الادريسي المهدي
الحوار المتمدن-العدد: 3373 - 2011 / 5 / 22 - 01:55
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
الفلسفه و الاقامه في المطلق
إن الدعوة إلى تجاوز الفلسفة من لدن ماركس، الذي كان يهدف إقامة فلسفة عملية، و أكيست كونت الذي كان يهدف الارتقاء بالفلسفة إلى مستوى الموضوعية، و هيغل الذي عمل على الرغبة في إيجاد وصفة علاجية لإكمال النسق الفلسفي. تجعلنا نتساءل هل هناك موت حقيقي للفلسفة ؟إن موت سقراط لم يكن موتا لأفكاره الفلسفية، بل كان موتا لجسده، لذلك فقد دخلت أفكاره إلى مجال الخلود. هكذا يمكن أن نعتبر أن البوادر الأولى لموت الفلسفة قد تجسدت في موت سقراط، و محاربة العقل، و هذا ما أدى بالفلسفة إلى أن تغترب في عتمات العالم السفلي، مما جعلها ترنو إلى البحث عن ذاتها، و لكنها برزت من جديد في الوجود بعد غيابها زمنا طويلا . كما استطاعت أن تعيد للإنسان الأمل في السعادة و التأمل ومحبة الحقيقة مع ديكارت، الذي يشبه ذلك البحار الذي خاض غمار بحر عميق و مضطرب، و لما وصل إلى اليابسة هتف، آه اليابسة بلغة هيغل. إن محاكمة سقراط كانت في الواقع محاكمة للفلسفة و الفيلسوف، الذي يزعج المدينة بقوله للحقيقة، و لذلك تم اغتيال جسد المفكر. غير انه في موت الجسد اكتمال للنفس، ليصبح موت سقراط هو استمرار للفلسفة و خلودها ،لأنه كيف يمكن أن تستمر الفلسفة و الفيلسوف في نفس الآن ؟ وبعبارة أخرى هل كان من اللازم موت الفيلسوف لكي تستمر الفلسفة ؟ بل يعني أكثر من ذلك، هل يعني هذا الموت إعلان عن نهاية الفيلسوف و أبدية الفلسفة ؟ ولكن كيف يمكن الإعلان فيما بعد عن نهاية الفلسفة ؟ و هل يمكن أن نتحدث عن استمرار الفلسفة بعد موت سقراط ؟
لقد دعا كل من ماركس، و أگيست كونت، و هيغل، إلى إلغاء الفلسفة على اعتباران ماركس كان ينشد إعلاء الجانب العملي، و الرغبة في تكوين معرفة علمية، عملية، قابلة للبراكسيس، لتحل مكان التأمل الفلسفي الفارغ من المضمون، من أجل إقامة هدنة بين الفلسفة و متطلبات الواقع، و بالتالي ربط الفلسفة بالعالم، لأن وظيفتها هي المسائلة، والنقد، وفضح الاستلاب، قصد تحقيق التحرر. أما أگيست كونت، فكان ينادي بنبذ الفلسفة، و التخلي عنها بدل مجاوزتها، بهدف الارتقاء بها إلى مستوى الموضوعية، وبالتالي يضعها في المرحلة الوضعية، التي تتسم بالتفسير العلمي للظواهر. و حتى هيغل دعا إلى تجاوز الفلسفة، معتبرا أن تجاوز الفلسفة بمثابة اكتمال للنسق الفلسفي.
لقد تحول جسد الفيلسوف إلى مومياء تعاد فيها الروح بالليل، ليتذوق توحد الروح بالفضيلة، التي تنشأ في الفلسفة، ومن هنا فلا حاجة إلى البكاء على الفيلسوف٬ لعدم توفره على قبر٬ ولا فائدة من إقامة طقوس التأبين، مادامت روح الفيلسوف خالدة بعد موته٬ إذ ينبغي على الفيلسوف أن " يربي نفسه على الغربة، حتى تصير له وطنا، بل يجب عليه أن يبني في باطنه مدينته الفاضلة، مادامت أنه من المستحيل أن توجد على أرض جاهلية، هكذا تصبح المدينة الفاضلة ممكنة التحقيق، لكن في روح الفيلسوف " . لقد غدا الفيلسوف يزعج الناس بأفكار ما بعد حداثية، تعمل على خلخلة المبادئ، والعادات، والتقاليد٬ والذي ساهم في بروز تفكير نقدي، يساءل كل شيء ولا سيما الأسس الراسخة٬ لذلك عمل الناس على إقامة رمس للفيلسوف، بهدف التأكد من موته، وبالتالي الإحساس بالاطمئنان. غير أنه في كل موت حياة أخرى، لان كل موت يدشن ببعث جديد، وبالتالي لقد آن الأوان لنتوسل إلى الفيلسوف ليمنحنا تربة نتبرك بها من جدران مدينته الفاضلة، و ما دامت الفلسفة خالدة بعد موت الفيلسوف، فكيف تستطيع الفلسفة التخلي عن المنبع الذي ولدت من بؤرته الذي هو الإنسان ؟ لا يجادل أحد في كون الفلسفة قد تزامنت مع ظهور الإنسان وبالتالي فهي وحدها قادرة على إضفاء معنى على وجوده البشري، وما دامت الفلسفة هي الإنسان .
