|
قراءة تحليلية في مسرح الخيال العلمي
أحمد صقر
الحوار المتمدن-العدد: 3359 - 2011 / 5 / 8 - 22:30
المحور:
الادب والفن
كتب توفيق الحكيم عدداً من المسرحيات التى تنتمى إلى أدب الخيال العلمى وهى "مسرحية" لو عرف الشباب"، و "مسرحية تقرير قمرى" و "شاعر على القمر"، "و "مسرحية "رحلة إلى الغد"، أما سعد مكاوى فكتب مسرحية "الميت الحى"، كذلك لطفى الخولى فكتب مسرحية "الارانب"، واخيراً كتب نعمان عاشور "لعبة الزمن" "فانتازيا". مسرحية " لو عرف الشباب" = عودة الشباب فانتازيا تصارع العلاقة الأبدية بين الانسان والزمن تحدث "توفيق الحكيم" كثيراً عن فكرة الزمن وصراع الانسان معه ذلك "أن فكرة الزمن ومحاولة الانسان التغلب عليه قد شغلت دائماً كما شغلت من قبل الفراعنة بل وشغلت الإنسانية كلها إزاء رهبة الموت والغناء" . وقد ترجم "الحكيم" اهتمامه بالزمن فى أكثر من عمل مسرحى فكتب "أهل الكهف" و "عودة الشباب" و "رحلة إلى الغد"، وكلها اعمال تعبر عن الزمن ولكن من منطلق يميل أحياناً إلى الناحية الفلسفية "أهل الكهف" و "لو عرف الشباب" وأحيانا أخرى يعبر عن انشغال الحكيم بالفعل باهمية الزمن ومستقبل الإنسان، إذ تطور العلم ماذا سيحدث للإنسان كما فى مسرحيته "رحلة إلى الغد". تناول "توفيق الحكيم" وغيره من كتاب المسرح العربى فكرة الزمن" وامكانية استخدام العلم فى إحداث بعض التغيرات البيولوجية منها أو المتعلقة بنقل بعض الأعضاء الهامة منها نقل العقل من إنسان إلى آخر كما حدث فى رواية "محمد الحديدى" "شخص آخر فى المرآة" حيث يستخدم الكاتب فكرة علمية حول نقل المخ البشرى من جسد دكتور جامعى إلى شاب رياضى وما يطرأ على هذا التغيير والنقل إذ سيتضح لنا أن نقل العقل تجعل نقل باقى الصفات البيولوجية وغيرها من الصفات التى تجعل هذا الإنسان بحال أفضل مما قبل. تتكرر الأفكار العلمية فى مسرح "لطفى الخولى" خاصة مسرحيته "الارانب" التى تقوم –هى- وغيرها من الأعمال السابقة مثل "شخص آخر فى المرآة"- لو عرف الشباب"- "الميت الحى" لسعد مكاوى"- على فكرة علمية فنتازية تجعل هذه الأعمال تقترب من أدب الفنتازيا العلمية أكثر من كونها أعمالاً مسرحية تنتمى إلى أدب الخيال العلمى، ذلك أن "لطفى الخولى" يعتمد فى مسرحية "الأرانب" على الخيال العلمى الجامح، إذ يكتشف المحامى أسامة أن صديق العائلة "الدكتور يونس" المتخصص فى العقاقير والاختراعات العلمية قد توصل إلى عقار يحدث التغيير البيولوجى فيحول الرجل إلى إمرأة والعكس صحيح ويستجيب له وزوجته "قسمت" وتحدث المفارقات من هذا التحول الشكلى الخارجى على حساب الجوانب النفسية لكل منها. إن "الخولى" أراد أن يعالج قضية الصراع بين الرجل والمرأة وأراد أن يؤكد أن من حق المرأة أن تتساوى بالرجل ولكنه اتم ذلك فى اطار فنتازى يجعلنا بعيدين عن جو الحقيقة العلمية الممكنة التحقيق. إن ما استخدمه "لطفى الخولى" وسعد مكاوى" وما يستخدمه "الحكيم" من خلال مسرحية- لو عرف الشباب- انما أساليب ترتكز على استخدام الخيال العلمى من أجل خدمة اهدافهم وأفكارهم، إذ لم يفعل هؤلاء كما فعل غيرهم- منهم "الحكيم" فى مسرحياته- رحلة إلى الغد- تقرير قمرى- شاعر على