|
أنثروبولوجيا التضحية : الفينيق التونسي وثمن الثورات
كريم اسكلا
الحوار المتمدن-العدد: 3339 - 2011 / 4 / 17 - 23:57
المحور:
اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم
طائر الفينيق، أو "العنقاء" حسب الأسطورة طائر ضخم طويل الرقبة متعدد الألوان ، فريد ولا مثيل له. يعيش الفرد الواحد منه لنحو خمسمائة عام، وفي نهاية "حياته" يجثم على عشه في استكانة وغموض ويغرد بصوت منخفض، إلى أن تنير الشمس الأفق وهو عن عاجز عن الحراك فيحترق ويتحول إلى رماد. وعندما يكون الجسد الضخم قد احترق بالكامل، تخرج يرقة صغيرة من بين بقاياه وتزحف نحو أقرب بقعة ظليلة وسرعان ما تتحول إلى طائر فينيق جديد ... وهكذا. لا أدري كيف راودتني هذه الأسطورة وأنا أشاهد صورة احتراق محمد بوعزيزي ذاك الشاب التونسي الذي أشعل احتراقه لهيب الثورة المغاربية الأولى. إحترق جسد الشاب فخرجت من رماده طيور فينيق أبت إلا أن تجدد دماء الحرية والكرامة، ... كسر جدار الصمت والخوف، فهبت جموع الشعب التونسي إلى الشوارع صراخا، تكلم الحاكم غباءا وتدخل العسكر عنفا... ففر الدكتاتور ليلا، وأنشد الشعب كرامة، فتحسس كل ذي كرسي مقعده. هكذا تتوالى صور لحظة تاريخية مفصلية وفي الافق طائر فينيق يِؤطر المشهد. إن صورة محمد بوعزيزي وما وقع بعد ذلك لا بد وأن يجدد في الذاكرة أساطير عديدة لبطولات موغلة في القدم. دعونا نلملم بعض العبر من تسارع وقائع هذه الدراما المبكية في بعض مواقفها والدموية في أخرى والساخرة في كثير منها :
الدرس الأول : جميع الشعوب والمجتمعات المقهورة على وشك الانفجار، فنتيجة تكثل مافيات الفساد المالي والسياسي والإداري والحزبي والأمني والأسري والعشائري تولد شكل مقزز من الديكتاتوريات الإقطاعية المتعددة الجنسيات لا يمكن لأي أحد أن يستمر في تناسيها والتعايش معها. سبق للبروفيسور المهدي المنجرة أن سماها بانتفاضات في زمن الذلقراطية. والأكيد أن موجات الرفض والإنتفاضات كانت تغلي منذ زمن طويل مرورا بجملة من الاحتجاجات ... التي دفع ثمنها العديد من الشهداء والمقموعين والمنفيين، وبالطبع لم يكن احتراق محمد بوعزيزي سوى حلقة من حلقات نضالات الشعب التونسي، لكن رمزية وخصوصية احتراق ذلك الشاب المتعلم المعطل الذي عمل خضارا... تجعل منه حدثا فارقا في الثورة التونسية. والمعلوم أيضا أن العديد من المجتمعات تعيش أزمات بنيوية طاحنة، لكن لا أحد يستطيع أن يتنبأ بالقطرة التي ستفيض الكأس. فليس بالضرورة أن يكون احتراق أحدهم هو تلك القطرة، أو اعتقال أخر، أو صفع اخر ، ... كما أنه ليس بالضرورة أن تكون تلك القشة المنتظرة حدثا كبيرا أو فاضحا. فقد يعقب أحدهم بأن الاف الناس يموتون في الزنازن والمعتقلات والمنافي وفي قوارب الموت، والاف المعطلين والألاف الناس المهانة كرامتهم، وملايين تقارير الفساد ... لكن لم تحرك الشعوب ساكنا. نقول أنه في تونس أيضا عاشوا عقودا تحث سطوة الجلاد، لكنهم ثاروا لاحتراق شاب واحد.
