ميسون البياتي
الحوار المتمدن-العدد: 3346 - 2011 / 4 / 25 - 10:38
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
تستوقفني الأحداث الجارية اليوم في الوطن العربي لكي أنظر فيها بتمعن من أجل فهم النقطة التي يقف عليها العرب اليوم وما الذي سيحصل غداً , وحيث أنني أومن بأن النظريه السياسيه الأمريكيه هي نظريه نماذج أو ( أكليشيهات ) يتم تنقيحها عند إصدار كل طبعة منها لتبدو مختلفة عن سابقتها .. لكنها في الحقيقة ( كليشه ) واحده , وعلى هذا فإن مقارنة الطريقه التي ( إستعمل ) بها الأمريكان الأوربيين لفرض نفوذهم داخل أوربا , ستوضح لنا كيف يستعملنا الأمريكان لفرض نفوذهم في الشرق الأوسط ... ولماذا هبت الفتنة الطائفيه على الشرق الأوسط منذ إسقاط شاه ايران عام 1979 وهل كان شعار ( تصدير الثوره ) ايرانيا صرفاً أم هو منتوج أمريكي الصنع ايراني الإستعمال ؟ واخيرا .. أين نقف اليوم وما الذي سيقع غداً ؟
استقلت الولايات المتحده الأمريكيه في 4 يوليو / تموز 1776 ودخلت الى ساحة الصراع الدولي تبحث عن مناطق للنفوذ , لكن ذلك لم يكن سهلا بوجود امبراطوريات استعمارية كبرى مثل بريطانيا وفرنسا واسبانيا والبرتغال وألمانيا , لذلك بدأ الأمريكان ( بتصدير ثورتهم ) الى اوربا وهكذا وقعت الثورة الفرنسيه التي ابتدأت سنة 1789 وانتهت تقريباً سنة 1799 مغيرة وجه أوربا وفاتحة الطريق لتصدير المصالح الأمريكية الى أصقاع الأرض المختلفه . ومنذ سقوط الملكيه في فرنسا وحتى عام 1848 كانت فرنسا مرتعاً خصباً لكل أنواع الأفكار الثوريه التي يراد منها تسقيط كل اوربا تحت النفوذ الأمريكي .
عام المعجزة الأمريكي في أوربا كان عام 1848 ففي هذا العام فعل الأمريكان ما يفعلونه اليوم في الشرق الأوسط , حصلت ثوره في فرنسا ... ومنها عمت جميع أرجاء أوربا وتعالوا معي لنلقي نظرة على عام 1848 الأوربي الذي يسميه البعض ( ربيع الأمم ) أو ( ربيع الشعوب ) أو ( عام الثورات ) الذي يصفه بعض المؤرخين ب ( المد الثوري ) الذي وقع أولاً في فرنسا ومنها انتقل الى جميع أجزاء أوربا وأميركا اللاتينيه .
جميع تلك الثورات كانت سريعه وتخللها العنف الدامي , بعشرات الآلاف من الناس يهتفون في الشوارع وقتل الآلاف منهم , وكان التأثير السياسي المباشر لتلك الثورات كبيراً جدا ً .
قامت تلك الثورات لأسباب متعدده منها الإصلاحات , السياسه المتطرفه , التقدم التكنولوجي الذي أثر على الطبقة العامله , والصحافة التي تنشر المخاوف بين الناس فتهيج غضبهم .
الأفكار الليبراليه والوطنيه والقوميه وإلاشتراكيه التي تدوالها الصحافة بين الناس والحديث عن الفاقه التي يعانيها الكادحون أجج المشاعر الى أقصاها .
قطاعات واسعه من النبلاء شاركت في هذه الإحتجاجات ضد الطبقات الحاكمه , عام 1846 هاج نبلاء بولونيون في غالسيا النمساويه , إضافة الى هياج القوى الديمقراطيه البولونيه ضد بروسيا . الطبقه المتوسطة بدأت بتحريض الطبقة العامله لتصعيد الموقف , وكان لكتابات كارل ماركس وفردريك أنجلز وكتاب ( البيان الشيوعي ) الذي صدر قبل هذه الثوره بعدة أشهر أثر كبير في وقوعها , وبعد أن وقعت في فرنسا تحت طائلة العنف .. صارا يحرضان على وقوعها في ألمانيا , ماركس ذهب الى كولون في ألمانيا ليشرف بنفسه على توزيع المنشورات التي تطالب بتأسيس الحزب الشيوعي الألماني .
الطبقة المتوسطه والطبقة العامله تشاركتا في المطالبة بالإصلاحات وإتفقتا على الكثير من الأهداف التي دخلتا بها الى هذا الأتون فثارت ثائرة المدن .