القمر- الذين "قدموا أعمالاً أدبية كان فيها عنصر الايهام بالعلم أقوى وأفضل حبكة بحيث لم يعد الخيال العلمى هامشياً فى العمل الأدبى، بل أصبح ملتحماً بالنسيج الفنى، وهؤلاء الكتاب وإن لم يتخلوا عن أفكارهم يحرصون على ابلاغها لقرائهم، إلا أنهم كانوا أكثر نجاحاً فى أن يجعلوا هناك توازناً بين خيالهم العلمى وما لديهم من اهداف" . إن مسرحية "لو عرف الشباب" تقدم فكرة فنتازية إذ تحكى عن بطل المسرحية الطبيب المصرى المتخصص فى البيولوجيا الذى يجرى أبحاثاً علمية مع طيب أمريكى مفادها أن بإمكان العلم أن يجدد التركيب الآدمى القائم على خلايا حية لا تستهلك كما تستهلك السيارة مثلاً، وبذلك ينجح العلم فى التوصل إلى أسرار تجدد الخلايا التى يصبها الهرم" . وعليه من الممكن أن يحقن الشيخ بعقار معين يعيده مرة أخرى إلى شبابه، وهذا ما حدث إذ طلب الباشا" من الدكتور طلعت أن يحقنه بهذا العقار بعد أن علم أنه جربه على العديد من الارانب وتحولت من الشيخوخه إلى الشباب. يحقن الدكتور طلعت "الباشا" ويتحول بعد أن يستيقظ من النوم إلى شاب فى الخامسة والعشرين وتبدأ أحداث الفنتازيا التى تجعل زوجة الباشا وابنته لا يتعرفان عليه ويظنان أنه شاب جاء لطلب خدمة من الباشا، وبعدها تعتقد الأسرة والجميع أن الباشا خطف وقتل وتقام جنازية الرسمية وتعلم بالحقيقة زوجة الدكتور طلعت، الذى دخل مستشفى الأمراض القعلية على أثر أصابته بأزمة نفسية فى أعقاب موت الباشا وظهور هذا الشاب الذى أخذ يطارده ويطلب منه أن يعيده إلى سيرته الأولى. بعد سلسلة من المغارقات بين شخصيات المسرحية الزوجه مع هذا الشاب ذو المظهرى الدال على شبابه وعنفوانه بخلاف حديثه الذى يظهر الجوانب النفسية والعقلية الراجحة الرزينه، أقواله آثارت كل من حوله واتهموه بالتصنع للحكمة وتقليد الشيوخ بحكمه. وهكذا يكتشف الباشا عجزه عن أن يعيش حياة الشباب ويأكل مثلهم ويفعل ما يفعلونه. إن "الحكيم" اراد بذلك أن يؤكد أن التطورات العلمية من الممكن أن تحقق التفوق فى جوانب كثيرة، إلا أنها لابد وأن تخفق فى جوانب أخرى، وهذا ما اكتشفناه من خلال هذه المسرحية، إذ عالج العلم الشيخوخة، إلا أنه عجز عن أن يعيد إلى هذا الشاب ما يجعل باطنه يتصالح مع ظاهره، وبذلك نجد أن العلم عالج أشياء ونسى أشياء أخرى. وهو ما جعل الباشا فى نهاية المسرحية يطلبها صراحة بأن يعود إلى حياته الأولى لأن العلم أعطاه الجسم الفتى ولم يعطه النفس الفنية" . البناء الفنى لمسرحية "لو عرف الشباب" ينهى المؤلف هذه المسرحية بأن جعل كل ما حدث مجرد حلم" ، إذ يصحو الباشا من حلمه فى نهاية المسرحية شيخاً كما كان ويدعى إلى تشكيل الوزارة، إلا أنه يسقط ويموت فلا هو فرح بشبابه أو فرح بتشكيل الوزارة وبهذا "إطبقت الورح الإنهزامية على المسرحية من كافة أطرافها، وكأن المؤلف يطلب من رجال العلم الحديث أن يوقفوا مسعاهم فى مجالدة الزمن ومغالبة الغناء ويحذر الناس من الابتهاد بمثل هذا الانتصار اذا تحقق فى يوم من الأيام" إن "الحكيم" يقيم مسرحيته على فكرة علمية خارقة Fantasy idea وهذه فرضية توقعنا من المؤلف أن يراعى استمراره فيها لكى ينتقل من الفرضية غير العلمية أى