الكلمة وصهوة الإعلام! امتطى تلك الصهوة بلا منازع وبتفويض مطلق من الديكتاتور، أملا في أن يكف النظر عما يفعله هذا الديكتاتور، الأمر الذي أدى إلى تخريب عقول الأغلبية من عامة الناس. ………………… أحد وأهم العوامل التي تدعو إلى التطرف هو غياب الحرية. عندما يُسلب الإنسان حريته يتحكم الخوف بمواقفه، ويصبح مشتت الذهن، الأمر الذي يدفعه لأن يقفز من أقسى اليمين إلى أقسى اليسارخلال رفة جفن. في اللاوعي عند ذلك الإنسان يجمع بين النقيضين، لأنه ـ وفي ساحة وعيه ـ ليس حرا كي يختار بينهما بلا خوف. في نظرة المسلم للحياة لا يوجد سوى طيفان الأبيض والأسود، ولا شيء بينهما. هو متطرف في كل شيء، وتطرفه يقوده إلى حالة من الصراع، ليس بينه وبين الغير وحسب، بل بينه وبين نفسه! تراه يجمع بين النقيض ونقيضه بطريقة لا يقبلها عقل أو منطق. أسباب تلك الظاهرة كثيرة، ولكنني أرجح غياب مفهوم الحرية من ثقافته كسبب أولي ورئيسي! هذا الوضع ينعكس على كل مواقفه! لقد حاول الكثيرون تفسير تلك الظاهرة لدى الإنسان المسلم والعربي على وجه التحديد. البعض ردها إلى التطرف في الطبيعة الصحراوية التي عاش فيها المسلم. فالسيد ليون غوثير، الناقد والمؤرخ الفرنسي الذي عاش في القرن التاسع عشر، يقول: (في الصحراء العربية المركزية يأتي صيف حارق ويتبعه شتاء قارس، وحتى في اليوم الواحد يأتي نهار حارق ليتبعه ليل قارس) ويتابع قوله: (هذا التطرف تراه أيضا ليس في الروح العربية وحسب، بل أيضا في الثقافة العربية ككل) ثم يذهب أبعد من ذلك فيقول في وصفه للعربي: (هو هادئ إلى حد اللامبالاة، لكنه قد يثور في دقيقة إلى حد العنف. كريم بلا حدود وبخيل إلى حد الشح. مضياف إلى حد المبالغة ومقتر إلى حد الجنون. لا يوجد مرحلة انتقالية بين السلوكين!) ويؤكد السيد غوثير على أن هذا التطرف في الموقف يسيطر على عواطف وعلى أفكار العربي معا! السيدة وينيفرد بلاكمان، التي عاشت سنوات طويلة في إحدى قرى الصعيد المصري، كتبت تقول: (أكثر الصفات تناقضا والتي قد توجد في شخصية الإنسان، يمكن أن تجدها في الشخص الواحد لدى الفلاحين المصرين، إذ تراه مخلوقا غاية في اللطافة، بشوشا جدا، لديه سرعة البديهة وروح النكتة، حاد الذاكرة طيب القلب ومضياف، ويشتغل بجد.) وتتابع: (هذا جانب واحد من شخصيته، أما في الجانب الآخر فتراه إنسانا عاطفيا يثور بسرعة إلى حد الإشتعال، جاهل بصورة عامة، لا يستطيع السيطرة على نفسه وخصوصا عندما يحس بالغيرة، يغضب بعنف إلى الحد الذي قد يدفعه ليرتكب جريمة.) السيدة بلاكمان والسيد غوثير يردان هذا التطرف في المواقف إلى التطرف في الطبيعة الصحراوية التي يولد ويعيش فيها الإنسان العربي. لكنني شخصيا أرده ـ في بعض جوانبه ـ إلى الثقافة التي انفطر عليها هذا الإنسان والتي تجمع بين النقيض ونقيضه، وتجبر المسلم على أن يقبلهما معا في آن واحد كحقائق تتعاضد ولا تتعارض. هذا من جهة ومن جهة ثانية، إنه الخوف الذي تسربله به هذه الثقافة، والتي يجعله متذبذبا بين أكثر المواقف تناقضا، وتجعل من الصعب على المراقب أن يتنبأ بطبيعة ردة فعله من لحظة إلى أخرى! …….. لا يتطرف الإنسان إلا للأوهام، فالحقائق تثبت نفسها ولا تحتاج إلى من يتطرف لها.