الكثافه السكانيه في القرى الفرنسيه زادت فدفعت أعداداً كبيرة منها الى العيش على اطراف المدن كطبقة معدمه , والعديد من البرجوازيين نأوا بأنفسهم عن الإختلاط بهذه الطبقة الفقيرة مما سبب الكراهية بين الطبقات من جديد بعد إلغاء النظام الطبقي في الثورة الفرنسيه التي أطاحا بالحكم الملكي قبل 59 سنه .
عدم وجود قانون يحدد ساعات العمل جعل العمال تعمل ما بين 13 الى 15 ساعه في اليوم وتضطر للعيش في أحياء فقيره قذره مليئه بالأمراض .
الحرفيين التقليديين يشتكون من ضغط المكننة عليهم لأنهم بدأوا يفقدون أعمالهم بسببها , ونقاباتهم عاجزه عن ايجاد الحل , لذلك تأسست العديد من الجمعيات السريه , والأزمة الإقتصاديه التي بدأت عام 1846 رفعت معدلات البطاله , والعمال غاضبون ويسعون للحصول على إعانات من الدوله .
الوضع في الولايات الألمانيه شبيه بهذا , بروسيا كانت قد تحولت بسرعه الى صناعيه وخلال عقد الأربعينات من القرن التاسع عشر أمنت المكننه لمصانعها فإستغنت عن الكثير من الأيدي العامله فعمت البطاله وارتفع الشغب , والإصلاح بحد ذاته لا يحظى بترحيب الطبقات الإقطاعيه , رغم كونه إصلاحا شحيحاً لا يحظى بقبول الطبقات الدنيا نفسها ايضاً .
النمو السكاني في الريف أدى الى ارتفاع الكثافه السكانيه وقلة المواد الغذائيه وتزايد الهجرات الى داخل وخارج أوربا والى اميركا الشمالية بالتحديد , دمار محصول البطاطا في الأعوام 1845 و 1846 ادى الى مجاعة شمال اوربا لهذا بدأت الهجرات بآلاف الأشخاص وأدى الى المجاعة الآيرلنديه والمجاعه الإسكتلنديه التي انتشرت لتعم كل اوربا .
الأرستقراطيون الذين يتداولون السلطه فيما بينهم . وملاك الأراضي الذين يسيطرون على الكادحين تسببوا في هياج الكادحين خلال عام 1848 في عموم اوربا .
على الرغم من الجهود الجباره التي بذلتها القوى الرجعيه للمحافظة على الأجواء السائده إلا أن ( أفكار الديمقراطيه والليبرالية والقوميه والإشتراكيه التي تنشرها الولايات المتحدة الأمريكيه ) كانت تحظى بشعبية متزايدة بين الناس .
الديمقراطية في منطق الأوربيين تلك الفتره تعني : حق الذكور في الإقتراع , أما الليبراليه فقد كانت تعني : موافقة الشعب على الحكومه وتقييد سلطة الكنيسة والدوله والمطالبه بالحكومات الجمهوريه وحرية الأفراد وحرية الصحافه , أما القوميه فقد كانت تعني : أن توحيد البشر في أوطان خليط يضر اللغة والتقاليد والدين والتاريخ وحتى الجغرافيه , وما دولتي ايطاليا والمانيا الحاليتين سوى تجميع لعدد كبير من الدول السابقة الصغيره , اما اشتراكيه أربعينات القرن التاسع عشر فقد كانت تعني : مصطلح غير معروف التعريف تستعمله مجموعات متضاربه من البشر بمعاني متضاربه وإن كان في كل الأحوال يطالب بالمزيد من الإمتيازات للطبقة العامله مثل الحق في الملكيه والحق في أرباح المنتوج .
من محاسن الصدف أن الثوره الشعبيه الأوربيه إندلعت في أوربا مثلما إندلعت في الشرق الأوسط ... في شهر شباط , وذلك لأن الكليشة واحده كما ذكرت في بداية كلامي . قام قادة القوميين والجمهوريين الفرنسيين بتحريك العامه فإندلع العنف ولم يتوقف إلا بتأسيس نظام ملكي دستوري تحت قيادة لويس فيليب في الجمهورية الفرنسية الثانيه . رئيس الوزراء أصبح لويس نابليون الذي وبعد أربع سنوات فقط كان قد توج نفسه إمبراطوراً مؤسساً بذلك الإمبراطورية الفرنسية الثانيه عام 1852 .