من عالم الخوارق العلمية إلى عالم العلم ومعجزاته مرتبطاً فى ذلك بأرض الواقع ليقنعنا بعد طول نقاش أن فى امكانه أن يحقق ويقدم مسرحية تنتمى إلى أدب الخيال العلمى، إلا أن عكس هذا ما تم، إذ أننا بقراءة المسرحية نكتشف تخلخل وعدم منطقية فى البناء الفنى. بداية عندما نقرأ المسرحية نفترض أن المؤلف سيستمر فى تطوير فكرته الخيالية هذه مما يرتب عليه تطور فى البناء الفنى للمسرحية، وإن كان تطوراً كثيراً ما استوقنا نظراً لافتقال المؤلف للاحداث وكذا الحوار ليدفع المسرحية دفعاً قسرياً للاستمرار وبوصولنا إلى نهاية المسرحية وبعد أن يعجز "الحكيم" عن الخروج من هذا المأزق الدرامى وبعد أن ينهار البناء الدرامى لأنه لن يستطيع أن يقنعنا بالنتيجة لذا يتجه إلى افتعال الحلم وكأن كل ما حدث مجرد حلم، ليس إلا وعلينا أن نتقبل العمل على هذه الشاكلة" . إن المسرحية ليست من النوع الذهنى أو الفكرى الذى عرف به الحكيم الذى يعتمد على فرضية يطرحها ليناقشها ويصل فيها إلى رأى محمد مبنى على أحكام منطقية، بل هى "مجرد" "فنتازيا" غير متسقة الخيال فاقدة أهم أساس لمثل هذا المسرح الذهنى الجيد، الذى قد تكون نقطة البدأ فيه اسطورة أو معجزة، ولكنه لابد أن يلتزم منطق فى أدق خطواته حتى يستطيع أن يؤيد بعد ذلك ما يشاء من حقائق تلك الحياة وفقاً لمعتقدات المؤلف عن طريق ما يسميه المناطقة.. بالدليل العكسى..." على الرغم من فنتازيه الفكرة والأحداث فى مسرحية الأرانب- مثلاً- فإن المؤلف حرص على التمسك بعدم واقعية الحدث فى بعض المواقف مما ترتب عليه أن "تتحول الشخصيات، فالرجل يصبح امرأة، والمرأة تصبح رجل، ثم يستغل الكاتب هذا التحول فى الحدث الفانتازى لعرض قضية فكرته" تقوم على نوع من الصراع قريب من طبيعة مجتمعنا وأعنى به قضية الصراع بين الرجل والمرأة والدعوة إلى المساواة بينهما، غير أن هذا التحول الذى يحدث لأسامة وقسمت قد قوبل من البعض بالرفض والاستنكار إذ كيف تتحول المرأة إلى رجل والعكس. إن التعارض الذى نلاحظه على مسرحية "لو عرف الشباب" تمثل فى أن الأحداث والفكرة تدور فى اطار فنتازى فى جوانب كثيرة منها، أما الشخصيات فقد جاءت شخصيات واقعية ذات أبعاد مختلفة، لكل منها ملامحها وتفردها الذى يساهم فى إلقاء الضوء على جانب من جوانب الموضوع ففريق يؤكد التقاليد القديمة وفريق يرفضها، وبذا تنقسم الشخصيات إلى فريقين وداخل كل فريق تتمتع كل شخصية بتنوعها وملامحها المتفردة" . أما عن طبيعة الحوار فى هذه الفنتازيا فقد جاء فى معظمه حواراً واقعياً قائماً على النقاش بين الشخصيات عدا فى بعض المواقف التى تتحول الاحداث إلى مرحلة تجعلها أحداثاً خيالية جامحة هنا نجد أن الحوار يتحول من الحوار ذى النبرة الواقعية المنطقية إلى حوار يغلب عليه النزعة التخيلية الحالمة، التى تجعل القارئ يدرك تلك النقلات فى المسرحية هذا من ناحية. من ناحية أخرى فإن الصبغة العلمية للحوار الذى كنا نتوقع أن نجده فى المسرحية- وهو ما يتضح فى مسرحية رحلة إلى الغد- لا يتضح من خلال هذه المسرحية التى جاء حوارها بعيداً جداً عن الحوار العلمى فقط فى الحوار الذى دار بين الدكتور والباشا . مسرحية رحلة إلى