كلما أدرك المتطرف من أن العقيدة التي يتطرف لها مجرد أوهام كلما ازداد تطرفه، وذلك في محاولة يائسة كي يثبت لنفسه عدم صحة مخاوفه. لا يمكن أن يتطرف الإنسان للحقائق لأنه لا يحتاج أن يفعل ذلك، فهي تفرض نفسها وتدافع عن وجودها. ولكنه يتطرف للفكرة التي لا يستطيع أن يثبت صحتها، و يعرف في أعماقه بأن هشة وبأن عليه أن يدافع عنها. كروية الأرض حقيقة علمية مثبتة، ولذلك لا يتطرف العلماء لتلك الفكرة ولا يدعو أحد منهم إلى قتل من لا يؤمن بها. هل رأيت في حياتك عالم فيزياء يدعو إلى قتل من لا يؤمن بقانون الجاذبية الأرضية؟ طبعا لا! ولكن تصور أن تشكك بقدرة محمد الجنسية التي تفوق قدرة أربعين رجلا، أمام شيخ وهابي مهووس بتعاليمه الإسلامية! عالم الفيزياء يعرف في غلالة نفسه بأن قانون الجاذبية يفرض نفسه في كل ما يحيط بنا من تكنولوجيا، ولا يشعر بحاجته لأن يدافع عنه ويبرهن عليه. الشيخ الوهابي ـ مهما بلغت درجة بلاهته وغبائه ـ يدرك في غلالة نفسه بأن قدرة محمد الجنسية لا تتجاوز كونها فكرة هشة لا يستطيع أن يبرهن عليها، ناهيك أن يثبت أخلاقيتها. وكلما ازداد يقينه من هشاشيتها كلما ازداد تطرفه لها، لماذا؟ لأن التطرف يعطيه إحساسا كاذبا بأنه لا أساس لمخاوفه من هشاشية أفكاره! هذا الإحساس الكاذب قصير العمر ولا يدوم طويلا، الأمر الذي يزيد من قناعة المتطرف على أن الفكرة التي يتطرف لها هشة، وخوفه من هشاشيتها يزيده تطرفا، وهكذا يبقى يدور في حلقة مفرغة. يفضل المتطرف أن يموت على أن يتخلى عن أوهامه، لأنه يرى في تلك الأوهام قيمة لحياته. خير من عبر عن تلك النقطة بوضوح، كان الشاعر الأمريكي ويستين هيو اودن: Wystan Hugh Auden والذي يعتبره البعض من أروع شعراء القرن التاسع عشر، بقصيدة رائعة فلسفيا ونفسيا: We would rather be ruined than changed We would rather die in our dread Than climb the cross of the present And let our illusions die نفضل أن نتحطم على أن نتغير… نفضل أن نموت ونحن نترقب بخوف… على أن نتسلق صليب الحاضر وندع أوهامنا تموت….. ……………… يكتب لي البعض ممن يحبني ويكرهني على حد سواء، من أن فضحي الإسلام بهذه الطريقة سيزيد الناس تطرفا. هل ما يقولون صحيح؟ ! الجواب: (نعم ولا) في آن واحد. طريقتي في فضح الإسلام تزيد المتطرف تطرفا لأنها تثبت صحة مخاوفه ـ والتي تستقر في عمق اللاوعي عنده ـ من أن الإسلام ليس سوى وهما، ولما تزداد مخاوفه يزداد تطرفه. ولكن، طريقتي تلك تساعد الإنسان الذي ينشد الحقيقة على أن يراها وعلى أن يكون أكثر جرأة لقبولها، وما أكثر هؤلاء الناس! التطرف سلوك مرضي، له أسبابه التي تكمن في النمط الفكري والتربوي، وليس من السهل أن تعالجه بمجرد الكتابة، فالمتطرف لا يقرأ إلا ما يعزز تطرفه. لذلك لم تكن غايتي يوما أن أخفف من حدة التطرف لدى شخص ، بل أن أقف بكتاباتي حائلا من أن يتطرف شخص آخر. لا يتم علاج المتطرف إلا بقلعه من البيئة التي ساهمت في تطرفه، ونقله