كفاح حسن
الحوار المتمدن-العدد: 3362 - 2011 / 5 / 11 - 19:44
المحور:
الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية
علي جبر ..[عادل ليبرالي]
فارس كربلائي في وديان قنديل
في مطلع أيلول 1983 وقفت أمام قاعة بنيت على عجل من صخور وديان قنديل, احترق سقفها المصنوع من غصون الأشجار و سيقان أشجار الحور المغطاة بالطين. عند هذه القاعة أفتقد عادت ليبرالي في الأول من آيار 1983. لقد أغرورقت عيناي بالدموع, و أنا أبحث بين الأنقاض عن أي أثر لزميل دراستي و ابن مدينتي علي جبر.
عند القاعة توقفت منبهرا, فكيف قاد المصير علي الى هذا الفخ. و عند القاعة تدكرت والدته أم كاظم المكافحة, بائعة الخضار في سوق العلاوي في كربلاء. امرأة هجرها زوجها تاركها لتعيل أبنائها الأربعة بمفردها. أكبرهم كاظم الذي ترك العائلة ليلتحق بالعمل السياسي في أواخر ستينيات القرن الماضي, و لتقوده قدماه هربا من ملاحقة الأمن و المخابرات نحو جبال حصاروست, حيث مقرات أنصار الحزب الشيوعي.
كانت تخرج مبكرة الى علاوي المخضر في وسط المدينة لجلب حصتها من الخضروات. ثم لتفترش الأرض في سوق العلاوي لتبيع بضاعتها. و في العصر تنشغل بامور المنزل و الأولاد حتى ساعة متأخرة من المساء. لقد جعلتها صعوبة العيش امرأة شجاعة و جريئة. و قد سمح والدي لها بافتراش الأرض مقابل دكانه لتبيع بضاعتها. و لكنه سرعان مابدأ يحذر منها, لجرأتها و سلاطة لسانها في انتقاد نظام البعث البائد و جلاوزته بشكل علني. خاصة بعد انتحار نجلها البكر كاظم بعد خروجه من المعتقل متأثرا بجراح مستديمة بسبب من التعذيب الشرس.
في اعدادية كربلاء, جمعتنا الدراسة و العمل السياسي. ففي مطلع السبعينيات. حيث لم يحضى البعث بسلطة وسط مثقفي و طلبة المدينة. و قد خطط البعث لتقليم أظافر التنظيمات السياسية العاملة في المدينة. حيث كانت في كربلاء نشاطات واضحة و قوية امختلف الأحزاب. فالى جانب الشيوعيين, نشط القوميين و الاسلاميين. و لم يكن البعث مقبولا في المدينة, نظرا لذاكرة أهل المدينة الطرية عن جرائم البعث في مدينة كربلاء خلال انقلاب شباط الدموي في 1963. فلم يتردد البعثيين من اغتصاب بنات المدينة في مبنى المكتبة العامة الذي تحول الى معتقل أداره مجرمي الحرس القومي و ارتكبوا فيه أفضع الجرائم. و بعد استيلاء البعث على السلطة في 1968 , كان معظم البعثين في المدينة من المناصرين للتيار السوري, فلاحقتهم قوات الأمن, و تعرضوا لتعذيب فضيع. كما التهم النظام الدموي التنظيمات القومية في المدينة,
و في نفس الوقت, واصلت العائلة الشيرازية سعيها للعب دورا سياسيا في المدينة, فمهدت لتشكيل منظمة العمل الاسلامي, التي تصادمت مع النظام و أزلامه. الا انها في نفس الوقت كانت تنظر للشيوعيين كأعداء لها, رغم ان منظمة الحزب الشيوعي في المدينة لم تصطدم معهم أو تعاديهم.
و في خضم الأحداث, افتعل البعثيون في الاعدادية شجار داخل الحرم المدرسي, لينتهي الأمر بفصلي و فصل علي جبر لمدة اسبوعين بتهمة الاخلال بالحرم المدرسي. لقد كان هذا القرار أول تمرين لنا [أنا و علي] في بكرة انغمارنا في العمل السياسي. و كان لقرار الفصل هذا دورا مهما في صقل وعينا السياسي و في تصعيد روح التحدي داخلنا. و عندما عدنا لمقاعد الدراسة بعد الاسبوعين, استقبلنا الطلبة استقبال الأبطال.
لقد دربتنا كربلاء بجوها و سحرها على العمل السياسي المضني. فالتنوع الديني و السياسي في المدينة ترك أثره فينا. حيث تنوعت المدارس الدينية فيها. فمن كربلاء انطلقت المدرسة الشيخية التي تعتبر ثورة على المذهب الشيعي التقليدي. من هذه المدرسة برزت قرة العين, البطلة التي تحدت المجتمع الرجولي, و حمتها كربلاء. و لكن أزلام رجال الدين تمكنوا من قتلها بشكل سادي خلال زيارة لها لضاحية الكاظمية في بغداد.
و في كربلاء يقع مركز الهنود البهرة, و هم شيعة هنود لديهم طقوس دينية تجمع مابين الديانة الاسلامية و الديانة المجوسية. لقد تعايشت في كربلاء مختلف المذاهب و الطوائف سوية دون حساسية أو اصطدام. فجامع السنة في شارع النجارين وسط المدينة بناه أهل المدينة. و كانت أسواق المدينة تغص بزائريها من مختلف أرجاء البلاد. فلقد اعتاد البدو ارتياد سوق العرب حيث يبتاعون هناك ملابسهم مرة في السنة. و يزدحم سوق الصاغة و سوق التجار [العجم] الواقع مابين الضريحين. وكذلك هو الحال في سوق العلاوي و عند الزينبية و الخيمكه. لقد كان العمل في هذه الأسواق ممتعا لما يحمله من تلاقي مابين ثقافات و عادات مختلفة منصهرة في بوتقة واحدة.