الغد تقدم المسرحية قصة شخصين- طبيب ومهندس- حكم عليهما بالإعدام وتقرر الدولة ارسالهما فى صاروخ إلى الفضاء الخارجى للاستفادة من علمهما وقدراتهما فى المساعدة على تحقيق بعضر الفرضيات العلمية، وبعد تدريبهما يصل الصاروخ إلى كوكب مجهول وبعد فترة من الوقت لا يعلمان مداها يعودان إلى الأرض، فيكتشفا أن الرحلة قد استغرقت ثلاثة قرون، واذا الحياة قد تغيرت تغيراً تاماً وغلب عليها التقدم العلمى مما جعلها شبه مستحيلة لأن يعيشا فيها فى ظل هذا التقدم العلمى المذهب. هنا يقوم الحكيم من خلال هذه الفرضية العلمية بدراسة امكانية التعايش بين بنى البشر خاصة أمثال هذان الاثنان اللذان سيصابا بالملل والشقاء بعد أن خاضا هذه الرحلة العلمية. وهنا نكتشف أن الحكيم يلمح بمخاوفه من الغد المقبل ومن سلبيات التطور العلمى وليس من العلم ذاته. ذلك أن عوده الطبيب والمهندس جعلتهما يكتشفا ما سببه العلم للإنسانية من ركود فلا عمل للناس لأن الآلات التى اخترعها العلم قامت بدور البشر فى العمل. ويترتب على ذلك أن تتحول الحياة إلى ازرار وينقسم الناس إلى حزبين حزب يؤيد التطور وآخر يؤيد الرجعية والتقليدية وينضم كل منهما إلى حزب – الطبيب حزب الرجعية- المهندس حزب التقدم- ويكون مصير حزب الرجعية السجن ويكون نصيب حزب العلم التقدم والسيطرة على مقاليد الأمور. إن توفيق الحكيم فى هذه المسرحية "يعارض بين حياة الحاضر وحياة المستقبل ويفضل كعادته الحاضر على المستقبل لأنه كما قلنا محافظ يخشى المجهول ولا يستطيع أن يتصور المستقبل فى صورة أزهى وأجمل من الحاضر. وعنده- كما قلنا غير مرة- أنه ليس فى الإمكان ابداع مما كان وما هو كائن فعلاً، كما يعارض بين حياة العقل الخالص التى يظنها حياة المستقبل وحياة القلب التى يظنها حياة الحاضر" . لهذا نجد توفيق الحكيم من خلال هذه المسرحية المكونة من أربعة فصول يعرض قضية حيرة الإنسان أو لنقل الحكيم نفسه بين العلم والأدب أو قل العقل والقلب، ذلك أنه وبإستخدامه لهذا التكتيك الجديد فى الكتابة فإن القارئ يشعر "أن الفصول الثلاثة الأولى مجرد استخدام للخيال العلمى فى مسرح هو أقرب إلى أدب التسلية أما الفصل الأخير الذى أفضت إليه الفصول الثلاثة الأولى يقدم توفيق الحكيم فى جزئه الأول رؤيته التنبؤية التفاؤلية بحيث يجعل بيوت البشر بعد مائة سنة تغذيها أنابيب ذات ألوان مختلفة إلى جانب أنابيت المياه الباردة والساخنة مثل أنابيب القهوة والشاى واللبن والحساء وهكذا" . وهكذا ندرك حيرة الحكيم فى هذه المسرحية من تقدم العلم، ذلك أنه وإن كان يقدم رؤيته التفاؤلية من تطور العلم فإنه من ناحية أخرى يحذرنا منه وقد تمثل لنا ذلك- كما سبق القول- من الخلاف الذى نشب بين الطائفتين وأدى فى النهاية إلى هلاك حزب الرجعية حزب الطبيب المرهف الحس. كل هذا لا يقلل من قيمة هذه المسرحية التى نستطيع أن ننسبها إلى مسرح الخيال العلمى ذلك أن الحكيم استطاع أن يوظف مسرحيته "لما يوظف له الفن القائم على الخيال العلمى إذ جمعت مسرحيته بين التسلية والتنبؤ بما يمكن أن ينجح فيه العلم والوجس مما يمكن أن يفشل فيه" . البناء الفنى لمسرحية رحلة إلى الغد كثيراً ما يثار النقاش