امتدت الثوره الى جنوب وغرب ألمانيا في شهر آذار في هياج حاشد من المثقفين والطلاب وكانوا يطالبون بحدة عارمه بتوحيد المانيا وحرية الصحافه وحرية التجمع والتظاهر , لكن الإنتفاضة في ألمانيا لم تكن منسقة بشكل جيد رغم انها كانت تطالب بالإصلاحات السياسية في الكونفيدراليات الألمانيه التسعه والثلاثين , أثناء الهياج حصل تضارب بين الطبقتين العاملة والمتوسطه مكّن الأرستقراطيين من هزيمتهم ونفي العديد من رموزهم الى الخارج .
الدنمارك محكومه بالنظام الملكي منذ القرن السابع عشر , الملك كريستيان الثامن توفي في شهر كانون الثاني عام 1848 أثناء فترة الثورة الشعبية الأوربيه وعلى الفور هاج الليبراليون في الدنمارك وقادوا الى هياج الفلاحين في هذا البلد الزراعي يطالبون بالملكية الدستوريه , وانتهت بتتويج الملك فردريك السابع الذي قبل الدستور الجديد وأعطى الصلاحيات والمناصب الى الوطنيين الليبراليين كما وافق على تقاسم السلطه مع البرلمان في مجلس يدعى : ( ريجسداغ ) . وعلى الرغم من ان ضباط الجيش لم يكونوا راضين عن الوضع الجديد , إلا أن الدستور الليبرالي الجديد لم يطبق في ( سليفجغ ) مما أدى الى إندلاع العنف فيها .
سليفجغ مقاطعه يقطنها الدانماركيون والألمان وهي جزء من المملكة الدنماركيه , لكنها بقيت منفصله عن الدنمارك , رجال الدين البروتستانت لم تعجبهم السياسه الليبراليه الجديده في الدنمارك التي تحد من صلاحياتهم فدفعوا الألمان الذين في سليفجغ الى حمل السلاح للإحتجاج على السياسة التي تفرضها الحكومة الدنماركية الجديده , ساندتهم الولايات الألمانيه بإرسال جيوش لنصرتهم , لكن حكومة الدنمارك عرضت عليهم التفاوض مما ادى الى معاهدة برلين 1850 وبروتوكول لندن 1852 الذي أكد على سيادة ملك الدنمارك على سليفجغ , مع التأكيد على عدم توحيدها مع الدنمارك ورغم هذا فقد تجدد النزاع عام 1863 وانتهى بنصر الألمان على الدنماركيين عام 1864 .
من بداية آذار 1848 وحتى تموز 1849 تعرضت أمبراطوريه هبسبورغ النمساويه الى تهديد حركات الإحتجاج الثوري الذي تثيره شخصيات ذات مطالب قوميه , الإمبراطوريه تحكم من فيينا ويعيش فيها ألمان نمساويون , سلوفان , سلوفاك , بولنديون , هنغار , جيك , كروات , أوكران , روثنان , رومان , صرب , وإيطاليين , وكلهم في هياج عارم من أجل الإستقلال الذاتي , والمال , والسيطره على قوميات أخرى , وما يحدث في المانيا كان قد زاد الصورة قتامة في النمسا لإنعكاس أوضاع ألمانيا على وضع جاليتهم الكبيرة في النمسا .
هاج الوضع في هنغاريا في 15 آذار 1848 حين قامت مجموعه من المحتجين المجريين بأعمال شغب واسعه في مدينه بودا ( تعرف اليوم بودابست ) تطالب بإستقلال هنكاريا عن النمسا , مما أدى الى إستقالة الأمير النمساوي ( كليمنس مترنيخ ) من منصبه كوزير للخارجيه , وقام الملك النمساوي بوعد المجريين بالدستور والبرلمان المنتخب وإيقاف عمل الرقيب على الصحف , وفرض اللغة المجريه لغة رسمية في سائر أرجار هنغاريا , لكن هذا أجج مشاعر بقية القوميات التي تعيش في هنغاريا فعمت الفوضى لهذا سحبت النمسا كل وعودها الى هنكاريا بعد قتال دام عاماً ونصف مع قوات روسيه أرسلها القيصر نيكولاس لنجدة هنكاريا قوامها 300 ألف جندي , وبنهاية الحرب حكمت النمسا هنكاريا بيد من حديد .
عمت الفوضى في سويسرا في حرب أهليه بدأت في تشرين الأول 1847 واستمرت حتى عام 1848 ولم تهدأ إلا بعد وضع دستور جديد يمنح الإستقلال شبه الكامل لجميع الكانتونات ويحول سويسرا الى دولة فيدراليه .
في بولندا شن البولونيون تمرداً عسكرياً في بوزنان ضد قوات الإحتلال النمساويه .