و لذلك تعرضت المدينة لهجمتين حاقدين و غادرتين من العصابات الوهابية في مطلع القرن الماضي. حيث سلب الوهابيون أموال المدينة و حطموا أسواقها. و كذلك عاداها البعثيبن, رغم ان أول خلية لحزب البعث في العراق شكلت في كربلاء في أواخر أربعينيات القرن الماضي, فدنسوا حرمتها خلال زيارة الأربعين في عام 1977, و خلال الانتفاضة الشعبانية, عندما ارتكبت قوات البعث مجازر يندى لها الجبين البشري.
و من طريف الأمر, تقاسم الأحزاب و المنظمات السياسية العاملة في المدينة لأحياءها, فمنطقة العباسية للشيوعيين. و باب الخان للقوميين وهكذا.
و كانت أم كاظم و أبناءها في وضع اقتصادي صعب, فسكنوا في بستان من جهة باب طويريج. حيث سكنت في غرفة متواضعةفي البستان هي و أولادها. و تحولت هذه الغرفة الفقيرة الى مقر لأجتماعاتنا الحزبية. و كم كانت أم كاظم فرحة و فخورة بقدومنا. و كانت حريصة على أن تضيفنا بأتم الضيافة. و كانت تتمنى لأولادها النجاح في الدراسة و الحصول على شهادة تساعدهم في ولوج ظروف معيشية أفضل مما هم عليه.
و في منتصف 1978 أعدم البعث مجموعة من الشيوعيين بتهمة العمل في الجيش. و في نفس الوقت, شن البعث هجمة شرسة على منظمات الحزب القاعدية في جميع المحافظات. و لم بكن أمام علي جبر سوى خيارين, اما التسليم للبعث أو الالتحاق بقوات الأنصار. و بدعم من والدته اختار الطريق الصعب, طريق المقاومة و الالتحاق بقوات الأنصار.
من كربلاء المتنوعة بثقافاتها و سحرها و جمال صباياها الى جبال العراق الشماء في شماله الحبيب. و لقد اختار اسم حركي له [عادل] تيمنا بصديق له استشهد تحت التعذيب في أقبية أمن كربلاء. و كان في موقع الأنصار الذي التحق به أكثر من نصير يحمل اسم عادل, فعرف بعادل ليبرالي لتمييزه عن الآخرين. و لقب ليبرالي يختلط المدح و الذم. فوفق التقاليد الحزبية الصارمة, يعتبر لقب سيء يشير الى انعدام الانضباط الحزبي و تسريب الأخبار الداخلية. و من جهة أخرى وسط صفوف الانصار, فلقبه يعني بأنه رفيق منفتح و غير كتوم. و لجأ علي جبر الى طريقة كربلائية روزخونيةفي تسريبه للأخبار. حيث يعتاد رجال الدين في المدينة عندما تطرح عليهم قضية يصعب البت بها, الطلب من الآخرين التريث. و في اليوم التالي, ينقل رجل الدين خبر حضور أحد الأئمة المعصومين في منامه و جوابه على القضية المطروحة. و عند معظم المدارس الشيعبة, يعتبر هذا المنام حقيقة, و حضور و حديث الامام صحيح. و هكذا يسرب علي جبر الخبر, فعند مائدة الفطور الجماعية, يتحدث عن حلم حضر فيه أحد القياديين و قال كذا و كيت..
لقد كان انتقال علي جبر من كربلاء الى قوات الأنصار خطوة كبيرة. و تختلف عن خطوة أخوه الشهيد كاظم في مطلع سبعينيات القرن الماضي. ففي ذلك الوقت, كان حجم قوات الأنصار محدود في مناطق سوران [محافظتي السليمانية و أربيل]. بينما في الثمانينيات, انتشرت قوات الأنصار في معظم المناطق الكردستانية [محافظات السليمالية و أربيل و دهوك و الموصل و كركوك]. و كانت قيادتها مستقلة عن قيادة قوات البيشمركة. كما و ان مفارز الانصار كانت قريبة من أهالي القرى. و لكن فصائل الأنصار نشطت بعيدة عن قيادتها. و لم تستطع القيادة من ممارسة دورها الحقيقي, بل تركت الأمور سائبة للقيادات الميدانية. مما أضفى على تنظيم الأنصار طابع هلامي أضعفه. و تضاربت قرارات القادة الميدانيين. و كان هذا أحد أسباب هزيمة بشت آشان عند سفوح قنديل.
و لسوء الحظ, كان علي جبر في زيارة لأحد مواقع بشت آشان, و رغب في البقاء هناك للاحتفال بالأول من آيار. و لقاء عدد من رفاقه و تبادل الأخبار و الملاحظات عن واقع الحزب و مستقبله. و جاء الأول من آيار حاملا لسموم الحقد و الكراهية المقيتيتين. لقد خرج من المقر مع رفاقه ليقاوم الهجوم الهادر. و لكن الهجوم كان من القوة و الحجم و التخطيط يفوق قدرة أنصار يشت آشان على صده. و سقط علي جبر شهيدا في مكان مجهول في وادي بشت آشان عند سفوح قنديل. و هناك عند المقر الذي غادره, و قفت علني أعثر على أثر له. و لسان حالي يردد صرخة الشاعر الكربلائي خالد الذكر عزيز كلكاوي..
يا هل رحتوا بسلامة
بقت بس اليتامه
شجبر لو جنت وحدي تخلوني
عمتني النايبه و ما توجد عيوني
كفاح حسن
سوق العلاوي كربلاء
الأول من آيار 2011
#كفاح_حسن (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