إلى بيئة أخرى تساهم في فك الشيفرا العقائدية والتربوية التي سببت تطرفه، وإقناعه بعدم جدواها ثم استبدالها بأخرى أكثر إنسانية. إذن، الأمر يحتاج إلى خطة علاج كاملة تكون غايتها تغيير طريقة حياة وتفكير الشخص المتطرف، وهذا الأمر صعبا إن لم يكن مستحيلا! ………….. هناك حقيقة في غاية الأهمية تتعلق بطبيعة المتطرف والأسباب التي أدت إلى تطرفه، ألا وهي أن العلاقة التي تربط المتطرف بالعقيدة التي يتطرف لها هي أهم بالنسبة له بكثير من محتوى العقيدة التي يتطرف لها. تبدو الفكرة السابقة معقدة، لكنني سأحاول شرحها بالتبسيط. المتطرف لم يتطرف لعقيدته من باب شدة إيمانه بمحتوى تلك العقيدة، ولكن من منطلق حاجته إلى العلاقة المتطرفة التي تربطه بتلك العقيدة. لماذا؟ لا يتطرف الإنسان إلا عندما يفقد ثقته بنفسه، والألم النفسي الذي يسببه فقدانه لثقته بنفسه كبير جدا وقد لا يستطيع أن يتحمله. في محاولة للتخفيف من حدة هذا الألم، يبحث ذلك الإنسان في اللاوعي عنده عن فكرة أو عقيدة أو حتى شخص ما كي يضع ثقته به طالما لا يستطيع أن يضعها بنفسه! كلما ازدادت حدة رفضه لنفسه كلما ازداد حدة تعلقه بالفكرة أو العقيدة أو الشخص الذي استعاض به عن تلك النفس. كم مرة سمعت مسلما متطرفا يصيح: بروحي أفديك يا رسول الله! رسول الله يُفترض أن لا يحتاج إلى من يفديه بروحه، لكن الحقيقة أن ذلك المسلم المتطرف يحاول أن يستعيض عن كرهه لنفسه بحبه لرسوله، في محاولة يائسة للتخفيف من حدة ألمه النفسي حيال احتقاره لتلك النفس! في مقالة سابقة كنت قد تحدثت عن السيد عصام العطار الذي كان الرأس المخطط لجرائم الإخوان المسلمين في سوريا في أواخر السبيعنيات وأوائل الثمانينيات، وأشرت أيضا إلى أن السيدة نجاح العطار، التي هي أخته، كانت وزيرة الثقافة في سوريا ولاحقا نائبة الرئيس حافظ الأسد، ومن أكثر الذين استماتوا وتملقوا في مديحهم للأسد. وشرحت كيف تحول الأخ وأخته إلى متطرفين، وكل منهما يتطرف إلى جهة مغايرة تماما عن جهة الآخر. هو يتطرف للعقيدة الإسلامية، وهي تطرفت في مدحها لرئيسها. كلاهما عاشا في نفس البيئة والبيت وتعرضها لنفس الظروف التي ساهمت في تطرفهما، ولكن كل منهما تطرف عكس اتجاه الآخر. هذا يؤكد صحة ماورد سابقا، إذ ليس المهم ـ بالنسبة للمتطرف ـ الجهة التي يتطرف لها بقدر ما تهمه العلاقة التي تربطه بتلك الجهة، لأنها تخفف من حدة الألم النفسي حيال خسرانه لنفسه، بغض النظر عن طبيعة الجهة التي يتطرف لها. يُحكى أن معظم الضباط الألمان الذين كانوا متطرفين في ولائهم لهتلر، وبعد سقوط هتلر قد تحولوا إلى وعاظ دين متعصبين جدا لكاثوليكيتهم. هم غيروا جهة ولائهم، ولكنهم لم يغيروا طبيعة العلاقة المتطرفة التي تربطهم بالجهة التي يوالونها. كم مرة سمعنا أن ماركسيا متعصبا لماركسيته قد تحول في ليلة وضحاها إلى إسلامي متعصب لإسلامه، والعكس صحيح. المتطرف هو ابن عم المتطرف الآخر، حتى ولو كانا يتطرفان لعقيدتين متعاكسيتين