الدرس الثاني : فضل المجتمع التونسي الحرية والكرامة على كل شيء، " خبز وماء ... بن علي لا " ، لم تنفع لا العصا ولا الجزرة، مما يكشف فشل المقاربات الأمنية الحالية في الدول البوليسية والأمنية، فإذا جوعت كلبك بعد الأن فلن يتبعك بل سيأكلك ويفترس عظامك.
الدرس الثالث : التغيير يتطلب ثمنا، والشعب التونسي كان واعيا بضرورة دفع الثمن، ومحمد بوعزيزي كان ضمن الأضحية والتضحية الواجب تقديمها للحصول على الحرية. والفوضى والعنف والقتل ... كل ذلك يدخل في خانة أنتروبولوجيا طقوس الخلاص والفداء. ففي عز الأزمات تبرز فكرة التضحية ... والاستعداد التام لإيذاء الذات لتخليص النفس والآخر من الألم والظلم ... سواء بالحرق أو تحمل التعذيب والسجن والنفي والقمع، أو بالافتداء بالدم والجسد، أو الاحتجاج في الشارع العام وموجهة القوى القمعية... فالاحتراق أو أي شكل من أشكال الرفض وما قد يترتب عنه من ألم ومعاناة هو تكثيف رمزي لطقوس الخلاص المتجذرة في العمق الأنثروبولوجي لكل المجتمعات والأفراد، فالعديد من المجتمعات تنظم طقوسا عديدة للفداء بل إن بعضها تقدم قرابين بشرية بشكل دوري لمعبودتها لتخلصها وتحميها، وفي الدين الإسلام مثلا يكمن الخلاص في إتباع ما جاء به القران والسنة، والتاريخ الإسلامي شهد العديد من قصص تتجلى فيها التضحية، كما أن (الصوم والزكاة وعيد الأضحى، جلد الذات بالنسبة لبعض الشيعة ...) كلها طقوس تكثف الفداء من أجل الخلاص، وفي المسيحية يتجلى الخلاص في المسيح الذي افتدى أو قدم نفسه لخلاص شعبه ودينيه باعتباره الواسطة بين الإله والناس. في حين ترى اليهودية أن الشعب اليهودى هو محل الروح الإلهيه وهو شعب الله المختار وهم طليعة الخلاص، كما أن بعض الديانات الفلسفية كالبوذية ترى أن الحرق طقس خلاصي واحتجاجي وافتدائي بامتياز.
الدرس الرابع : أبرزت التجربة التونسية أهمية – الشبكات الاجتماعية على الانترنت - الإعلام البديل في التعبئة وتأطير الناس وتبادل الأراء، وتسيير الحياة اليومية بشكل تشاركي حضاري مدني . بعيدا عن التقوقع الايديولوجي أوالحزبوي أو العشائري ... بالتالي تناسي الخلافات الهامشية ثم الاتحاد حول القضايا المصيرية.
الدرس الخامس : خلال مرحلة الثورة ممكن أن تظهر جماعات من الإنتهازيين والفوضويين الذين سيحاولوا قطف ثمار الثورة وتغيير أهدافها لصالحهم، أو يحاولوا التنظير للخطط الاصلاحية والترقيعية والتلفيقية والتوفيقية. بالتالي وجب الانتباه إليهم والتيقض لحيلهم.
الدرس السادس: أكدت الثورة التونسية بالملموس أنه في منظومة العلاقات الدولية لا يوجد صديق دائم وعدو دائم، كل شيء يتغير وفق المصالح الكبرى، شاهدنا كيف تخلت الدول الكبرى عن دعمها لحلفائها بمجرد أن تبين لها عجز هؤلاء عن التحكم في الأمور.
الدرس السابع : بمجرد سقوط النظام السابق يصبح كل من كان يطبل له ويسبح بحمده من أشد من يلعنه ويفرح لرحيله. مبررين ما كانوا عليه بأنهم كانوا إما مغرربهم أو مغلوب على أمرهم. لكن كل الشعوب ستعي الطريقة المثلى للتعامل مع أمثالهم.
