|
ألوطنية ...والرهان على شعبنا
أ . د . حسين حامد حسين
الحوار المتمدن-العدد: 3377 - 2011 / 5 / 26 - 18:58
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
الوطنية شعور حميم من إلفة وامتنان يحمله المرء تجاه وطنه ، ويتولد هذا الشعور في الذات كنوع من تكريم مثالي عفوي غامض لوفاء وحنين . فالوطن هو بيت الانسان الكبير ، حيث يمكن للانسان أن يجد في ربوع وطنه احساسا بنوع من بركة وسكينة . ومن خلال هذه العلاقة الحميمة قد يجد الانسان أيضا فرصا لمنح الحياة معان بأروع صورها المهيبة التي تجعل منه قدوة للاخرين . فلدى الكثير من الشعوب ، يقترن الشعور بجلال الوطن بما يمكن توارثه من قيم اجتماعية وأخلاقية ومثل نبيلة ووفاء تحتشد لتكون في نقاءها وصدقها اواصرا وثيقة من اجل التواصل بين الماضي والحاضر والمستقبل ، وخصوصا عندما يكون الامر متعلقا بقضية الذود بالنفس عن كرامة الوطن . وفي الحرب العالمية الثانية ، وبعد أن تيقنت اليابان بعدم امكانية النصرعلى الحلفاء ، كان الطيارون اليابانيون قبل الاقلاع لملاقاة الموت انتحارا ، يشربون انخاب الوداع الاخير ويعانق بعضهم البعض قبل أن يتوجهوا للانتحار بطائراتهم من اجل الوطن . وكان في تلك الاحداث الجليلة ما من شأنه أن ينهي كل جدل عقيم عن اشكالية مسألة افتداء الانسان لنفسه من اجل وطنه .
ومع ذلك ، يبقى عمق الانتماء للارض والاحتفاء بالمشاعرالوطنية يختلف لدى الشعوب من خلال مفاهيم الحياة نفسها بالنسبة لهم وكيفية صياغة التبرير العقلاني انطلاقا من طبيعة تلك الشعوب نفسها وما تمتلكه من عقائد وايديولوجيات . فمفهوم الوطنية يختلف تماما لدى حضارة الانسان الشرقي عنها لدى الانسان الغربي . فبحكم العواطف الكبيرة التي نحملها كشرقيين ، تبقى الوطنية في تراثنا وقيمنا الوجدانية في كثير من الاحيان ، رمزا كبيرا لروابط الانسان الاخلاقية والتي يرى من خلالها أن الوطن جزء من شرفه وعرضه . وعلى عكس ذلك ، نجد أن الانسان الغربي ، وألامريكي كمثل ، لا يؤمن كثيرا بمثل تلك العواطف الكبيرة ولا يجعلها منطلقا لتعامله الحياتي من خلال جعل الوطن يقترن بمسألة وفاءه الانساني، ).Your home where your heart isمكتفيا بالاعتراف من أن وطنك هو حيث يكون قلبك (
ومثل المشاعر الوطنية في الذات الانسانية، كمثل بذرة صغيرة ، تحتاج هي الاخرى لكي تنموا وتصبح شجرة عميقة الجذور ، أن تتوفر لها أسبابا وعواملا صحية. فالحفاظ على مستوى طيب لتلك المشاعر الدقيقة والإبقاء على سموها الوجداني كفيل في ثباتها في الذات ، واقترانها مع ما يصبوا له الانسان في أن يجدها دائما جديرة بالوفاء من اجل وطنه.
وفي وطننا العراقي ، كانت مفاهيم القيم والاعتبارات الوطنية لدى الانسان العراقي والتي كانت سائدة قبل وأدها من قبل حكم البعث الفاشي الطغموي ، مفخرة له في حسه الوطني وعلاقته بتراب وطنه. فكان العراقي يرى في الذود عن كرامة العراق هدفا ساميا ومهيبا منذ ان كان العراق تحت الاحتلال العثماني والبريطاني . وقد ساهمت الاحزاب الوطنية من جانبها خلال العهد الملكي بقدر او باخر في تعميق المشاعر الوطنية وتأجيجها. فكان الحزب الشيوعي العراقي في طليعة الاحزاب الوطنية التي عمقت وشائج الوفاء بين الشعب ووطنه من خلال تضحيات الحزب في تاريخ نضاله الطويل ومواقفه الوطنية. كذلك كان شأن الاحزاب الوطنية الاخرى كالحزب الوطني الديمقراطي وحزب الامة وحزب الاستقلال وبعض الاحزاب الدينية ، إذ كان يتوقف قبول أو رفض تلك الاحزاب على رضى الشعب العراقي أولا لما كانت ترسمه لنفسها من أهداف واجندات ومواقف وطنية من اجل خدمة الوطن والقضايا الوطنية.
