|
في نقد السؤال عن البديل في سورية
ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن-العدد: 3369 - 2011 / 5 / 18 - 14:52
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
بينما يتسع نطاق الانشغال الدولي بالوضع السوري، يتواتر أن يتساءل المهتمون عن البديل المحتمل عن النظام الحالي. وتتراوح الإجابة بين القول إن البديل غير واضح أو غير موجود أو غير آمن. تريد هذه السطور التحفظ عن النظر إلى الشؤون السورية من هذه المدخل، وأنه يؤدي إلى خلاصات تبرر الأوضاع القائمة. وندافع عن الحاجة إلى مقاربة أكثر ديناميكية وتاريخية، مبنية على إحاطة أفضل بالأوضاع السورية المعاصرة، ولا تضع نفسها فوق مستوى العمليات الجارية في البلد، وبخاصة الحركة الاحتجاجية المستمرة في البلاد منذ شهرين. لقد ثابر النظام البعثي، وعبر صفحتيه الأسديتين بصورة خاصة (1970-2000، ثم 2000-...)، على قطع أية رؤوس سياسية مستقلة ينتجها المجتمع السوري، وذلك بطريقتين: استتباع بعض الأحزاب والتنظيمات وإفقادها استقلالها، وقمع وتحطيم أحزاب وتنظيمات أخرى. بعد انقلاب 8 آذار 1963 بوقت قصير انقض العسكريون البعثيون على شركائهم الناصريين وحطموهم. وبعد قليل أضعفوا القيادة المدنية لحزب البعث نفسه، قبل أن ينفرد العسكريون بالحكم في 23 شباط 1966. وجرى ضرب الإسلاميين عام 1964 في حماة، وضُيِّق على قياداتهم السياسية في دمشق. وفي مطلع السبعينات تم تأسيس "الجبهة الوطنية التقدمية" لتكون إطارا لتبعية عدد من الأحزاب الناصرية والشيوعية. وفي أواخر السبعينات تم سحق الإسلاميون بعنف فائض، ثم ألحق بهم الشيوعيون المعارضون. وطوال عقدين من السنين جرى تفريغ البلاد من الحياة السياسية والثقافية، وفرض النظام ذاته مرجعا وحيدا وممرا إلزاميا وحصريا لتفاعلات السوريين. وفي مناخات أقل تقييدا في مطلع هذا القرن بادر مثقفون ومعتقلون سياسيون سابقون، وبمشاركة ما بقي حيا من تنظيمات سياسية، إلى إطلاق حركة المنتديات وحاولوا الاستحواذ على قسط من المجال العام، إلا أن وقتا قصيرا انقضى قبل أن يضرب النظام حركة "ربيع دمشق" هذه، ويعتقل بعض أبرز الناشطين في إطارها. ومِثل ذلك جرى لمبادرات سياسية أخرى مثل "إعلان دمشق- بيروت" 2006، وانعقاد المجلس الوطني لـ"إعلان دمشق" في أواخر 2007. وعلى هذا النحو جرى منع المجتمع السوري من إنتاج قيادات سياسية وفكرية وأخلاقية مستقلة. ومن ظلوا في البلاد من المشتغلين بالشأن الوطني العام كانوا إما معزولين بشدة فلا يكاد يكون لهم أثر، أو مضطرين لأشكال متنوعة من المداراة والرقابة الذاتية، ما يضعف أثرهم أيضا. ما نريد قوله هو أن النظام عمل بوعي على أن يكون هو البديل الوحيد عن نفسه، وذلك أمام السوريين أنفسهم وأمام العالم ككل. وأن من شأن مقاربة الأوضاع السورية الراهنة من زاوية البديل الناجز أن تخفي عن الأنظار أن ضعف وتشتت البدائل هو نتاج تصحير سياسي دؤوب للمجتمع السوري. وحين تخلص هذه المقاربة إلى أنه لا بديل جاهزا في سورية، وهذا صحيح، فإنها تكون بمثابة مكافئة للنظام على إعدامه البدائل، وتغريم للمعارضين يضاف إلى ما تعرضوا له على الدوام من تحطيم وإضعاف. ما تخفق فيه هذه المقاربة إخفاقا تاما هو أن دوام الأوضاع السياسية الحالية لا يعد إلا بمزيد من الإفقار السياسي وإضعاف البدائل، ومن حصر خيارات السوريين بين النظام ذاته والفوضى العارمة. وتاليا يبقى سؤال البدائل قائما دوما، بينما يتفاقم التعقيم السياسي للبلاد. كان يمكن لهذه المقاربة أن تكون مشروعة لو أن فرص حياة سياسية مستقلة في البلد تتسع، وأنه خلال سنوات ربما نشهد جيلا جديدا من المنظمات السياسية ومن القيادات والكوادر السياسية المستقلة. والحال أن هذا غير صحيح، بل وليس من المتصور أن تتوفر فرص حياة سياسية مستقلة دون تغير البنيان السياسي الحالي، القائم على احتكار السياسة وطرد عموم السوريين من ملعبها. وعلى هذه الصورة تتشكل دائرة مغلقة: التصحير السياسي للمجتمع السوري يضعف البدائل، وضعف البدائل يجعل النظام هو البديل الوحيد عن نفسه، ما دامت الفوضى أمرا غير مرغوب، داخليا وخارجيا. ولا مخرج من هذه الحلقة المفرغة إلا بكسر الأوضاع التي لا تنتج غيرها، أي بتغيير هياكل السلطة القائمة ونمط ممارسة السلطة الذي تواظب عليه. إلى ذلك فإن وضع سوريا في هذا الشأن ليس فريدا في بابه. لم تكن هناك بدائل واضحة جاهزة في مصر أو في تونس. لكن يبدو أن البلدين يتدبران أمرهما، ليس دونا صعوبات، وليس دون مشكلات جديدة وأوجه قصور أخرى. والواقع أن نماذج التغير السياسي التي نعرفها