|
البعد الفلسفي والسيكولوجي في أبحاث سامي لبيب (2)
سامي ابراهيم
الحوار المتمدن-العدد: 3330 - 2011 / 4 / 8 - 16:21
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
إن النكسات الفكرية التي تعرضت وتتعرض لها حضارات الشرق نتيجة تدينها قد حطمت شعوب هذا الشرق وسببت له ركوداً وخمولاً عقلياً وجعلته يعيش تحت نير صراعات عقلية مريرة ولدتها الأفكار الدينية الساذجة المتناقضة، وأدت إلى كل هذا الدمار والتخريب العقلي الذي خلق مجتمعات تعيش الظلمة والجهل والخرافة والفقر والألم. ولكن بين ظلام الشرق تتلألأ أنوار جواهر نادرة، ويبزع شعاع نور هنا وهناك، إنه شعاع الناقد الديني الذي يضيء للأجيال القادمة طريقها، ليحررها من أوهام وهذيانات الأجيال البائدة القديمة بخرافاتها وترهاتها. أشبه الناقد الديني بإنسانٍ خرج من تحت الأنقاض ومن بين الركام حياً قوياً متحملاً أيام طويلة من الآلام والجروح والكسور، منتصراً على الجوع والعطش. الناقد الديني إنسانٌ يتميز بمنظومة عقلية فريدة، يأتي تميزه من أنه كان عليه أن يعمل عملية فورمات لكل المعلومات المنصبة في دماغه كمرحلة أولى، ثم يعيد تنصيب برنامج عقلي جديد بلغة برمجة جديدة غير مألوفة وغير متوفرة في الوسط المحيط كمرحلة ثانية يكون التفكير العلمي والمنطقي أساسها وبيئتها التي تكتب من خلالها الأوامر البرمجية والشيفرات، ثم تصديره لهذه الأفكار الناتجة عن هذا البرنامج للآخرين والتعبير عنها كمرحلة ثالثة. ولكن ما يميز المفكر "سامي لبيب" أنه متميزٌ على المتميزين، وأنه الشعلة التي تضيء لحاملي المشاعل طريقهم. إن العناصر الفكرية الجديدة التي أدخلها المفكر "سامي لبيب" واستنتاجه لطرق ووسائل مبتكرة في مجال نقد الظاهرة الدينية قد جعل منه ظاهرة فكرية ورائدة للإنسان الناطق بالعربية. ببصيرته العبقرية جعلنا "سامي لبيب" نوسع مداركنا لنسبح في بحر العقل ونغوص في أعماق النفس البشرية لنكتشف الأسرار والخفايا، ولنفهم أكثر الأسباب التي شكلت المنظومة الدينية. عبقريته هي طاقة نابعة من عقلٍ ينتج الفكر بتدفق وغزارة، إنه يتأمل ويجعلنا نتأمل، ليبني لعقولنا شكلاً ومجسماً فكرياً بأبعاد نفسيةٍ وفلسفيةٍ واجتماعيةٍ، يمثل هذا المجسم قارب نجاةٍ، نُبحر فيه مخترقين غمام البحر الذي شكلته الأفكار والمعتقدات الدينية، متحدين أمواجها العاتية التي أغرقت شعوب الشرق بخرافاتها وأوهامها وهذياناتها وسذاجتها وتناقضاتها. نبوغٌ عقليٌ أنتج سلاسل نقدية فكرية بمستويات إبداعية متنوعة ومتعددة جعلت منه ثورة فريدة من نوعها في هذا الشرق الذي غابت عنه شمس الحضارة منذ مئات السنوات. منظومته العقلية التي ينقد بها الظاهرة الدينية قد وصلت بإبداعها لأقصى المستويات التعبيرية المتينة والإنتاجية الغزيرة غزارة أمطار استوائية على غابات العقول وأدغال النفس. .................................... تحدثت في الجزء الأول من هذا المقال على البعد الفلسفي في كتابات المفكر "سامي لبيب"، وأظهرت المنهجية (الجدلية) التي