تماما. فالمتطرف في حبه هو ابن عم المتطرف في بغضه، والمتطرف لدينه هو ابن عم المتطرف لإلحاده، والمتطرفون هم أبناء عائلة واحدة. لا أتصور بأن الذي يحاول أن يثبت عدم وجود الله أقل تطرفا من الذي يحاول أن يثبت وجوده. لقد حاولت أن أبني حوارا مع بعض الملحدين العرب، فوجدت نفسي أحاوربشرا أكثر تطرفا من زغلول النجار! لا يعاكس المتطرف إلا المعتدل، أما المتطرف فهو في نفس الخندق مع المتطرف ضده! المعتدل ـ بهذا الخصوص ـ هو الذي لا يهمه إن كان الله موجودا أو غير موجود، ولا يهمه أن يثبت هذا الأمر أم ذاك! لقد تعمقت في علاقتي مع بعض المسيحيين الذين اعتنقوا المسيحية وهم من خلفية اسلامية، فلم أجدهم أقل تطرفا لمسيحيتهم مما كانوا في السابق لإسلامهم. مؤخرا كنت أحضر مؤتمرا سنويا لإحدى الكنائس العربية في أمريكا، واستمعت إلى أحد المرتلين للترانيم وكان صاحب صوت رخيم، وخصوصا عندما يصيح "يا اللـــــــــــــــــــــه"، فاقتربت منه وقلت له مازحة: تصلح لأن تكون مؤذنا في جامع، فرد: لقد مارست مهنة المؤذن عشر سنوات في بلدي المغرب قبل أن أعتنق المسيحية. هؤلاء غيروا الجهة التي يتطرفون لها، لكنهم لم يغيروا طبيعة العلاقة التي تربطهم بهذه الجهة أو تلك، مما يؤكد على صحة الأسباب التي سببت تطرفهم والتي أشرت لها سابقا. هذه النقطة يجب أن تؤخذ بعين الإعتبار عندما نضع خطة لعلاج المتطرف، أي يجب أن يركز المعالج على ترميم العلاقة المهشمة بين المتطرف وبين ذاته. عندما يقتنع المتطرف بأهمية وجوده ويحترم ذلك الوجود، سيفقد المبررات التي أدت إلى تطرفه. قد يحتج أحدكم بقوله: وماذا لو تطرف الإنسان في التركيز على وجوده متجاهلا وجود الآخرين، هل هناك فرق بين الأناني الذي يحب نفسه وبين من يتطرف في حبه لعقيدة ما؟ والجواب على هذا السؤال: الأناني يحب نفسه، لكنه ـ ليس بالضرورة ـ يكره غيره. حتى ولو كره الأناني غيره، لا يمكن أن يستفحل كرهه لغيره كما يستفحل كره من يكره ذاته، ويحاول أن يعوض عن ذلك الكره بتطرفه لعقيدة ما. يُرجع الكثيرون من علماء النفس والسلوك الإبداعات البشرية ـ في بعض جوانبها ـ إلى أحد العوامل الخفية، وهو حب أصحابها للظهور والتميز عن الآخرين. أي بمعنى: أن الأنانية هي العامل النفسي الخفي الذي يدفع الإنسان لأن يُبدع! لا أعتقد أن هناك خللا في أن يحب الإنسان ذاته، ويبدع في سياق محاولاته لإثبات تلك الذات وتألقها عن الآخرين. أنا لا أخاف من أي أناني يحب ذاته كما أخاف من متطرف فقد إحساسه بقيمة تلك الذات، وهو الآن جاهز ليضحي بذاته الهشة (موهما نفسه وغيره) أنه يضحي في سبيل العقيدة التي يتطرف لأجلها. هو يضحي بحياته ، ليس حبا لعقيدته وإنما كرها لذاته! الإسلامي المتطرف ليس أنانيا، بل على العكس هو إنسان يكره نفسه جدا. في كثير من الحالات يكون الإيثار والتضحية غطاءا مزيفا لكره الإنسان لذاته ونفسه، إذ يستبدل في اللاوعي عنده كره لنفسه بحبه لعقيدة ما أو لشخص ما. هذا المسلم