|
مقومات سحر تولستوي
هشام غصيب
الحوار المتمدن-العدد: 3386 - 2011 / 6 / 4 - 09:05
المحور:
الادب والفن
لست ناقداً أدبياً محترفا، ولست أنوي أن أمارس النقد الأدبي بإزاء ليو تولستوي، عملاق الرواية الروسية والعالمية. فتولستوي بالنسبة إلي ليس موضوعاً للنقد الأدبي بقدر ما هو قيمة روحية وجمالية عليا. فقد أدى أدب تولستوي وفكره دوراً محورياً في تشكيل ذاتي وفي تكويني الفكري والروحي. لقد قرأته مبكراً وتلقفته بشغف وعشق ورأيته يغوص في أعماقي ويحفر فيها في الصميم. فكانت قراءته متعة لي ما بعدها متعة؛ متعة من النوع الروحي العميق الذي يهز أعماق النفس ويزلزلها ويعلمها ويهذبها ويصقلها ويوجها ويغيرها ويثورها. لذلك فسأكتب عن تولستوي من منطلق تجرتبي الفكرية والوجدانية مع أدبه الثر؛ من منطلق المتعة الروحية والشعور الإنساني العميق اللذين أثارهما في نفسي. لقد تعلمت الكثير من تولستوي. تعلمت كيف أكون إنسانا. تعلمت معنى إنسانية الإنسان وبيئته. تعلمت كيف أعشق الحياة والطبيعة والمرأة. تعلمت كيف أقبل الآخر وأفهمه. تعلمت كيف أقدر الجمال وأستمتع بالجمال والعبقرية. إن تولستوي لمدرسة ينبغي علينا جميعنا أن نتتلمذ فيها وأن تشكل جزءا من كل مدرسة وكل منهاج. لقد كان تولستوي مارداً جباراً في كل شيء؛ في حجم عمله الفكري والأدبي ( ما يربو على مائة مجلد)، وفي طاقته الخلاقة الفائقة، وفي قامته الجسدية والفكرية، وفي طول عمره، وفي حيويته الغامرة، وحتى في طاقته الجنسية. وعلينا أن نبقي ذلك ماثلا في أذهاننا ونحن نتعامل مع هذه الظاهرة الثقافية المتميزة. لقد مر ليو تولستوي في عدة مراحل في مسيرته الفنية والفكرية. ويمكن القول إن مرحلته الأولى امتدت حتى سن الخامسة عشرة. وقد عبر عن هذه الفترة بعمق وبراعة لاحقا في كتابه الجميل، ” طفولة، مراهقة، شباب”. ثم إنه دخل مرحلة أسماها مرحلة العدمية ودامت حتى سن الخمسين. وتميزت هذه المرحلة بأن حياة تولستوي في أثنائها خلت من الإيمان بأي شيء، مبدأ عاماً كان أو كائنا غيبيا. وشهدت هذه المرحلة تفجر ينابيع طاقته الإبداعية الخلاقة في الرواية تحديداً. إنها مرحلة “الحرب والسلام” و”آنا كاريننا”، المرحلة الإبداعية الكبرى في حياة تولستوي. بعد ذلك شعر تولستوي بالحاجة الماسة إلى الإيمان، إلى تخطي عدميته صوب ضرب من الإيمان، فاتجه صوب التراث الديني الروسي، صوب الكنيسة الروسية الأرثودكسية. وانكب لمدة خمس سنوات على دراسة كتب اللاموت الكنسية، لكنها لم تشف غليله الروحي. فاخذ يقرأ الأناجيل بعقل مفتوح ويقارنها باللاهوت الرسمي. وانصب اهتمامه بصورة خاصة على موعظة الجبل في إنجيل متى. فوجد نفسه مشدوداً إلى المضمون الأخلاقي للمسيحية على حساب المضمون العقائدي الميتافيزيقي والطقوسي. بل وخلص تولستوي إلى أن جوهر الإنجيل يتعارض مع تعاليم الكنيسة وممارساتها وطقوسها وتاريخها، فدخل مرحلة جديدة تتمثل في الدعوة إلى العيش وفق مبادئ الأخلاق المسيحية التي عبر عنها المسيح في موعظة الجبل، وبخاصة