ولكن من خلال قيام النظام المقبور ومنذ عام 1968 بعمليات إلاخضاع القسري المبرمج ضد شعبنا بهدف نسف مفهوم المواطنة وتكريس عسكرة الشعب وطمس الهوية الوطنية ، بدأ التصدع والانحراف لدى العراقيين فيما يتعلق بمسألة حقيقة حسهم بشرف الانتماء لوطن يحكمه جلاد أناني ومستهتر. فمن خلال حروبه العبثية ، حاول المقبور فرض شتى وسائل البطش والقسوة على الشعب العراقي وتحويله الى مشاريع تضحيات من اجل الدفاع عن وجوده الشخصي وبقاء نظامه مستمرا، جاعلا من تضحيات الشعب من اجله مقياسا للوطنية. ونتيجة لذلك ، فقد تحول شعور العراقي نحو قضية المواطنة الى أمر سلبي مقيت. فحملات الجور والظلم والاضطهاد التي فرضها المقبور ونظامه على شعبنا، وما كان يتعرض له العراقي بشكل يومي من اذلال النظام له ، عمد على تجريده من الشعور بالكرامة وعمق في ذاته شعوره بالاغتراب في وطنه . فعاش العراقي وهو يشعر بالخجل أمام نفسه لما يعيشه من اذلال وقتل وجور، ثم لينقلب شعوره بالخجل من نفسه الى حالة من الرفض ألاشعوري لوطن لا يرمز سوى لتعاسته ولا يجد نفسه فيه الا عبدا. وهكذا أصبحت جل أماني العراقيين هجر الوطن والخلاص من معاناته. وفي الغربة بات العراقي يستمرء اغترابه وضياعه رغم ألمهما العريض كنوع من ثأر لكراماته المهدورة ولسنين طويلة حيث أصبح وطنه مرتعا لعبث المجرمين . وأصبح تعامل الانسان العراقي بلامبالات ولا إلفة ولا اكتراث مع كل شأن وطني حيث يشعر ان لا خير يستحقه الوطن بنظره.
ثم جاء الغزو والاحتلال وما رافق ذلك من القتل والسبي والتهجير والارهاب مما عمد الى مزيد من الانحراف في المشاعر التي تخص قضية الوطن . فظروف القتل والارهاب التي مرت على شعبنا يمكن ان يكون قد شاب لها رأس الوليد ، واضطر معها الانسان العراقي ألنكوص نحو ذاته بشكل أعظم في محاولة للنجاة من براثن الموت الذي كان يداهم الجميع في كل لحظة. فأضطر الى الركون نحو مبدأ (التقية) من اجل ان يوفر لنفسه ولعائلته السلامة ألتي أصبحت وحدها كل شواغل الحياة. وراح يرنو الى السلطة بعين الاحتقار فيرى كيف تم سلبها هيبتها وباتت تعاني من جور الارهاب بينما هي الجهة المعنية بتوفير حالة الامن والاستقرار المطلوب له ولعائلته. وبذلك ، كان عدم قدرة السلطة على توفيرالحماية اللازمة له ولعائلته ، عاملا كبيرا أيضا من عوامل تلاشي الثقة والاحترام لها .
من جانب اخر ، حينما بدأ الانسان العراقي يكتشف خداع وافترائات الكتل السياسية له بعد قاموا بتبني شعارات مزيفة ، وتم خداعه من قبلهم بعد أن وثق بهم ومنحهم صوته في الانتخابات ، بدأ يدرك أن الكثير من تلك الكتل التي تمسحت بالدين والتدين ، والدين براء منها ، ثم يرى أمامه اخرون من الشراذم التي خسرت مصالها بعد سقوط النظام الفاشي في الامس فراحت تقيم التحالفات مع الارهابيين من اجل قتله وقتل الاخرين من شعبه . ثم يكتشف أن الجميع لا يبالون في اللجوء الى دول الجوار كعملاء ، لدعمهم من اجل الفتك بشعبه وتدمير وطنه وبلا مسائلة أو رادع من قانون أو ضمير . ثم يجد هؤلاء جميعا وغيرهم من أعداء وطنه ، هم وحدهم من يعيشون في حالة من اليسر، وقد حققوا أهدافهم الوضيعة من خلال فسادهم الاداري ولصوصيتهم وطعنهم لكبرياء الشعب بينما يعيشون في أمان تحميهم جيوش من الرجال ، فهل نتوقع من العراقي بعد كل ذلك أن تثور حميته وشهامته من اجل وطنه؟
ما العمل إذن؟
أن ما وصلت اليه الحال لدى شعبنا أمرا في غاية الخطورة. ونحن هنا في محاولة متواضعة لتوضيح بعض الامور الهامة التي تخص حياة شعبنا ، أنما من نعنيهم هم الخيرين من شعبنا . ممن يمكن ان نتلمس فيهم نقطة من ضوء ونأمل منهم بريقا من أمل في المساعدة من اجل إعادة الثقة بشكل تدريجي بين العراقي ووطنه . فمن بين الامور الملحة والتي نعتقد انه ينبغي ان تكون لها الاولوية في الوقت الحاضر، هو العمل على تأمين ما يحتاجه شعبنا من الخدمات ، ففي ذلك خطوة أولى نحو الامام من اجل اعادة الثقة بالسلطة . فتوفير القضايا الاساسية للحياة كالكهرباء والماء والمجاري واطلاق التعينات وتوفير الدرجات الوظيفية للخريجين وغيرهم من هم بحاجة الى عمل . كذلك فان محاسبة المقصرين من مسؤولي الدولة الفاسدين مهما كانت هويات انتمائاتهم ، هو أمر هام جدا ودليل على قوة السلطة أمام الشعب . أن ممارسة الحزم والقوة وضرب مواقع الفساد من قبل السيد المالكي من شأنه ان ينشئ جذبا كبيرا للمواطن نحو التعاطف مع الحكومة . ففي ممارسة تلك القوة تعبير عن ارادة وبأس السلطة في محاربة الفساد واستتباب الامن .