الذي يصيح: بحياتي أفديك يا رسول الله، يقولها ليس حبا برسوله وإنما كرها لذاته! استطاعت التعاليم الإسلامية أن تخلق متطرفين، ليس باثبات قيمتها، بل بسلبهم قيمة أنفسهم. …………… لا يستطع ديكتاتور في العالم أن يقمع إنسان أكثر مما تقمعه قناعته بأنه لا قيمة لحياته! عندما يزدري الإنسان نفسه يشعر بأنه في الدرك الأسفل بين البشر. هؤلاء الفاقدين لقيمة أنفسهم يتلذوذن في صب جام غضبهم على عدو مشترك، قد لا يكون له علاقة باحباطهم من قريب أو من بعيد. الكره الشديد وغير المبرر يعطي حياتهم الفارغة بعض المعنى، ويجعل من تطرفهم لعقيدة ما مبررا لاستمرارية تلك الحياة. أما بخصوص مانراه اليوم من حركات جماهيرية على امتداد الوطن العربي، فمما لا شك فيه أن لكل حركة أسبابها المباشرة والتي تتعلق بظروف البلد الذي قامت به، ولكن لها كلها عوامل مشتركة تمتد جذورها في عمق اللاوعي عند الإنسان العربي، ذلك اللاوعي الذي ساهمت في بنائه بيئة فكرية وتربوية متطرفة وخالية من القيم التي تبني إنسانا متوازنا متصالحا مع نفسه، وقادرا بالتالي على التصالح مع غيره. عندما أقول الحركات الجماهيرية لا أستطيع أن أفصل عنها الديكتاتوريات التي قامت ضدها تلك الحركات. فكما اشرت سابقا "المتطرف هو ابن عم المتطرف" والدكتاتور الذي يأمر باطلاق الرصاص على طفل لا جرم له ومن ثم تشويه جثته، هو ابن عم ذلك الثائر الذي يقتل رجلا ويشوه جثته لمجرد أنه من طائفة أو عشيرة ذلك الديكتاتور. كلاهما ضحية لنفس التعاليم، وضحية لنفس الثقافة، ثقافة أدت إلى تطرفهما. الديكتاتور هو مواطن شاءت أقداره أن يتسلم مقاليد السلطة، فمارس من خلالها تطرفه. أما المواطن العادي فلم يملك بعد الوسيلة التي تساعده على تجسيد تطرفه، وعندما يمتلكها لن يكون أقل تطرفا من الديكتاتور. لكي تتعرفوا على صلة القربى بين الديكتاتور وبين الثائرين في تلك الحركات، راقبوا هذين الشريطين ولاحظوا أوجه الشبه بين سلوكيات كل من الديتكاتور وطغمته من جهة وسلوكيات الثائرين عليه من جهة أخرى، لاحظوا اللغة التي تستخدمها كل جهة في مهاجمة الجهة الأخرى وكم هي متشابهة . الشريط الأول يجسد تطرف ووحشية الديكتاتور وطغمته، والشريط الثاني يجسد تطرف ووحشية هؤلاء الثائرين ضده. http://www.youtube.com/watch?v=j4KHR20K_g8&NR=1; http://www.youtube.com/watch?v=0HwsJMEl_eQ&feature=related; …… أكاد أسمع صوت البعض يعلو منتقدا: هل تعنين بأن كل من شارك بتلك الحركات متطرفا؟ بالتأكيد لا، ولكنني أعني أن الأغلبية الساحقة متطرفة لهذه الجهة أو تلك! في كل زمان ومكان هناك أقلية تتجاوز حدود تربيتها وتتحرر ـ لسبب أو لآخر ـ من ظروف بيئتها، ولكنها تبقى أقلية وصوتها يخبو أما صوت الأغلبية الساحقة. ………… أثناء اندلاع الثورة مؤخرا في مصر كنت أحضر حفلا اُقيم على شرف وزير الدفاع الأمريكي السابق دونالد رامسفيلد، وبمناسبة إصدار كتابه الجديد Known and Unknown في فترة الأسئلة والأجوبة طرح أحد الحضور على السيد رامسفيلد سؤالا: ماذا تتوقع أن يحدث في مصر بعد سقوط نظام مبارك؟ فرد السيد رامسفيلد: كان هناك أربعة أصدقاء، قرروا أن يتناولوا طعام العشاء في أحد المطاعم وتساءلوا فيما بينهم عن المطعم الذي يودون الذهاب إليه. ثلاثة منهم عبروا بأنه ليس لديهم رغبة معينة، ولا فرق لديهم بين مطعم وآخر، أما الرابع فقال: أنا أفضل المطاعم الإيطالية. نظر رامسفيلد إلى الشخص الذي وجه السؤال وسأله: هل تعرف إلى أي مطعم ذهبوا؟ انتظر برهة ثم أجاب بنفسه: طبعا ذهبوا إلى مطعم إيطالي! ظننت للوهلة الأولى بأن رامسفيلد قد أصابه الخرف، وذكرني جوابه بجدتي عندما كنا نسألها، على سبيل المثال: ماذا ستطبخين اليوم يا جدتي؟ فترد: أيام سفربرلك صادف جدكم ـ رحمه الله ـ وهو في طريقه إلى القرية الفلانية فلان الفلاني….. ثم تسهب في حديث له بداية وليس له نهاية، حتى ننسى السؤال الذي كنا قد سألناه. لكن يبدو أن الشاب رامسفيلد وهو على مشارف الثمانين من عمره مازال محتفظا بكامل وعيه، ويعي ما يقول! تابع يقول: (أغلبية الشعب المصري لا تعرف في أي مطعم ستتناول طعام العشاء بعد سقوط مبارك، أما الإخوان المسلمون ومهما كانت نسبتهم قليلة، هم منظمون ويعرفون تماما ما يريدون، ولذلك سيكون الخيار لهم، وستخضع الأغلبية لخيارهم شاءت أم أبت!) كذلك هو الحال في سوريا، فنسبة لابأس بها من الشعب السوري تنشد حياة عادلة يتساوى فيها الجميع وتليق بكرامة كل إنسان، لكن تلك النسبة غير منظمة وهي مشتتة وضائعة ولا تعرف كيف تصل إلى مبتغاها لإفتقارها إلى قيادة واعية. أما الإخوان المسلون ـ مهما تضاءلت نسبتهم ـ فالأمر معهم يختلف هم منظمون وهدافون، ويعون تماما ما يريدون، وما يريدنه لا يخرج عن حلمهم بإقامة خلافة اسلامية، يدفع فيها المسيحيون الجزية عن يد وهم صاغرون، أما الأقليات الأخرى ـ والتي لا ينطبق عليها تعريف "أهل الكتاب"ـ فسيُصلبون أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف!! الورطة التي تجسد الواقع في سوريا اليوم ـ كما هو الحال في بعض الأقطار الأخرى ـ هي أن المعارضين لسلطة الديكتاتور بشقيهم المعتدل والمتطرف يصوبون بنادقهم على نفس الدريئة، وهي صدر الديتكاتور! الخلل ليس في الدريئة، فالقضاء على الديكتاتور واجبي وطني و أخلاقي، ولكن الخلل يكمن في أن الشق المعتدل ـ من حيث يدري أو لا يدري ـ يسهل على الشق المتطرف مهمته ويسرع في وصوله إلى مبتغاه. الخروج من تلك الورطة أمر في غاية الصعوبة، إن لم يكن مستحيلا! لا أستطيع أن أطالب الشق المعتدل بقبول الديكتاتور بحجة الخوف من وصول الإخوان، فكل منهما ـ الإخوان والديكتاتور ـ شر لا يقل إيلاما عن الآخر. فأنا مقتنعة بالتغيير حتى ولو أدى إلى استبدال شر بشر آخر، لأن في التغيير تجديد للقوى المعتدلة التي تواجه كلا الشرين! التغيير ـ حتى نحو الأسوأ ـ يكسر حاجز الخوف وينفخ الروح في القوى التنويرية، ويضخ في عروقها دماءا جديدة لمواجهة أي شر جديد.
