|
-المنسيون-.. بقايَا ذكرى وبقايَا جُرح..
صباح كنجي
الحوار المتمدن-العدد: 3365 - 2011 / 5 / 14 - 21:10
المحور:
الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية
قبل اشهر اتصل بيّ عبر الهاتف من محطة بين العراق والمهجر شاب في طريقه للهجرة موضحاً وهو في غاية الحرج.. انه شقيق الشهداء أبو ماريا و كاروان.. واستنجد بشيء من الخجل بيّ ومن خلالي برفاق شقيقيْه وأصدقائهم طلباً المساعدة الممكنة كي يواصل مشواره ويصل إلى البلد الذي ينوي التوجه إليهِ... تذكرتُ شقيقهُ الكبير بير جوقي(أبو ماريا) الذي كان من بين شغيلة إدارة وحراسة مقر محلية الموصل للحزب الشيوعي العراقي أثناء العمل العلني في منتصف السبعينات.. وتذكرتُ أيضا خصاله واندفاعه وانضباطه واستعداده اللا متناهي لتقديم ما يمكن أن يقدمه كل من يطلب منه المساعدة.. إذ كانَ يتمتعُ ويتباهى بمساعدة الناس كل الناس، في المقدمة منهم رفاقه.. أبو ماريا كان دائم الابتسامة.. لم أجدهُ يوماً عصبياً أو يتخاصمُ مع من حوله.. كان صديقاً مُحَبباً للكل، والكل يودهُ ويعتز به... مع استفحال الهجمة الإرهابية البعثية على الشيوعيينعام1978 وسَد وإغلاق مقراتهم وزوال فترة العمل العلني انقطعت أخبار أبو ماريا.. ليفاجئنا ذات يوم بوصوله إلى محطة للأنصار ليعلن التحاقه... حدثني عن تسفيره للخطوط الأمامية في الجيش مع اندلاع الحرب العراقية الإيرانية.. وتمكنه من إقناع الطبيب بحالة مرضية أفتعلها كي يُرسل للخطوط الخلفية ومنها توجه في إجازة مؤقتة للراحة بعد أن حصل على إجازة لمدة أسبوع بقي فيها يومين مع زوجته ووالدته وأشقائه قبل أن يتوجه إلينا في سهل الموصل ليرافق مجموعة الأنصار نحو مقرهم الشهير في مراني بين شعاب جبل كارة الأشم.. بين الأنصار في مراني والمفارز الجوالة كان أبو ماريا نموذجاً للشيوعي الملتزم.. والنصير المنضبط.. المتفاني.. المتفائل.. الضحوك.. كالماء الرقراق ينزلق بين الصخور وينتقل من وهد لآخر.. هكذا كان أبو ماريا ينتقل بين مجاميع الأنصار يضحكُ ويُضحكهم في أقسى الأوضاع وأصعبها.. وفي كل يوم كانت المودة بينه وبين الآخرين تزداد وتتعمق.. هكذا ألفناهُ وأحببناهُ بلا حدود.. وأحببنا شقيقه الوديع كاروان الذي التحقَ هو الآخر بعد اشهر من مجيء أبو ماريا إلى الجبل، قبل أن يقدم النظام الدكتاتوري على ترحيل وتسفير العوائل وإبعادهم إلى كردستان في شتاء عام 1986.. بينهم داي هوري والدة أبو ماريا وكاروان.. تلك الأم المثالية التي أنجبت وربت أبنائها وأرضعتهم طيبة وإخلاص وأغدقت عليهم حباً وحناناً يفيضُ من عَرق كدحها بعد وفاة والدهم... عَدَتْ الأيام .. تسارعَ الزمن... لم يمضي إلاّ وقت قصير لا يتعدى الأيام على التئام شملهم في الغرفة الصغيرة في قرية ميزي حينما توجهت مفرزة نحو سهل الموصل في قوامها أبو ماريا.. لتستقر بعد عناء السفر لسويعات قليلة للراحة عند منتصف الطريق بين بير موس وكلي كورتك.. اسْتغله البعض منهم لتناول شيء من الطعام الذي حملوه في حقائبهم الصوفية.. وعند استعدادهمْ للحركة فاجأتهم الطائرات السمتية وهي تطلق نيران رشاشاتها وصواريخها لتردي دفعة واحدة مع أبو ماريا ثمانية من رفاقه المتأهبين للانطلاق... كانت كارثة لا بل مجزرة حقيقية... لم نتمكن من إخفاء الخبر عن داي هوري.. وحينما تقرر مفاتحتها بفقدان ابنها البكر تماسكت داي هوري .. لجأت للسكينة.. لذلك النوع العميق من الحزن.. دفنت مشاعرها.... لا بكاء ولا نواح.. هدوء وسكينة وامتناع عن الطعام والحزن الصامت... في هذا الجو الصامت بعد أيام فقط... اغتيل ابنها الآخر النصير كاروان على بعد أمتار منها في ذلك المساء الأسود وهو ذاهب ليجلب خميرة لبن من بيت جيرانهم.. استقبلته رصاصات الغدر ليموت من جراء نزيف حاد