|
مقاربة ما بين النظرية العامة للثورات لأرسطو والثورة في العالم العربي ( تونس ومصر كنموذج)
صابرين بهجت عيسى
الحوار المتمدن-العدد: 3382 - 2011 / 5 / 31 - 00:23
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
تعصف بالعالم العربي منذ بداية السنة الجديدة، العديد من الهبات الجماهيرية التي تعبر في مجملها عن ثورات شعبية ضد أنظمة الحكم السائدة بالمنطقة، التي تمتاز بالتراوح ما بين أنظمة اولغرشية وأنظمة طغيان شمولية، أو مزيج منهما تحت مسميات أخرى، وفي محاولة لتفسير العلل التي أدت بالشعوب للوصول إلى مرحلة الثورة والتغيير والمطالبة بإسقاط أنظمة الحكم، نستعرض في هذه المقالة محاولة للمزاوجة ما بين الظروف التي كان يعيشها المواطنون تحت وطأة هذه الأنظمة قبل الثورة(الأنموذج المصري والتونسي)، وما بين النظرية العامة للثورات التي وضعها أرسطو قبل فترة تقدر بأكثر من ألفي عام.
لقد قسم أرسطو في القسم الثامن من كتابه "السياسية" علل الثورات بناء على شكل أنظمة الحكم، فهناك علل الثورات في الاولغرشيات وعلل الثورات في الديمقراطيات، وغيرها من أشكال الحكم، حيث وضح من خلال طرحه، أن هناك علل مسببة للثورات تختلف باختلاف شكل الحكم، ولكنه قد وضع علة عامة للثورات في مختلف الدساتير وهي: اللامساواة، كمسبب أساسي وعام للثورات، حيث عبر عن ذلك بقوله " تلك هي العلة العامة بل يمكن أن يقال أنها ينبوع الثورات..." .
النموذج التونسي : اندلعت الثورة في تونس في ديسمبر 2010، بعد أن قام الشاب محمد البوعزيزي بإضرام النار في نفسه، احتجاجاً على مصادرة العربة التي يبيع عليها، ولا بد بداية من الإشارة إلى أن الشعلة التي أثارت الهبات الجماهيرية في العالم العربي جاءت مصادفة لم يكن مخططاً لها مسبقاً، بالرغم من الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للسكان التي كانت مشحونة وتكفي لاندلاع أكبر الثورات، وهو ما أدرجه أرسطو في الباب الخامس حيث قال " .. وقد تكون أحيانا حادثة عرضية تجلب الثورة في الجمهورية وفي الاوليغرشيات."
إذا ما الذي يدفع بهذا الشاب إلى التخلص من حياته، احتجاجاً على ظروف البطالة وعدم وجود عدالة اجتماعية وتفشي الفساد في الحكومة، سوى حالة الاحتقان، والتفشي الكبير والعنيف للظروف القاسية، والتي امتزجت مع حالة الاحتقار التي يعيشها المواطن بحثاً عن لقمة العيش، ذلك ما أشار له أرسطو موضحاً أن الاحتقار يولد فتناً وأعمالاً ثورية بالإضافة للإهانة والخوف والاحتقار.
وبعد اندلاع الثورة، بدأت تظهر على السطح بوضوح أكثر وأكثر صور الفساد وأشكاله، فلعل أحد مسببات الثورة، هي ضيق الناس بكل ما يحدث في النخبة الحاكمة والتي ما لبثت تثرى على حساب الشعوب ومقدراتهم، فإن العائلات الكبرى، تقدر ثرواتها بمليارات الدولارات، كل ذلك يؤدي لانعكاسات خطيرة على الشعب، مما يجلب الثورة على هذه النخبة بلا رحمة، وفي هذا الإطار يقول أرسطو في كتابه " ... فمتى كان الرجال الحاكمون وقحاً شرهين يثرون على حساب الأفراد والجمهور ثار الناس عليهم وعلى الدستور الذي يوتيهم أمثال هذه الامتيازات الظالمة."
بالمقابل نجد قطاعات واسعة وكبيرة من الشعب تعاني الفقر المدقع، وتحتقر وتهان، بالتزامن مع غياب العدالة الاجتماعية، كل ذلك أدى إلى أن تندلع الثورة وتلحقها باقي المدن التونسية، وذلك لأن كل تلك المناطق تشمل استعداداً نفسيا للثورة كما اسماها أرسطو، والتي أصبح مطلبها الأساسي رحيل الرئيس زين العابدين بن علي، وفي الحالة التونسية، نرى التشابه الكبير بين ما قدمه أرسطو من العلل التي تؤدي إلى الثورة والمطالبة بالتغيير من شكل إلى آخر من الحكومات أو تغيير الدستور، بالرغم من مرور زمن طويل على طرح أرسطو.
كما لا بد من الإشارة إلى حالة الاستبداد والقمع وتقييد الحريات، التي كانت إحدى الأسباب المهمة التي أنجحت الثورة، فبعد نجاح الثورة، عاد من المنفى الكثير من المبعدين أمثال، زعيم حركة النهضة راشد الغنوشي، ورئيس الشبكة الأورومتوسطية لحقوق الإنسان كمال جندوبي الذي لم يدخلها منذ عام 1994، كما عاد المعارض التاريخي لنظام الرئيس السابق منصف المرزوقي. وتم إلغاء الحجب عن عدة مواقع الكترونية كانت ممنوعة في تونس من أهمها اليوتيوب.
النموذج المصري : لم تختلف مشاهد الثورة في مصر عن قرينتها في تونس، مما يدل على أن جدلية الثورة قائمة لأن العنصر المحرك للثورة يكاد يكون واحداً في البلدين، نسترجع بالذهن مقولة الاستعداد النفسي التي ذكرها أرسطو، والحالة التي سئمها المواطن الذي يعيش تحت نظام قمعي، اتخذ بديلا عن شرعيته المفقودة، شرعية استخدام العنف، وقهر المواطن ليبقى أسيرا لحالة من الخوف الدائم، من جهاز امني باطش يستل شرعيته من الشعب الذي يرزح تحت هذا النظام.
تلك هي الأمور التي سبق وأن تطرق لها أرسطو، قائلاً " .. الوسائل التي يستخدمها الطغيان للاحتفاظ بسلطانه كلما أمكن ذلك.. القضاء على كل تفوق يرفع رأسه، التخلص من الرجال أولى الألباب، منع الموائد العامة والاجتماعات، وحظر التعليم وكل ما يمت بسبب إلى التّنور ... وفوق ذلك معرفة تنقلات المواطنين مهما قلت قيمتها وإكراههم ...." ، ولا تغيب عن الذهن هنا حادثة الشاب خالد سعيد الذي تم تعذيبه حتى الموت من قبل اثنين من أجهزة الأمن في منطقة سيدي جابر، وحالات الإقصاء والنفي للأعلام المصرية، ولأفراد المعارضة من الإخوان المسلمين .
نذكر في هذا السياق، الوضع ما قبل الثورة المصرية إذ نرى العديد من البرامج التي عرضت على شاشات التلفزة والتي كانت إرهاصات ومؤشرات على احتمالية وقوع ثورات في العالم العربي وخاصة برنامج "هالة سرحان" الذي منع من العرض بعد أن انتقدت نظام الحكم في مصر وتوقعت انهياره في أي لحظة، حيث منعت من دخول مصر مدة ست أعوام. إضافة إلى بعض القصص التي كتبت ومثلت على شاشات السينما والتي أنذرت بوقوع هذه الثورات وخاصة في مصر مثل فيلم "حين ميسرة" للمخرج خالد يوسف، فعلاقة المواطن مع النظام من جميع النواحي الحياتية كانت تؤكد على التذمر والاستعداد النفسي والتضحوي للشروع في الثورة مهما كانت النتائج وهذا يدل على حالة الجمود السياسي والاقتصادي والاجتماعي في تونس ومصر وغيرها من الدول العربية.
ومن هنا بدأت حالة ترنح نظام الحكم المصري، والذي عجز عن قمع المظاهرات لإدراكه بحقيقة ما ذكر، وأن محاولة ترقيع الوضع القائم، لن تنفع في خضم الأحداث المتوالية في مصر، مع بقاء التجربة التونسية مثالاً حياً لم ينطفئ وهجه بعد. ويعاني المجتمع المصري، من حالة اختلال في البنية الهيكلية للمجتمع، حيث النمو غير المتناسب في المدن المصرية، وتشكل القاهرة عاصمة مصر، مثالا صارخاً للنمو غير المتناسب داخل المدينة الواحدة، فتجد في مصر طبقة من الأغنياء وطبقة من الفقراء تندرج من الفقر العادي، للفقر المدقع المتركز في العشوائيات التي يقطنها ألاف من السكان، والتي لا تتوفر في داخلها أدنى متطلبات الحياة الإنسانية، الأمر الذي ذكره أرسطو قائلاً " متى كان المرء في مركز منحط ثار ليحصل على المساواة" ، " وان النمو غير المتناسب لبعض الطبقات في المدينة يسبب أيضاً الانقلابات السياسية.." .