هذا من ناحية ومن ناحية أخرى، الديكتاتور بضاعة إسلامية، والإسلاميون لا ينتعشون إلا على مزبلة الديكتاتور، ولذلك سيضطرون لو وصلوا إلى خلق ديكتاتور جديد. لذلك سيكون وصول الإخوان إلى السلطة بداية نهايتهم، عندما ترى الأغلبية من الشعب بأنها استبدلت غولا بغول آخر لا يقل وحشية، إن لم يكن أسوأ! لكنها ستكون نهاية مكلفة جدا، وستزهق الكثير من الأرواح البريئة وقد تأخذ عدة عقود! يؤلمني أنني ساُتهم بالتشاؤم، ولكنني في الوقت نفسه لا أريد أن أبني قلعة من الآمال فوق كومة من الرمال! تلك كانت قناعتي منذ أن انطلقت أول شرارة تمرد على الحاكم، وترسخت ـ للأسف ـ تلك القناعة على ضوء ما يجري في مصر الآن وبعد سقوط مبارك. فحرب إبادة الأقباط بدأت، ولا أتصور بأن الإسلاميين سيخففون من حدة تلك الحرب حتى ولو دفع الأقباط كل ما يملكون عن يد وهم صاغرون. أمام هذا السيناريو المرعب، لا نملك إلا أن نقبل بالتغيير، ونترقب المستقبل بخوف وأيدينا على قلوبنا. تقول الكاتبة الأمريكية إيركا يانغ: Erica Jong I have accepted fear as a part of life - specifically the fear of change... I have gone ahead despite the pounding in the heart that says: turn back... (لقد قبلت الخوف كجزء من الحياة، وخصوصا الخوف من التغيير…. لقد مشيت إلى الأمام رغم خفقات قلبي القوية، التي تقول: عودي إلى الوراء….) من منا لا يخاف من التغيير؟ نعم أخاف…. أخاف أن ينط الوطن من شدة الألم فيقع من مقلاة القلي ليستقر في نار الموقد ـ على حد قول مثل إيطالي ـ لكن التغيير أفضل من الإستكانة لمخاوفنا، على حد قول علي بن أبي طالب: إذا خفت من شيء فقع فيه، فإن الخوف منه أشد إيلاما من الوقوع فيه. …………………… عندما يتعلق الأمر بوطني الأم سوريا، لا أتصور أن شعبا قد ذاق القهر والحرمان أكثر مما ذاقه الشعب السوري، كنتيجة حتمية لفساد ووحشية وجرائم الطغمة الحاكمة، إذا استثنيا الشعب العراقي. لقد وصل الشعب السوري، بغض النظر عن الأجندة التي تشتغل من وراء الستار سواء الموالية للديكتاتور أو المعارضة له، إلى حالة من البؤس لا يمكن تجاهلها أو السكوت عنها. إذا أخذت بعين الإعتبار كل الأمور التي أوردتها سابقا، لا أستطيع أن أتفائل كثيرا بالمرحلة المقبلة، لكن لا ينتابني أدنى شك من أنها، حتى ولو كانت الأسوأ في تاريخ الشعب السوري، ستكون ـ مهما طالت ـ مرحلة انتقالية لمستقبل أفضل. الخوف من طغمة الإخوان المسلمين ـ أقولها بصراحة ـ يكبلني لأنني لا أستطيع أن أمحو من ذاكرتي جرائهم، وقد عشتها بحذافيرها. لكن، ما يخفف عني حدة ذلك الخوف، هو أن العالم اليوم في وضع يختلف كثيرا عن وضعه قبل أحداث الحادي عشر من أيلول، لقد بدأ العالم كله يعي خطورة التطرف الإسلامي، ويعي أن وصولهم إلى السلطة في أي بلد سيهدد أمن الناس في كل بلد. هذا من جهة ومن جهة أخرى، ثقتي العالية بمستوى وعي نسبة لا بأس بها من الشعب السوري بمختلف طوائفه وأطيافه، تخفف كثيرا من حدة مخاوفي. ………… يقول الفيلسوف الفرنسي Francis Bacon الذي عاش في القرن السابع عشر: (إذا لم نغير الواقع نحو الأفضل عمدا، سيتغير الواقع نحو الأسوأ سهوا ، ولنا القرار!) لذلك، قررت أن أقف بكل إمكانياتي إلى جانب تلك الحركات الجماهيرية المطالبة بالتغيير، يحدوني بصيص أمل، أتعلق به كما يتعلق الغريق بقشة، وهو أن يجيد الشعب السوري القفز خارج حدود واقعه وخارج حدود التوقعات!