ثار الليبراليون الرومانيون ضد الإحتلال الروسي لبلادهم ايضاً عام 1848 في مقاطعة والاتشيا بعد نجاح ثوره مولدافيا ضد الحكم الروسي وقادته من البويار ( أمراء الحرب ) الذين يتمتعون بالإمتيازات , مجموعه من المثقفين وضباط الجيش الرومان كونوا جيشاً وأطاحوا بالأمير ( جورجي بايبيسكو ) وغيروه بحكومة إقليميه وشرعوا للكثير من الإصلاحات .
بلجيكا لم تسلم من هذا الهياج , فقد عمت الفوضى في المقاطعات الصناعيه في لييج وهيناو والكثير من الشغب كان قد عم في هذه المقاطعات قادماً من فرنسا , حيث كانت الشيوعية قد انتشرت بين عمال المواسم البلجيكيين إثناء عملهم في فرنسا وبنهاية الموسم وعودتهم الى بلجيكا جلبوا فوضى فرنسا معهم الى ديارهم قادمين في قطار بنية قلب الحكم في بلادهم ... لكن قوات الحدود نجحت في تفريقهم الى مجموعات صغيره ثم تغلبت عليهم بعد قتال متقطع .
لأن هذه الثورة الأوربيه هي في الحقيقة أمريكية التصميم والتنفيذ , فقد عمت نفس هذه الثورة في أميركا اللاتينية في نفس الوقت .
من أجل أن تطرد الولايات المتحده الإسبان من كولومبيا ... اندلعت ثورة 1848 في نيوغرينادا قام بها الليبراليون والمثقفون والطلاب وإنتخبوا الجنرال ( خوسيه هيلاريو لوبيز ) فتسلم السلطة عام 1849 ومنذ العام 1851 وحتى عام 1885 أي لمدة 34 سنه أوقع الأمريكان في هذا البلد 4 حروب أهليه و50 إنقلاب عسكري لغرض السيطره على مقدراته .
ومن أجل أن تطرد البرتغاليين من البرازيل وقعت فيها ( ثورة برايارا ) 1848 وهي حركه ثوريه شنت أعمال عنف مسلحه في مدينة ( برنامبوكو ) استمرت من تشرين الثاني 1848 وحتى 1852 لطرد الوصايه البرتغالية عليها .
لأجل أن لا تعم الفوضى في بريطانيا , كان عليها أن تغادر مقاطعاتها الناطقة بالإنكليزية في أميركا اللاتينيه , ولهذا فقد تم تحريك الآيرلنديين المهاجرين الى أميركا اللاتينيه لنظيم ( حركة شباب آيرلندا ) للقيام بهذه المهمه .
الى ماذا إنتهت كل هذه الفوضى ؟ الى تقوقع جميع هذه الدول على أنفسها وخوفها الشديد من غندلاع العنف مرة اخرى ... لهذا دخلت في تحالفات أفضت الى الحرب العالمية الأولى , لكن المنعطف الخطير الذي سيترافق مع الحرب العالميه .. هو قيام الولايات المتحده بإحتضان الماركسية وإستعمالها لتأسيس دول كبرى الإتحاد السوفييتي أولا ثم الصين الشعبيه ثم يوغسلافيا وبنهاية الحرب العالمية الثانيه رفع شعار الحرب البارده الذي هو في حقيقته كذبة كبرى لا تضاهيها كذبه أكبر من شعارالحرب على الإرهاب .
خارطة الشرق الأوسط الجديده ليست تقسيم حدود جديدة على الأرض فقط ... لكنها إعادة لتقسيم الأدوار وعوامل الصراع بما يبقيه مشتعلاً الى أن يأذن له بالتحول الى شكل آخر .
النقلات الكبرى على طريق فرض الخارطة الجديدة على المنطقه كانت : هزيمة 1967 , تلتها الحرب الصوريه بين العرب واسرائيل في 1973 لإعادة سيناء الى مصر من أجل جرها تداعي أكبر هو التوقيع على التطبيع مع اسرائيل من موقع المخدوع بالنصر , ولكي يتعزز الصراع العرقي الديني في المنطقه فقد تم تحويل ايران الفارسيه الى جمهورية اسلامية شيعيه تسعى مثل الولايات المتحدة التي صدرت ثورتها الأمريكيه الى اوربا _ الى تصدير ثورتها الشيعيه الى بقية مناطق الشرق الأوسط , النقله ما قبل النهائية هي احتلال العراق , والنقلة النهائيه هي التحريض على الثورات الشعبيه لإسقاط أنظمة الحكم الحالية ... ولن يستتب الهدوء إلا بعد أن تكون خارطة الشرق الجديده قد وضعت حيز التنفيذ .
#ميسون_البياتي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