في ساعده لم ينفع معه تدخل الدكتور جهاد الذي وصل إلى مكان الحادث بعد ساعتين فقط.. ساعتين كانت كافية لكي تستنزف مع دمه روحه... كان أقسى ما في الأمر حالة داي هوري وهي في حزنها المتداخل بين بكرها أبو ماريا وشقيقه الآخر كاروان.. هاهي هي تفقد ابنيها الواحد تلوى الآخر.. تفقد الاثنين تباعاً في زمن مختزل وفترة مختزلة يتكثف فيها الحزن والصمت.. انه حزن داي هوري.. ومعها مام أحمد الذي فقد ابنيه جاسم وجميل هو الآخر في ذات الفترة.. أبو ميفان الشهيد جاسم اغتيل وهو في طريقه إلى البيت في قرية سواري بالقرب من وادي آفوكي، وأبو هلال الشهيد جميل في حادثة الطيران مع أبو ماريا.. مام احمد هو الآخر تظاهر بالتماسك والكبرياء.. لم "يذرف" دمعة على فلذات كبده، على الأقل أمامنا.. وهو ما فعلتهُ أم الشهيد سلام (حميد دخيل) هي الأخرى في لحظة تلقيها لنبأ استشهاد سلام .. هذه المفارقة... تدعوني لأستذكر تفاصيل تلك الأيام.. أعود بذاكرتي إلى أجوائها.. حينما اصطحبنا مساءً داي هوري إلى مسكن من غرفة واحدة شيدناه لام عمشة وأطفالها قبل أيام.. لم تنم داي هوري ليلتها.. تماماً كما فعل مام احمد وأم سلام... لم تبكي داي هوري أمامنا... كانت تبكي في أعماقها.. جوارحها تتقطع من الألم.. أنها تنزف ما هو أعمق من الحزن.. أحسستُ ذلك من خلال شعاع عينها... ورجفة شفتيها وحركة يدها... قالت مودعة لنا في اليوم الثاني: ـ لم يبقى لي شيء هنا.. وصعدت إلى الجرار الزراعي المتوجه إلى قرى الدشت... كنت حينها موقناً أنها تركت شيئاً من فؤادها وقلبها المنشطر بين نقطتين ليمتد بين كلي كورتك حيث استشهد أبو ماريا ورفاقه ودربونة زقاق في قرية ميزة التي كمن في زاوية منها القتلة الأوغاد لكروان... بين هذا الزمن وتلك الأيام .. ثمة محطة أخرى من أيام الانتفاضة في ربيع عام1991، حينما وصلنا القوش والشيخان كأول مجموعة أنصارية تقود الانتفاضة، بعد أن مَرَرنا بزاخو ودهوك ومجمع شاريا.. جاءنا فرمان شقيقهم الثالث مع صديقه خيري مراد شقيق كسر ليحرسوا المقر الذي افتتحناه في مركز قضاء الشيخان... هاهو فرمان يستنجدُ بيّ ومن خلالي بأصدقاء أشقائه طلباً المساعدة... كان الأقسى في هذه المهمة.. حينما قالَ لي البعض.. للأسف أنا لا أتذكر أبو ماريا أو كروان أو لا أعرفهم... لكنهم ابدوا في ذات الوقت استعدادهم للمساهمة وتقديم المساعدة المطلوبة... وقبل أن اشكر من لبى ندائي.. أقول: ليتني كنتُ قادراً على النسيان.. فذاكرتي تأبى أن تطاوعني.. مع أبو ماريا وشقيقه كاروان وأبو هلال وشقيقه جاسم وسلام الذين غادروا في فترة متقاربة ثمة.. سلسلة طويلة من الأسماء تترافق معها ذكريات تبدأ من أشقاء ولدتهم أمي فقدوا معها بعد حين من تلك الأيام وأولاد عم وأقرباء وأصدقاء كانوا لا يقلون منزلة عن الأشقاء.. أصدقاء ورفاق أنصار جمعتنا مواقف صعبة وإحداث حلوة ومرة.. كانوا بشراً ينزون حياة وتفاؤلاً وصدقاً لا يمكن نسيانهم.. من يستطيع أن ينسى عادل حجي قوال (أمين) أو ودود شاكر (أبو رستم).. فاضل استيفو( سنحاريب).. دلير .. مهمد مشكو.. درمان خدر.. ياسين.. نبيل .. دلبرين.. شيخة رسول.. موناليزا أمين.. سندس.. لينا.. عاصف.. مناضل ..سربست ..أبو سمرة ..أبو علي.. علي خليل.. أبو فؤاد.. حجي خورمة.. ..أبو نصير ..سليم.. منيف.. سلمان.. سعد.. خيري.. منير.. كفاح.. أبو سحر ..أبو كريم.. دكتور عادل.. أبو ظفر.. أبو آذار.. بير كوران.. رزكار.. توفيق الحريري.. أبو سلام .. أبو فارس.. ميديا.. والعشرات والمئات من الأسماء التي ما زالت تنزُ بها ذاكرتنا كل يوم.. صباح كنجي منتصف ايار2011
#صباح_كنجي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
إلى صديق غاب من بيننا ولم يرحل..إلى أبو جنان في ذكراهُ الأول
...