اعتمدها منهجاً لكشف التناقضات الموجودة في الفكر الديني. في هذا الجزء سأتناول المنهجية السيكولوجية التي اعتمدها المفكر "سامي لبيب" التي تناول من خلالها الإنسان نفسه وكيف قام هذا الإنسان ببناء المنظومة الدينية حجرا على حجر مرتكزا على رغباته وتصوراته للأمور: اللاشعور هو المكان الذي تتركز فيه الرغبات والدوافع والأمنيات والحاجات التي تبغيها وتطلبها الغرائز، الرغبات هي محور كل الانفعالات وهي الأساس التي تقوم عليها انفعالات وتصرفات الإنسان. بينما الشعور أو الإدراك فهو مظهر سطحي للنشاط النفسي الذي يظهر في تصرفات الإنسان وأفعاله وسلوكه. اللاشعور هو الذي يقود عملية السلوك ويوجه الإنسان نحو تحقيق الإشباع الذاتي. ومن هنا سأدخل في غمار البعد السيكولوجي عند "سامي لبيب"، فالعقل البشري لا يفكر إلا عندما تمس مصالحه الذاتية ورغباته الأساسية، هو أشبه بمكينة تتلقى أوامرها من مستقبلات الإحساس الذي يشكل إشارات دخل ليبدأ بالعمل بإنتاجه لحلول تخرج الإنسان من الأزمات التي يتعرض لها. إذاً فإن الإنسان لا يفكر إلا هروباً من الألم، الألم الذي تسببه ظروف المحيط من جهة، والألم الداخلي الناتج عن ضغط الغرائز والشهوات والحاجة لتحقيق اللذة والإشباع من جهة ثانية، العقل لا يعمل إلا تحت وطأة المحن التي تزلزل وجداننا وتتلمس لها سبيلا ً للسلام والأمان. وهنا يقودنا "سامي لبيب" إلى إسقاط هذه الفكرة على الظاهرة أو المنظومة الدينية، ليضع طرحا جوهريا أمامنا وهو أنه كان على المؤمن أن يمرر فكرة الله ويحاول إثباتها وتبريرها لأن النظرية العكس لهذه الفكرة تسبب ألما نفسيا وصراعا مريرا لا يمكن تحمله، فالعقل يتحرك في الإطار الذي حددته رغبات المتعة والألم. إذاً أستنتج "سامي لبيب" أن النصوص الدينية هي أفكار أنتجها العقل البشري، لماذا؟ لحل مشكلات وتفسير ألغاز عصية استنادا على موروثٍ ثقافي وديني سابق، وكان على هذه الأفكار في تلك الأزمنة الغابرة الغارقة في جهلها ولاعقلانيتها أن تقدم التجريد والتحليل والتركيب وصياغة قوانين ومهام وواجبات، وتلبي رغبات وحاجات ومطامع الفرد في التملك واللذة والمتعة، وكانت هذه الأفكار تعبيرا وانعكاسا (لواقعٍ) خُلقت لتتفاعل معه وتتجاوب مع متطلباته. ما أراد إظهاره "سامي لبيب" بنزوله لأعماق الذات البشرية أن الأفكار الدينية لم تكتب من وحي إلهي أو كلمات سماوية نازلة من السماء كما يعتقد جميع المؤمنين، بل كانت نتيجة رغبات وتصورات ودوافع وحاجات لطالما طمح الإنسان للوصول إليها وبلوغها. فكانت الأفكار الدينية نماذج سيكولوجية للواقع كما يريده المؤمن بالضبط وبالمثالية التي حلم بالوصول إليها. ............................................... كان لا بد لمنظومة تضم كل هذه الهشاشة والركاكة والسذاجة من أن تقمع أي عقلٍ يطرح أسئلةً ويناقش في أفكارها خشية تفككها وانهيارها، ليكون ألف باء الإيمان هو: أن لا تعرف! لقد أوضح لنا المفكر "سامي لبيب" بأن مؤلف النصوص الدينية قد أكتشف خطر الحرية في المعرفة، وأن