ومن خلال مراجعة لكتاب " الخطر الكامن.. الفساد في مصر حقائق وأرقام" نلاحظ أن الفساد مستشري في جميع القطاعات، مثل القطاع الصحي والتعليمي والوظيفي والاجتماعي بالإضافة إلى شروخ كبرى في الديمقراطية وقد جاء في الكتاب "خلال العام الحالي أصدرت منظمة الشفافية الدولية تقريرها السنوي واحتلت فيه مصر المركز 72 في قائمة الفساد العالمي، كاشفا أن الفساد المستشري في قطاع الصحة تسبب في زيادة معاناة المواطنين وانتشار الأمراض الخطيرة وأشار التقرير إلي أن تحول العديد من المستشفيات إلى مراكز خدمة ذاتية وظفها البعض لتحقيق ثروات بطرق غير مشروعة . "
أما بالنسبة لتقارير التنمية البشرية فأشارت لفساد إدارات مصر المحلية بسبب اختراق الحزب الوطني لها، ووفق تقرير للجهاز المركزي للمحاسبات من فقد بلغ حجم الفساد بالمحليات إلي 390 مليون جنيه في عام واحد.
جاءت الثورة المصرية عارمة، وما زالت تطالب بإزالة أي اثر لبقايا النظام القديم، كما وتطالب بمحاكمة المتورطين، والأسرة الحاكمة، اللذين أذاقوا الشعب المصري شتى أنواع المهانة والاحتقار، والذل والبطش، مع انتشار الفقر المدقع، والأمثلة تعد ولا تحصى، التي تعبر عن مدى احتقان الشعب على النظام، ومدى فساد النظام، فمن اتفاقية الغاز، لأزمة الخبز المدعم، لانهيار صخرة الدويقة، وإهدار المال العام، وأكياس الدم الملوث، وغرق العبارات .. الخ .
مما يفسر جلياً المرحلة والحالة التي قبع تحتها المواطن المصري، دون أي تقدم وإنجاز يعود بالنفع للمواطن، فقد كانت ثروة النخبة تزداد وفقر الشعوب بالمقابل يزداد.
خلاصة : بعد هذا الاستعراض السريع للعلل التي سببت الثورات في القرن الواحد والعشرين في كل من مصر وتونس كنموذج، ومقارنة هذه العلل والظروف بما صنفه أرسطو قبل ألاف السنين، نجد أن لا قيمة للزمان في الثورات التي تحدث، فمتى كان نظام الحكم فاسداً، ويفتقر للشرعية المطلوبة، فيتوقع أن ينهار في لحظة تاريخية محددة بعد أن تكون التراكمات الكمية وصلت إلى طريق لا يمكن كبتها والوقوف في وجهها وبالتالي فإنها تؤدي إلى تغييرات نوعية حاسمة تنقل الشعب والأمة من مرحلة بائدة إلى ومرحلة واعدة، وهذا لا يتناقض ولا يتنافى بل يتناص ( التناص: وجه نظر تلتقي عند اثنين دون علمهما – أرسطو والثورات في العالم العربي) مع ما طرحه أرسطو من أفكار حول النظريات العامة للثورات فالبشر واحد والمدنية واحدة والأرض واحدة والسماء واحدة والثقافة تتطور وتتلاحق وتأخذ من بعضها البعض والتأثر بالأفكار لا يتأتى من فراغ فالكليات الغائبة يبحث عنها العقل ويحصلها في الجزئيات المادية. فموضوع الثورة موجود أساساً في العقل البشري الذي هو امتداد لهواجس وأفكار متراكمة من التراث إلى الأصالة فالثورة التي تحاول من خلال ديناميكياتها المتحركة تلبية الحاجات الملحة والآنية والمستقبلية لأي أمة من الأمم .
#صابرين_بهجت_عيسى (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
5 قتلى و200 جريح.. أحدث حصيلة لضحايا هجوم الدهس بألمانيا
-
من هو السعودي المشتبه به في هجوم الدهس بألمانيا؟ إليكم التفا
...
-
مراسل CNN في مكان سقوط الصاروخ الحوثي في تل أبيب.. ويُظهر ما
...
-
المغنية إليانا: عن هويتها الفلسطينية، تعاونها مع كولدبلاي، و
...
-
هجوم بطائرات مسيّرة يستهدف مدينة قازان الروسية ويتسبب بأضرار
...
-
ناقد للإسلام ومتعاطف مع -البديل-.. منفذ هجوم ماغديبورغ بألما
...
-
القيادة العامة في سوريا تكلف أسعد حسن الشيباني بحقيبة الخارج
...
-
الجيش اللبناني يتسلم مواقع فصائل فلسطينية في البقاع الغربي
-
صحة غزة: حصيلة قتلى القصف الإسرائيلي بلغت 45.227 شخصا منذ بد
...
-
إدانات عربية ودولية لحادثة الدهس بألمانيا
المزيد.....
-
لبنان: أزمة غذاء في ظل الحرب والاستغلال الرأسمالي
/ غسان مكارم
-
إرادة الشعوب ستسقط مشروع الشرق الأوسط الجديد الصهيو- أمريكي-
...
/ محمد حسن خليل
-
المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024
/ غازي الصوراني
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
المزيد.....
|