-
كتاب عن الفرمانات الإسلامية ضد الأيزيديين ..!
-
جذور الاستبداد الشرقي والكفاح من أجل الحرية والانعتاق
-
مَلامِحُ عصر جديد..
-
برقيات زمن التغيير العاصف..1
-
نخب مصر... لقد انتحر مبارك!
-
أثيل النجيفي* في ألمانيا.. وهذا الخبر المَسْخرة!!
-
آفاق التطور السياسي اللاحق في العراق..2
-
مبادرة تستحق الدعم..
-
آفاق التطور السياسي اللاحق في العراق
-
محنة الولادة والخيار الصعب في رواية هوركي أرض آشور*
-
هل هناك من ضرورة لبقاء حزب للشيوعيين في العراق ؟!..6
-
في الذكرى الواحدة والعشرين لرحيل الاديب والقاص جمعة كنجي
-
هل هناك من ضرورة لبقاء حزب للشيوعيين في العراق ؟!..5
-
هل هناك من ضرورة لبقاء حزب للشيوعيين في العراق ؟!.. 4
-
بنادق وقرى يوسف أبو الفوز *
-
هل هناك من ضرورة لبقاء حزب للشيوعيين في العراق؟!..3
-
هل هناك من ضرورة لبقاء حزب للشيوعيين في العراق؟!..2
-
هل هناك من ضرورة لبقاء حزب للشيوعيين في العراق؟!
-
لقاء مع هوشنك بروكا..
المزيد.....
-
بيان للمكتب السياسي لحزب التقدم والاشتراكية
-
«الديمقراطية» ترحب بقرار الجنائية الدولية، وتدعو المجتمع الد
...
-
الوزير يفتتح «المونوريل» بدماء «عمال المطرية»
-
متضامنون مع هدى عبد المنعم.. لا للتدوير
-
نيابة المنصورة تحبس «طفل» و5 من أهالي المطرية
-
اليوم الـ 50 من إضراب ليلى سويف.. و«القومي للمرأة» مغلق بأوا
...
-
الحبس للوزير مش لأهالي الضحايا
-
اشتباكات في جزيرة الوراق.. «لا للتهجير»
-
مؤتمر«أسر الصحفيين المحبوسين» الحبس الاحتياطي عقوبة.. أشرف ع
...
-
رسالة ليلى سويف إلى «أسر الصحفيين المحبوسين» في يومها الـ 51
...
المزيد.....
-
سلام عادل- سيرة مناضل - الجزء الاول
/ ثمينة ناجي يوسف & نزار خالد
-
سلام عادل -سیرة مناضل-
/ ثمینة یوسف
-
سلام عادل- سيرة مناضل
/ ثمينة ناجي يوسف
-
قناديل مندائية
/ فائز الحيدر
-
قناديل شيوعية عراقية / الجزءالثاني
/ خالد حسين سلطان
-
الحرب الأهلية الإسبانية والمصير الغامض للمتطوعين الفلسطينيين
...
/ نعيم ناصر
-
حياة شرارة الثائرة الصامتة
/ خالد حسين سلطان
-
ملف صور الشهداء الجزء الاول 250 صورة لشهداء الحركة اليساري
...
/ خالد حسين سلطان
-
قناديل شيوعية عراقية / الجزء الاول
/ خالد حسين سلطان
-
نظرات حول مفهوم مابعد الامبريالية - هارى ماكدوف
/ سعيد العليمى
المزيد.....
|