حول نوعية هذا الإبداع فى مجال الأدب المسمى بأدب الخيال العلمى خاصة ما يتعلق بسيطرة عنصر الفكر على مثل هذه النوعية من الأعمال، الأمر الذى يترتب عليه فى كثير من الأحيان عدم وضوح واكتمال الملامح الفنية المميزة للمسرحية خاصة ما يتعلق بطبيعة وملامح الشخصية المسرحية، هذا إلى جانب طبيعة لغة الحوار الدرامى وإلى أى مدى يتحقق عنصر الصراع الدرامى بمعناه المسرحى كذلك وبشكل عام ماهى طبيعة وملامح البناء الدرامى لمسرحية الخيال العلمى، هل تفتقد مثل هذه النوعية ما يقربها من الأشكال الدرامية التقليدية أو حتى العصرية منها- أقصد الدراما المنتمية حالياً إلى مسرح التجريب الذى يحرر النص كثيراً من بعض التقاليد الدرامية المتعارف عليها- ذلك أن "الخيال العلمى يبقى، كشكل أدبى، محاولة لبناء كون خيالى بدءاً من اللغة، كون خيالى يمكن أن يذكر بجو "الأغانى" العاطفية لو لم يتحكم به بعناية اللجوء اللازم للعلم" . ذلك أن مسرحية الخيال العلمى ستأتى فى بناءها الفنى مختلفة إلى حد ما- فى بعض الأحيان- عن المسرحيا التقليدية الأخرى وهنا يحدثنا د.عصام بهى عن رواية الخيال العلمى وتقنياتها الفنية وهو ما آراه ينطبق إلى حد كبير على تقنيات مسرح الخيال العلمى أيضاً وذلك حين يقول إن "رواية الخيال العلمى رواية أفكار أكثر منها رواية حبكة جيدة أو شخصيات مدروسة. فهى تهدف بداية إلى إثارة خيال القارئ إلى أقصى حد (وهى فى هذا تنتسب إلى التراث الشعبى والخرافى أكثر من انتسابها إلى تراث الأدب الجاد) لتنتقل به خلال هذه الاثارة إلى تصوراتها عن العوالم الغريبة التى تدير أحداثها فيها، أو لتصل برسالتها إلى عمق الكيان العقلى والروحى للقارئ" ذلك أن مسرحية الخيال العلمى لن تحرص على ما تحرص عليه المسرحيات التقليدية الأخرى، بل ستستغنى عن بعض التفاصيل الفنية الخاصة بعناصر البناء الفنى وهو ما سوف يجعلها مثلها مثل رواية الخيال العلمى "بناءها الفنى يشوبه كثير من الضعف، فحبكات معظمها ذات طابع جيافى ساذج، ومشكلة الانتقال مثلاً فى الزمان والمكان وهى المشكلة الأولى التى تواجه كتاب الخيال العلمى، نجد فيها تصورات غاية فى الغرابة والسذاجة فى الوقت ذاته" . حرص توفيق الحكيم على أن يكتب ويعاصر الكثير من الاتجاهات العلمية فى مجال الكتابة المسرحية فقد كتب فى اطار مسرح العبث والمسرح الفكرى ومسرح الخيال العلمى وقد راعى الحكيم فى الأول والثانى ملامح البناء الفنى لمسرحية كل من هذين الاتجاهين وهنا أعرض لطبيعة وملامح البناء الفنى لمسرحية "رحلة إلى الغد". اعتمد الحكيم فى هذه المسرحية على شخصيتين أساسيتين هما السجينان الطبيب والمهندس ومعهما السجان طوال أحداث الفصل الأول يشاركهما مدير السجن والمندوب. وفى الفصل الثانى والثالث نجد السجين الأول الطبيب والسجين الثانى المهندس وحدهما فى الصاروخ وبعدها فى الفصل الثالث فى الكوكب المجهول، ينضم إليهما فى الفصل الرابع بعد العودة إلى الأرض الشقراء والسمراء وتنتهى المسرحية بأن يحكم على الطبيب والسمراء إما بغسيل عقولهما وإما السجن. لم يراع الحكيم الاهتمام كثيراً بملامح الشخصيات وركز اهتمامه على الفكرة التى تحملها الشخصيات هذا