الدرس الثامن: كما للثورة مسببات وعوامل، لها عوائق وموانع أيضا، تقودها قوى المحافظة، قد تكون الأسرة، أو المدرسة، أو مؤسسة المسجد ... وباقي الأجهزة الايديولوجية للدولة. معتمدة في ذلك ثورة مضادة تقوم على الخوف والاستكانة والاتكالية والقناعة والاجماع وتفادي ايقاض الفتنة النائمة ... وثقافة " الفم المسدود "، والسير في الشارع بمحاذاة الجدران مطأطئي الرؤوس، والتخويف من المراحل الانتقالية ...
الدرس التاسع : نجاح الثورة في بلد ما لا بد وأن يكون له تأثير على جميع باقي البلدان، فبعد أن أبرقت وأرعدت في تونس أمطرت سماء العديد من الدول الأخرى، فمن كرمات التجربة التونسية أن البعض فهم جزاء مما حصل، فحاول التدارك فتكرم على شعبه ببعض الهبات المالية، والبعض تراجع عن سياسات تقشفية كان قد سطرها، والبعض وعد بالاهتمام أكثر بالجوانب الاجتماعية ... وإن كان هذا جزءا من الدرس فقط فعلى الأقل أفضل ممن لم يستوعب ولو كلمة واحدة، مثل من تمنى جهارا أن تدوم الديكتاتورية مدى الحياة، أو مثل من حاول استنفار كل قواه الأمنية والعسكرية، أو مثل من في بلده تقطع يد سارق سرق بيضا، لكنه أجار لصا سرق شعبا ...
كريم اسكلا
http://www.isskela.blogspot.com/
[email protected]
#كريم_اسكلا (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أجساد الأساتذة تنتصر على زرواطة أجهزة المخزن بالرباط
-
تدخل أمني عنيف لفك اعتصام الأساتذة الموجازين بمدينة الرباط
-
للتضامن مع المعتقل باسو أيت الفقي - المناضل الذي ثأر لكرامة
...
-
عفوا أيها البياض
-
أنا المدينةُ
-
الطقوس الجديدة للاجساد بالمجتمع المغربي.
المزيد.....
-
-عيد الدني-.. فيروز تبلغ عامها الـ90
-
خبيرة في لغة الجسد تكشف حقيقة علاقة ترامب وماسك
-
الكوفية الفلسطينية: حكاية رمز، وتاريخ شعب
-
71 قتيلا -موالين لإيران- بقصف على تدمر السورية نُسب لإسرائيل
...
-
20 ألف كيلومتر بالدراجة يقطعها الألماني إفريتس من أجل المناخ
...
-
الدفاع الروسية تعلن تحرير بلدة جديدة في دونيتسك والقضاء على
...
-
الكرملين يعلق على تصريح البنتاغون حول تبادل الضربات النووية
...
-
روسيا.. اكتشاف جينات في فول الصويا يتم تنشيطها لتقليل خسائر
...
-
هيئة بريطانية: حادث على بعد 74 ميلا جنوب غربي عدن
-
عشرات القتلى والجرحى بينهم أطفال في قصف إسرائيلي على قطاع غز
...
المزيد.....
-
قراءة ماركس لنمط الإنتاج الآسيوي وأشكال الملكية في الهند
/ زهير الخويلدي
-
مشاركة الأحزاب الشيوعية في الحكومة: طريقة لخروج الرأسمالية م
...
/ دلير زنكنة
-
عشتار الفصول:14000 قراءات في اللغة العربية والمسيحيون العرب
...
/ اسحق قومي
-
الديمقراطية الغربية من الداخل
/ دلير زنكنة
-
يسار 2023 .. مواجهة اليمين المتطرف والتضامن مع نضال الشعب ال
...
/ رشيد غويلب
-
من الأوروشيوعية إلى المشاركة في الحكومات البرجوازية
/ دلير زنكنة
-
تنازلات الراسمالية الأميركية للعمال و الفقراء بسبب وجود الإت
...
/ دلير زنكنة
-
تنازلات الراسمالية الأميركية للعمال و الفقراء بسبب وجود الإت
...
/ دلير زنكنة
-
عَمَّا يسمى -المنصة العالمية المناهضة للإمبريالية- و تموضعها
...
/ الحزب الشيوعي اليوناني
-
الازمة المتعددة والتحديات التي تواجه اليسار *
/ رشيد غويلب
المزيد.....
|