منذ نحو ربع قرن وأكثر تفيد أن التغيير هو من ينتج البدائل، وليست البدائل الجاهزة هي من تحدث التغيير. ولقد رأينا خلال شهري الانتفاضة أن سورية، البلد الذي جرى اختزاله طوال عقود بشخص واحد، يتحلق حوله حفنة من الأعوان، هو بلد واسع، فيه طلاب حرية بمئات الألوف، وفيه معارضون كهول وشبان، ونساء ورجال، وفيه أناس يعتقلون ويتعرضون للتعذيب (فوق عشرة آلاف معتقل اليوم خلال الشهرين الماضيين)، وأن الرقعة الجغرافية والاجتماعية للاحتجاج واسعة، تخترق مدنا وبلدات بالعشرات دخلت أسماءها تداول العالم في كل مكان... أي هو مجتمع أكثر اتساعا وتركيبا من الأطر السياسية الجامدة الضيقة، المفروضة عليه بالقوة منذ عقود. وهذا مجتمع ليس معقما سياسيا رغم كل شيء بالدرجة التي تبدو للمراقب الخارجي، ولا بالدرجة التي أمل النظام بلوغها. وفي المجمل تبقى هذه المقاربة البدائلية، إن صح التعبير، أسيرة منطق دائري سكوني، يبرر الواقع القائم (الستاتيكو) بعدم وضوح البدائل. وهي سكونية من وجه آخر: لا تتيح بلورة سياسيات فعالة تتعدى إقرار الواقع لأي طرف ينطلق منها. ما يمكن أن يكون مقتربا ديناميا من الأوضاع السورية هو إيلاء الاهتمام للفاعلية الاحتجاجية، ومجمل الأنشطة العاملة على كسر الديمومة العقيمة الحالية، والمتطلعة إلى أوضاع جديدة أكثر انفتاحا وحرية. ليس ما بعد النظام الحالي في سورية هو ديمقراطية ناضجة. هذا أكيد، ولا ينبغي أن يكون ثمة سؤال هنا. السؤال هو: هل يخدم استمرار نظام يجعل من بقائه الذاتي أولوية الأولويات أية قضية عامة؟ هل يتحقق لسورية قدر أكبر أم أقل من التفاهم الوطني، ومن التقدم الاجتماعي والاقتصادي، ومن الكرامة الإنسانية والوطنية، إذا كتب للهياكل السياسية الحالية "الاستمرار والاستقرار"؟ هل يغدو المجتمع السوري أكثر تأهيلا للديمقراطية أم أقل إذا بقي النظام؟ أما إذا تغير؟ هنا أيضا ليس ثمة سؤال.
#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ثورة ضد الإقطاعيين الجدد
-
العودة إلى الوراء ممتنعة، التقدم إلى الأمام صعب، لكن لا بد م
...
-
في بعض أصول الأزمة الوطنية السورية الراهنة
-
الديمقراطية أو البريرية؟ لا بديل آخر
-
حوار: اللي يجرب المجرب...!
-
سجين دمشق
-
الانتفاضة الشعبية وإعادة بناء النظام السياسي في سورية
-
أزمة وطنية يمكنها أن تكون فرصة تجدد وطني
-
حوار عن سورية
-
من السلطة الشخصية الدائمة إلى الجمهوريات الجديدة
-
قٌضايا الإصلاح الوطني في سورية، ورقة نقاش
-
-لاستقلال الثالث- وأفق الثورة الثقافية
-
من الوطنية الممانعة إلى الوطنية الديمقراطية
-
قضايا في شأن تونس الجديدة
-
فرِّق تسد، خوِّف تأمن، اعزل تدم!
-
الخطة الشعبية المجرّبة لإسقاط الأنظمة المتجبرة
-
في شأن الثورات العربية والاحتمالات السورية
-
العرب، الرابطة العربية، القومية العربية: نظرة جديدة في أوضاع
...
-
مصر وتونس، ونهاية عالم ما بعد 11 أيلول!
-
غياب -الأجندات- ليس فضيلة ثورية
المزيد.....
-
-عيد الدني-.. فيروز تبلغ عامها الـ90
-
خبيرة في لغة الجسد تكشف حقيقة علاقة ترامب وماسك
-
الكوفية الفلسطينية: حكاية رمز، وتاريخ شعب
-
71 قتيلا -موالين لإيران- بقصف على تدمر السورية نُسب لإسرائيل
...
-
20 ألف كيلومتر بالدراجة يقطعها الألماني إفريتس من أجل المناخ
...
-
الدفاع الروسية تعلن تحرير بلدة جديدة في دونيتسك والقضاء على
...
-
الكرملين يعلق على تصريح البنتاغون حول تبادل الضربات النووية
...
-
روسيا.. اكتشاف جينات في فول الصويا يتم تنشيطها لتقليل خسائر
...
-
هيئة بريطانية: حادث على بعد 74 ميلا جنوب غربي عدن
-
عشرات القتلى والجرحى بينهم أطفال في قصف إسرائيلي على قطاع غز
...
المزيد.....
-
المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية
/ ياسين الحاج صالح
-
قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي
/ رائد قاسم
-
اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية
/ ياسين الحاج صالح
-
جدل ألوطنية والشيوعية في العراق
/ لبيب سلطان
-
حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة
/ لبيب سلطان
-
موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي
/ لبيب سلطان
-
الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق
...
/ علي أسعد وطفة
-
في نقد العقلية العربية
/ علي أسعد وطفة
-
نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار
/ ياسين الحاج صالح
-
في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد
/ ياسين الحاج صالح
المزيد.....
|