جانب، الجانب الآخر هو طبيعة لغة الحوار التى أتت بالفعل لخدمة الفكرة والقضية المطروحة إلا أن ما يسيطر على هذه المسرحية أن طبيعة الأحداث فيها غير قابلة للحدوث، ذلك أن الأحداث تنتقل بين أكثر من مكان مما يترتب عليه تعذر تحققها على خشبة المسرح وبذلك نرى أن الخيال العلمى فى مجال السينما (الرواية-القصة) أو حتى فى مجال الشعر أمر يمكن تحققه وهو يتعذر حدوثه فى مجال المسرح. إن اهتمام كتاب مسرح الخيال العلمى بالإنسان ومستقبله يتطلب من الكاتب المسرحى أن يضحى فى بعض الأحيان برسم الشخصيات لبيان الفوارق الدقيقة بين مسلك إنسان وآخر فى موقف واحد أو متشابه. إن الفكرة هى التى تشغل الكاتب فى المسرحية العلمية لذا نجد أن ملامح شخصيات المسرحية تبدو جميعها واحدة ولا يتميز أحدهم عن الآخر ولا ينفرد بصفات خاصة، لأن الشخصية فى المسرحية ليست سوى ممثل أو وعاء لأفكار المؤلف، وهى بديل لهذه الافكار لذلك يسعى المؤلف فقط لتصبح هذه الشخصيات مقبولة من قبل الجمهور فقط عليه أن يعرفنا من خلال الأسماء أن هذه شخصية رجل وهذه شخصية امرأة، وقد يزيد فيحدد فقط عمل هذا أو تلك. طبيعة الأجواء والأمكنة والأحداث الخاصة بمسرحية الخيال العلمى يخلق كاتب الخيال العلمى جواً مسرحياً قد لا يكون القارئ أو المشاهد على علم به، ولذلك يسعى الكاتب لكى يبذل مجهود كبير فى وصف تفصيلات هذا العالم الجديد الذى خلقه معتمداً على معطيات العلم والتكنولوجيا. إن طبيعة لغة الحوار وكذا الأحداث والشخصيات من خلال الفصل الأول نجد أنها تسير فى خط تقليدى متطور فالمؤلف يقدم لنا الأحداث ومن خلالها نعلم بداية هذا السجين وقصته وما سيؤول إليه مستقبله فى أسلوب يعتمد فيه الحكيم على ملامح الدراما الواقعية فى رسم ملامح الشخصيات وكذا طبيعة الحوار القائم على النقاش لعرض أبعاد القضية لكى يمهدنا لما سوف يحدث بعد ذلك فى الفصل الثانى عندما يقبل الطبيب- السجين الأول- والمهندس- السجين الثانى- السفر فى صاروخ إلى كوكب بعيد" . أما النقلة التى تحدث فى الفصل الثانى عندما تنتقل الأحداث إلى داخل الصاروخ ونكتشف وجود السجين الأول- الطبيب- داخل هذه الحجرة شبه الاسطوانية وبها الأجهزة والآلات، هذه النقلة أراد بها المؤلف أن ينقلنا فى متابعة العمل إلى جو العلم وتقنياته الحديثة التى تلوح بسيطرة روح العلم على مقدرات حياتنا وذلك تمهيداً لما سوف يحدث بعد ذلك. وبعد أن يتعرف السجين الأول على الثانى يدور حوار يتعرف كل منهما على الآخر ويدركان أن الصاروخ قد انطلق بالفعل وهو فى طريقه إلى الفضاء الخارجى، ويدور حوار بين الاثنين عن مشاكل إنسانية عائلية يطلع فيها السجين الأول السجين الثانى على قتله لامرأته، وعندما يهمان بالفعل والتعامل مع الأجهزة ينقطع الاتصال بالأرض ويصبحان ضائعين فى هذا الفضاء الفسيح" . إن الحوار هنا أيضاً بعيد عن جو المسرح العلمى ذلك أن حوارهما يدور على المستوى الإنسانى المتعارف عليه كل منهما يحكى للآخر عن مشاكله. وهو حوار طالما عودنا عليه الحكيم، خاصة وإن كل من الطبيب والمهندس على مستوى علمى معين، لذلك فإن الحوار الدرامى ذو لغة عالية وقدرة على تبادل أطراف النقاش بشكل متمكن. إن