إن الفلسفة تساهم في الطفرات النوعية التي يشهدها العالم، كما تدعو إلى هدم الأوهام، وتحطيم صنم الإيديولوجيا. ليس بإمكان العالم أن يستمر في الوجود الحضاري بدون فلسفة، إذ يرى هيغل أن ولادة الثورة الفرنسية تمخضت من رحم الفلسفة، إنها كانت بمثابة ترجمة لمبادئ العقل في الواقع، غير أنه انتقد الثورة الفرنسية رغم توحده مع نابوليون، لأنها جاءت بحرية لا غائية لها، سوى تحقيق ذاتها، مضمونها فارغ، لأنها رفعت شعار "العالم إرادتي"، وفيها يحتكم الإنسان إلى رغباته، على عكس الثورة الأمريكية التي كانت تعلي من القدرة على الإرادة، كما أن الثورة الفرنسية قد عملت على تكريس ثقافة الرعب، من خلال تجليات حريتها المطلقة، مما أدى إلى النسف بالحداثة، وبزوغ فلسفة ما بعد حداثية تساءل فكر الأنوار، وتفككه، وتحطم صنمه، و بهذا تمت إعادة النظر في الإيمان المتجاوز للعقل، إن الحداثة لم تعمل على تحرير الإنسان، بقدر ما خلفت إنسان خانع، مروض، صامت سياسيا، منتج اقتصاديا، مفعولا به، حسب فوكو، وبهذا فقد عملت على بناء تابوت للإنسان، وإقباره في مملكة النسيان، ليغدو التاريخ في فكر ما بعد الحداثة لا غائية له. مما يدفعنا إلى التشكيك في الحداثة، التي أنشأت لصوص العقول البشرية ، وبالتالي اتخاذ الشك المنهجي كمرحلة مؤقتة لتمحيص الفكر الحداثي، الذي تم تجاوزه، لبلوغ مرحلة الوعي الذاتي، وللتساؤل مرة أخرى عن مهمة الفلسفة، لنستشف أنها تقوم بتقويم اعوجاج التفكير، و ترسيخ ثقافة الحوار، عن طريق تأسيس الديمقراطية، لأن الفلسفة علم للاختلاف٬ والتسامح٬ والحوار بين الأديان٬ و الثقافات، والحضارات، و هذا ما أومئ إليه الفيلسوف معتبرا أن للفلسفة مهمة عملية تتجلى في الدفع بالإنسانية نحو بلوغ التنوير، و التحرر، و التخلص من الاستلاب، وإدماج المواطن السياسي بالعمل على المشاركة في تشريع القوانين، بل إن " الفائدة من الفلسفة هي إسعاد الإنسان، من خلال توجيهه نحو امتلاك عقله، و تحريره من العبودية، لكي يصبح قادرا غلى تدبير مدينته سياسيا، و ثقافيا، إن الفلسفة أو محبة الحكمة، هي العلم الوحيد الذي ساهم في نقل الإنسانية، من القرون الوسطى إلى عصر النهضة، إلى التنوير، إلى الحداثة، و ما بعدها " . تعمل الفلسفة إذن على الرغبة في التجديد الديمقراطي، والسياسي للمجتمع، وكم حري بنا أن نعمل على إحياء أعراس ثقافية تتغيى تقويم العقل، تقبل الآخر المختلف معنا، وبالتالي إقامة حوار مع الفلسفة الغربية. فكيف ينبغي التعامل مع الحداثة ؟ هل ينبغي رفضها، والتشكيك في أسسها، كما فعل كل من فوكو، و دريدا، و هيدغر، و دولوز، و فاتيمو، أم ينبغي التصالح معها واقتفاء أثرها كما عمل هابرماس، الذي دعا إلى أن مشروع الحداثة وإن لم يحقق كليا مأرب فلاسفة الأنوار، فقد حقق ولو جزئيا بعض المطالب الإنسانية، مثل الحرية والمساواة... وبالتالي نبقى مخلصين أوفياء للحداثة، ونخضعها هي كذلك للمساءلة، والنقد اعتمادا على أسس العقل الحديث.
الادريسي المهدي. باحث في العلوم السياسيه .
#الادريسي_المهدي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