مبدأ “لاتقاوم الشر”. وأخذ يطبق هذه المبادئ على حياته، فتخلى عن أملاكه وتصدى للسلطتين الدينية والسياسية. وتميزت هذه المرحلة “الإنجيلية” من حياته المديدة بفيض من الأعمال الفكرية والوعظية، وهي أعمال لم تعطَ حقها من الدراسة الجدية بعد. وبرغم تباين هذه المراحل عن بعضها بعضا، وبرغم شجب تولستوي لاحقاً لمرحلته العدمية وإنجازاتها الأدبية الباهرة حقا، إلا أنها جميعا تشكل وحدة واحدة في تنوعها وينتظمها ويوحدها مبدأ واحد يتمثل في البحث عن معنى الحياة والإجابة عن السؤال: كيف نحيا؟ كيف ينبغي أن نحيا؟ وهو السؤال السقراطي الكبير الذي ابتدأت به الفلسفة وقام على أساسه الدين. هناك كثير من الجوانب والأبعاد لفكر تولستوي وأدبه. لكني سأركز هنا على مقومات سحر أدبه الروائي وعناصره. فلروايات تولستوي سحرها الخاص الذي لا يضاهى. وبصورة خاصة، فهناك أربعة مقومات رئيسية لهذا السحر الخالص. أولا، النفس الملحمي الهوميروسي. فحين نقرأ رواية “طفولة، مراهقة، شباب” او “القوزاقيون” او “الحرب والسلام” أو ” آنا كاريننا”، فإننا نشعر وكأن هوميروس قد بعث حياً. إن تولستوي لهو هوميروس العصر الحديث. ورواياته المذكورة أقرب إلى الملحمة منها إلى الروايات التقليدية. بل إن تولستوي نفسه أحس وكأنه يقرا لنفسه حين قرأ إلياذة هوميروس للمرة الأولى وهو في سن الواحد والأربعين. وفي المقابل، فإن دستويفسكي مثل النفس الدرامي في الرواية الروسية. وهو ما انعكس بجلاء في موقفيهما من هوميروس وشيكسبير. ففي الوقت الذي عبر فيه تولستوي عن إعجابه الشديد في هوميروس، فإنه لم يخف مقته الشديد لشيكسبير، وبخاصة لمسرحية ” الملك لير”. أما دستويفسكي، فقد عشق أدب شيكسبير وعده مثله الأدبي الأعلى. ونلمس هذا النفس الملحمي الهوميروسي في تولستوي في مشاهده الريفية الرعوية، وفي شعر الحرب والفلاحة، وفي الحضور الطاغي للطبيعة بدوراتها وفصولها، وفي الحضور الطاغي للجسد البشري وإيمائاته، وفي أولوية الحواس بصخبها وضجيجها، وفي الأنسنة الطافحة، وفي وحدة الإنسان والطبيعة، أي في تصويره الإنسان بوصفه جزءا من الطبيعة ومنتمياً لها، وفي عضوية الفعل الإنساني، وفي الشعور القوي بالمكان والزمان، وفي الشفافية السيكولوجية. ثانياً، ما أسميه المخيال المستدام. إننا لا نشعر حيال تولستوي أنه يركب عالماً خيالياً بوعي ظاهر، ولا نشعر أن عالمه خيالي في جوهره، وإنما نشعر أننا بإزاء عالم واقعي حقيقي موجود فعلا بذاته ولم يصنع صناعة. ونرى شخوص روايات تولستوي بلحمها ودمها وأفكارها وعواطفها تجول وتتفاعل معا في هذا الواقع العياني بوصفها جزءاً عضويا منه، تستكشف أركانه وتغيرها وتتغير بفعلها. إنه مخيال مستدام يعطي الانطباع بأنه موجود في ذاته وبذاته، كمثالات أفلاطون، قبل فعل الخلق الأدبي، وأن الرواية هي رحلة استكشاف في أرجائه. كذلك، فإننا لا نستكشفه من الخارج، كما في فلوبير وزولا، وإنما من داخله وعبر وعي شخوصه وفعلهم. وهذا هو أساس واقعية تولستوي المتميزة. وقد لاحظ الناقد المجري الكبير، جورجي لوكاتش، ذلك في معرض مقارنته تولستوي بزولا. ثالثاً، الأنسنة الطافحة. فلئن أنسن هوميروس آلهته في الإلياذة، فقد أنسن تولستوي كل شيء يمسه الإنسان. لقد أنسن الأفراد والطبيعة والحيوان والنبات. لذلك نتعاطف مع شخوصه جميعا، حتى مع الخطاة منهم ومرتكبي الأفعال الشريرة، ونشعر بجوهرهم الإنساني وبقيمة هذا الجوهر بصرف النظر عن موقعهم الاجتماعي وأفكارهم وأفعالهم. إننا نتعاطف معهم ومع بيئتهم، بل حتى مع فرائس صيدهم. إن أدب تولستوي هو أدب الأنسنة وحب الإنسانية بامتياز. رابعاً، الانتصار للطبيعي على حساب الاصطناعي.إن أدب تولستوي يؤكد الطبيعة والانسجام معها على كل صعيد. فهي مصدر الخير والحق والجمال. فالمرء يمارس الخير والحق والجمال بقدر ما يقترب منها ويلتزم بها. وهو يمارس الشر والزيف والقبح بقدر ما يبتعد عنها وينبذها ويعقد الحياة بما هو مصطنع. إن البساطة الطبيعية هي مفتاح سعادة الإنسان ونقاء حياته. لذلك انتصر تولستوي للفلاح الروسي على الأرستقراطية والإقطاع. إذ رأى فيه صورة ناصعة ومثالا حيا على تلك البساطة الطبيعية المنسجمة مع الطبيعة. وفي هذا السياق، نذكر بما لاحظه لينين، ببصيرته الثاقبة، من أن تولستوي هو أول من مثل الفلاح في الأدب العالمي. فمع أنه كان نبيلا وأرستقراطيا إقطاعيا، إلا أنه تقمص روح الفلاح الروسي وعبر عن همومه وقيمه وتطلعاته وطموحاته، ورأى العالم وصوره ورسمه من منظوره.
#هشام_غصيب (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
دستويفسكي وأدب الاستغراب
-
غوغول وظاهرة الرواية الروسية
-
أفول الكون البلوري
-
شبح اللانهاية
-
الماركسية هي نقيض الصهيونية
-
دفاعاً عن الماركسية
-
لغز الكتلة
-
محنة المادية اليوم
-
فجر العقل الجدلي
-
من فلسفة الثورة إلى علم الثورة
-
نحن وعقيدة التنوير
-
المكان بوصفه مادة
-
تميز العقلانية المادية
-
مشروعنا الفلسفي
-
هندسة ريمان
-
المعزى التاريخي للحضارة العربية الإسلامية
-
من الفلسفة إلى علم الإنسان
-
فلسفة ماركس
-
سمير أمين مستغرباً
-
هشام غصيب في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: من الثورة ا
...
المزيد.....
-
رحيل عالمة روسية أمضت 30 عاما في دراسة المخطوطات العلمية الع
...
-
فيلم -الهواء- للمخرج أليكسي غيرمان يظفر بجائزة -النسر الذهبي
...
-
من المسرح للهجمات المسلحة ضد الإسرائيليين، من هو زكريا الزبي
...
-
اصدارات مركز مندلي لعام 2025م
-
مصر.. قرار عاجل من النيابة ضد نجل فنان شهير تسبب بمقتل شخص و
...
-
إنطلاق مهرجان فجر السينمائي بنسخته الـ43 + فيديو
-
مصر.. انتحار موظف في دار الأوبرا ورسالة غامضة عن -ظالمه- تثي
...
-
تمشريط تقليد معزز للتكافل يحافظ عليه الشباب في القرى الجزائر
...
-
تعقيدات الملكية الفكرية.. وريثا -تانتان- يحتجان على إتاحتها
...
-
مخرج فرنسي إيراني يُحرم من تصوير فيلم في فرنسا بسبب رفض تأشي
...
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|