الأسماء لم تعد ذات قيمة فكل منهما بعد أن ضاعا فى الفضاء لم يعد حينئذ للاسماء أى ضرورة . يصل الصاروخ إلى ذلك الكوكب المجهول وبعد أن يرتطم ويسقط يتفحص كل منهما الآخر فى حوار تخيلى بها مسحة علمية لما يمكن أن يحدث بعيد عن كوكب الأرض وهنا نكتشف بداية تحول الحوار الدرامى التقليدى إلى حوار يغلب عليه السمة العلمية" ذلك أن الدماء تسيل ولا يحدث شىء لهما والرئة لا تعمل ومع ذلك فهما يتنفسان والقلب واقف وكل منهما لا يزال حياً. إن الحوار هنا- كما سبق القول- تغلب عليه النزعة العلمية، ذلك أن كل منهما قد تحول إلى عالم يحدث الآخر عما حدث له بيولوجياً فمثلاً تحول كل واحد منهما إلى بطارية شحن بالكهرباء طالما أنهما فوق هذا الكوكب وعليه فليس بها حاجة إلى طعام أو شراب، الأمر الذى جعلهما يفكران فى ديمومة الحياة فهناك لا نوم. لا طعام. لا شراب. لا مرض. لا موت. أنه الخلود" . إن الحوار الذى يسعى المؤلف من خلاله لتجسيد أفكاره العلمية يأخذ فى التطور إلى أن يصل بنا لادراك أن بإمكان العلم فى المستقبل- كما يتخيل الحكيم- أن يجعل الإنسان كلما فكر فى شىء يستطيع أن يراه أمامه مجسداً" . فى الفصل الأخير وبعد العودة إلى الأرض نجد الأحداث تدور فى منزل عجيب من المنازل العصرية القائمة على التكنولوجية، ذلك أن انقضى على زمن الرحلة ثلاثة قرون والآن يعودون مرة أخرى إلى الأرض دون أن يدروا انقضاء هذا الوقت. وبرغم ما سيلاحه كل منهما من هذا التطور، إلا أننا نكتشف علامة الدهشة عليهما بشكل واضح عندما يعلمان أنه مر عليهما على هذا الكوكب ثلاثمائة سنة وتسعاً وهنا يحدثنا الحكيم على لسان شخصياته عن نسبية الزمن وأن اليوم على الأرض يساوى عام كامل على الكواكب الأخرى. يطرح الحكيم قضية أخرى خاصة بعمر الإنسان وهى قضية سبق وأن تحدث عنها "دارون" وتأثر بها "برنارد شو" وأقصد نظرية النشوء والارتقاء، وهو ما اثاره "الحكيم" على لسان شخصياته ليوضح لنا دور العلم فى إحداث التغيير حتى على عمر الإنسان وهى قضية آثارها "الحكيم" فى مسرحيته عودة الشباب" . إن ما حدثنا به الشقراء فى حوارها مع السجين الأول فيما يتعلق بالتطورات العلمية فى كافة جوانب الحياة خاصة الصحافة والكتب طرق التعامل معها لأمر قد تحقق فيما يسعى بالانترنت هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية فإن "الحكيم" يتخيل أن التطورات العلمية سوف تحقيق للإنسان ليس فقط الفضاء على فكرة الحرب، بل أكثر من ذلك سيتوافر الطعام بكميات غير محدودة بالطرق الكيميائية" . وعلى ذلك "فالحكيم" يتخيل أن التطورات العلمية أيضاً عندما توفر للإنسان كل شىء وقتها لن يكون هناك داعٍ للعمل. لإن الأجهزة الآلية ستقوم بهذا الدور. إن رؤى "الحكيم" وتخيلاته العلمية تتحول فى بعض الأوقات إلى حالة من حالة الخيال الجامح (الفانتازيا) التى لا نستطيع أن نتقبلها بمنطق الخيال العلمى ولكن بمنطق الخيال الجامح الذى لا يتقيد بقيم الوجود الثابتة وذلك حين يتصور قدرة العلم التى جعلت الحرب الذرية تحدث ولكنها لم تستمر طويلاً لأن التطورات العلمية جعلت الإنسان يتوصل إلى انتاج الطعام واستخراجه بكميات كبيرة ولم يعد هناك مشكلات