ومن اجل أن يدرك العراقي وعلى نحو واضح من أنه هو والاخرين من الخيرين الشرفاء معنيون في الاسهام في استمرار هذا الوجود الديمقراطي للنظام القائم ، وانهم هم قاعدة البناء لهذا الوطن الغالي ، وعليهم تقع مسؤوليات كبرى من اجل دعم وتثبيت اركان الديمقراطية ، ينبغي منحهم دورهم الريادي في عمليات البناء واستغلال طاقاتهم من خلال عملهم في مؤسسات المجتمع المدني ، فالعراق وطن جميع الشرفاء. وأن الوطن يحتاج الى جهود وخبرات وثقافات الجميع وفي كل جوانب الحياة. كذلك ينبغي ان تتحمل مؤسسات المجتمع المدني مسؤولياتها من خلال عقد الندوات والمحاضرات التثقيفية واخضاع وسائل الاعلام المرئية والمسموعة من اجل تثقيف الشعب واعادة التلاحم بين الانسان العراقي ووطنه.
وفي الختام ، وعلى الرغم من اننا يمكن ان نجد من المواقف السلبية ومن المواقف الباطلة والمتسمة بالسوء والعار والفساد ما هو أعظم بكثير من مواقف الخير والرحمة وبالشكل المهيمن على الحياة في وطننا ، لكن ذلك يجب ان لا يعمل على تثبيط هممنا . حيث يبقى الخيرون من شعبنا العراقي شامخون في الضفة الاخرى من نهر الحياة باذن الله تعالى . وسنبقى نتوشم فيهم الخير والصلاح ونستطيع ان نراهن على بقاءهم بقيمهم الاصيلة التي لن تتغير. وسيبقى شعبنا سامقا ومتألقا وعاشقا لارضه العراقية ولوطن الخير والبركة. وطننا الذي انجب الاطهار من النبيين والمرسلين ، وامتدت قيمهم ورسالاتهم السماوية لتضيئ لنا درب الحياة من اجل أن نتواصل في مسيرتنا مع الخيرين الاحرار في وطننا السامق . وسيعيد التاريخ نفسه فيرتدي شعبنا ثياب العزة والرفعة والاباء . فعراقنا سيبقى وطنا شامخا بعزته القعساء ، كريما بعطاءه ، شهما بمروئته . وعلينا أن نتوكل على الله العلي القدير ونصبر حتى يأتي أمر الله سبحانه ، فهو نعم المولى ونعم النصير ، ومن الله التوفيق .
#أ_._د_._حسين_حامد_حسين (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ماذا يحدث في دمشق بعد عملية طرطوس الأمنية؟
-
أذربيدجان تقيم يوم حداد وطني غداة مقتل 38 شخصا في حادث تحطم
...
-
لقطات جوية لشاطئ دينامو في أنابا بعد كارثة بيئية
-
سلطات البوسنة والهرسك تعتقل وزير الأمن
-
إغلاق مضيق البوسفور أمام حركة السفن
-
-كلاشينكوف- تختبر مسيّرة عسكرية ضاربة
-
في اليوم الـ447 للحرب: الرضّع يتجمدون من البرد في غزة واليون
...
-
القضاء الإداري يقبل طعن المبادرة ضد إلغاء انتداب موظفة بالمج
...
-
-يجب علينا ألا ننتظر ترامب لإتمام الصفقة مع حماس- - هآرتس
-
وفد استخباراتي عراقي يزور دمشق للقاء الشرع (صور)
المزيد.....
-
لبنان: أزمة غذاء في ظل الحرب والاستغلال الرأسمالي
/ غسان مكارم
-
إرادة الشعوب ستسقط مشروع الشرق الأوسط الجديد الصهيو- أمريكي-
...
/ محمد حسن خليل
-
المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024
/ غازي الصوراني
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
المزيد.....
|