#وفاء_سلطان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
على ضوء الأحداث ..! (1)
-
السيد أحمد أبو رتيمة.... وجرائم النظام -العلوي- في سوريا (!!
...
-
رديّ على تعليقات السادة القرّاء
-
الضحيّة وعقدة -كيس الحاجة-!!!
-
وفاء سلطان لماذا وكيف تكتب؟! (4)
-
وفاء سلطان: لماذا وكيف تكتب؟ (3)
-
الدكتور طارق حجيّ...ماذا يعرف عن السايكوباتية؟!!
-
إلى من يهمه الأمر!
-
أمة أحياؤها أموات وأمواتها أحياء!
-
وفاء سلطان...لماذا وكيف تكتب؟ (2)
-
أين نساء مصر؟!
-
وفاء سلطان....كيف ولماذا تكتب؟ (1)
-
الرجل المسلم....السيّد ابراهيم علاء الدين نموذجا!
-
الإعتذار دليل شجاعة...السيد النزّال مثالا!!
-
رحلتي إلى الدانمارك..! (الحلقة الثانية والأخيرة)
-
رحلتي إلى الدانمارك.....(1)
-
عندما يكون محمد اسوة لرجاله!!
-
نبيّك هو أنت.. لاتعش داخل جبّته! (الحلقة الأخيرة)
-
الإخوان المسلمون: بلغ نفاقهم حدّ إرهابهم!
-
نبيك هو أنت.. لا تعش داخل جبّته! ( 19)
المزيد.....
-
حلقت بشكل غريب وهوت من السماء.. فيديو يظهر آخر لحظات الطائرة
...
-
من ماسة ضخمة إلى أعمال فنية.. إليك 6 اكتشافات رائعة في عام 2
...
-
بيان ختامي لوزراء خارجية دول الخليج يشيد بقرارات الحكومة الس
...
-
لافروف: أحمد الشرع وصف العلاقة بين موسكو ودمشق بالقديمة والا
...
-
20 عامًا على تسونامي المحيط الهندي.. إندونيسيا تُحيي ذكرى كا
...
-
من أصل إسباني أم إفريقي أم شرق أوسطي؟ كيف يعرف المقيمون الأم
...
-
مستشار خامنئي: مسؤولون أتراك حذروا إيران من إثارة غضب إسرائي
...
-
الحكومة المصرية تفرض قيودا على استيراد السيارات الشخصية
-
-الإمبراطور الأبيض-.. الصين تكشف عن أول طلعة جوية لطائرة من
...
-
الجيش الإسرائيلي: القضاء على قياديين 2 في -حماس-
المزيد.....
-
اللغة والطبقة والانتماء الاجتماعي: رؤية نقديَّة في طروحات با
...
/ علي أسعد وطفة
-
خطوات البحث العلمى
/ د/ سامح سعيد عبد العزيز
-
إصلاح وتطوير وزارة التربية خطوة للارتقاء بمستوى التعليم في ا
...
/ سوسن شاكر مجيد
-
بصدد مسألة مراحل النمو الذهني للطفل
/ مالك ابوعليا
-
التوثيق فى البحث العلمى
/ د/ سامح سعيد عبد العزيز
-
الصعوبات النمطية التعليمية في استيعاب المواد التاريخية والمو
...
/ مالك ابوعليا
-
وسائل دراسة وتشكيل العلاقات الشخصية بين الطلاب
/ مالك ابوعليا
-
مفهوم النشاط التعليمي لأطفال المدارس
/ مالك ابوعليا
-
خصائص المنهجية التقليدية في تشكيل مفهوم الطفل حول العدد
/ مالك ابوعليا
-
مدخل إلى الديدكتيك
/ محمد الفهري
المزيد.....
|