فى العمل وكل شىء يدار بالازرار، بل أكثر من ذلك فإن المال لم يعد يتعامل به وكل شىء متوفر بالمجان. إن هذه الفكرة الخيالية الجامحة تنطلق من قبل المؤلف دون أن تضع فى الاعتبار امكانية تحققها على الأقل فى دول العالم الثالث التى لا تزال تعانى حتى يوم الجوع والفقر والمرض وهى قد تختلف عن ركب التقدم فى الدول الأخرى مئات، بل آلاف السنيين. أنها اليوتوبيا التى نادى بها بعض الكتاب والمفكرين وليست الدنيا كما ينادى بها "الحكيم". غير أن "الحكيم" برغم كل هذه الأجواء العلمية التى يطرحها من خلال المسرحية، وبرغم كل التطورات العلمية، إلا أنه يرتد مرة أخرى إلى الإنسانية، إلى الفن ليعلنها صراحة أنه يفضل أن تتطور الحياة ولكن ليس على حساب المشاعر والاحاسيس لإنه يدرك أن كل هذه التطورات ستكون على حساب الإنسان وعواطفه التى ستتحول إلى أساطير عندما يحدث هذا التطور.
#أحمد_صقر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قراءة في مسرحية بعد السقوط ( بعد الهبوط من الفردوس) للكاتب ا
...
-
قراءة سيميولوجية في مسرحية أحذية الدكتور طه حسين .. لسعد الد
...
-
المدرسة الشكلية الروسية ... قراءة في النقد المعاصر
-
قلبي يئن لكن مستقبل مصر أهم
-
شهداء 25 يناير وعيد الأم .
-
المسرح المصري في السبعينيات وقضايا الانفتاح الاقتصادي .
-
الكوميديا في المسرح المصري (دراسة في نظرية الكوميديا العربية
...
-
مشروع المسرح الفيدرالي وانعكاساته الايجابية علي استمرار الدر
...
-
الشخصية النسائية في مسرح توفيق الحكيم .
-
العلاقة بين المسرح بوصفه ظاهرة احتفالية اجتماعية وبين الحيز
...
-
مسرحية السلطان الحائر .. الرؤية الإخراجية وضياع القضية ( رؤي
...
-
صورة المرأة بين المسرح النسائي ومسرح نصرة المرأة .
-
قراءة نقدية تحليلية في مسرح نجيب سرور .
-
رسالة عاجلة إلي وزير التربية والتعليم العالي
-
الكوميديا في االمسرح المصري ..دراسة في نظرية الكوميدية العرب
...
-
لا .. لسارقي أحلام شباب 25 يناير .قراءة في ثقافة المتسلقين .
-
الخطاب المسرحي في مسرحية مغامرة رأس المملوك جابر التراثية (ر
...
-
مسرح المونودراما وخصوصية البنية النصية والعرض .
-
ماذا ننتظر وينتظر مبارك من بقائه في شرم الشيخ .
-
الثورة المصرية بين وطنية النشأة وعولمة العلاج في التصدي لها
المزيد.....
-
-البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو- في دور السينما مطلع 2025
-
مهرجان مراكش يكرم المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ
-
أفلام تتناول المثلية الجنسية تطغى على النقاش في مهرجان مراكش
...
-
الروائي إبراهيم فرغلي: الذكاء الاصطناعي وسيلة محدودي الموهبة
...
-
المخرج الصربي أمير كوستوريتسا: أشعر أنني روسي
-
بوتين يعلق على فيلم -شعب المسيح في عصرنا-
-
من المسرح إلى -أم كلثوم-.. رحلة منى زكي بين المغامرة والتجدي
...
-
مهرجان العراق الدولي للأطفال.. رسالة أمل واستثمار في المستقب
...
-
بوراك أوزجيفيت في موسكو لتصوير مسلسل روسي
-
تبادل معارض للفن في فترة حكم السلالات الإمبراطورية بين روسيا
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|