فتح المجال أمام المعرفة سيجعل المنظومة الدينية تنهار من على عروشها. وهذا ما نراه في النصوص الدينية المليئة بالتحذير والتهديد والوعيد والغضب الإلهي. فما عليك إلا أن تتصور أن أعظم الخطايا التي اقترفها الإنسان كانت لأنه مارس فعل المعرفة وأدت لخروجه من الفردوس ونعيمه وحكمت عليه بالموت!. لقد حصنت المنظومة الدينية نصوصها المقدسة بالنهي عن السؤال والخوض في غمار المقدس، وولدّت فوبيا السؤال، وخلقت أسوار عالية وحصون جعلت الاقتراب منها الخطر الأعظم على حياة الإنسان. إذاً المنظومة الدينية بقتلها للسؤال يسّرت عملية تمرير حمولتها من الخرافات والغيبيات بعدم توقف هذه الغيبيات عند نقاط تفتيش العقل وحواجز المنطق وحدوده. نجاح المنظومة الدينية في ترويض العقول على عدم السؤال وعدم الشك أدت إلى حشر البشر في حظيرتها. ...................................... إن عملية الإدراك والتعرف على ماهية الأشياء تتم من خلال تجارب سابقة وخبرات وضعت ولقنت وحقنت في عقل الإنسان، وهذا يعني بأن الإنسان لا يمكنه أن يعي الواقع ويفهم ما حوله إذا كان خاليا من عناصر تم التعرف عليها مسبقا من قبل أناس سابقين. أشبه حواسنا ومستقبلاتنا الحسية بــ كاميرا فيديو، تسجل وتخزن وتمرر الملفات المصورة إلى الدماغ، ولكن هذه الملفات ما كانت لتحمل أي مضمون وأي معناً لولا خبرات سابقة زرعت فينا فسّرت وأعطت مفهوماً للأشياء التي تلتقطها حواسنا، فالطفل لا يميز بين نمر وخروف وعقرب، فهو مستعد ليركض باتجاه النمر ليعبث بوجهه ويضع يديه في عينيه، ولكن خبرات سابقة لقنت الطفل أن النمر من أشد الحيوانات المفترسة وسيقتل من يقف في وجهه، لترتعد فرائص الطفل من مجرد رؤيته، كما لقنته أن ملامسة النار ستحرقه وتسبب له ألما كبيرا. الذاكرة تتطابق مع الصور المسجلة، فيقوم الدماغ بتحويل هذه الصور وترجمتها إلى معرفة إدراكية. وبدورها هذه الصور الجديدة المدركة تضاف إلى الذاكرة وتخزن على أنها خبرات لتغذي دائما مخزون الدماغ من الصور الذهنية التذكرية. النصوص الدينية هي أفكار، والأفكار هي صور حسية تنشأ في الذهن كانعكاس لرغبات. إذاً النصوص الدينية ناتجة عن خلق صور حسية أو فكرية جديدة في الوعي الإنساني، هي تخيلات تعطي للأشياء مفهوما معينا وتفسيرا معينا ذات دلالات معينة مرغوبة مرتبطة بحاجات الفرد والمجتمع تساعده على التوفيق بين ما هو موجود وما هو مراد له أن يكون موجود. وهذا ما أكد عليه "سامي لبيب" بتعريفه للأفكار على أنها نتاج تجارب حسية تشكلت من مجموعة مشاعر وأحاسيس صغيرة وكبيرة خلقت لها البيئة الحاضنة لتبنى الفكرة وتتشبث بها، وأنه من الطبيعي عندها أن يكون سبب تعصبنا لفكرة أو رأي هو نتاج تراكم عدد من الأحاسيس تولدت مع ظهور الفكرة. ويذهب "سامي لبيب" إلى أن تكوّن رؤانا الفكرية وتشكلها يتم من خلال تراكم كم هائل من الأحاسيس المرافقة لحدث ما. وبالتالي فإن حجم الاستحسان أو النفور النفسي المصدّر لنا يمكّننا من أن نخلق الفكرة ونمررها أو نرفضها ونلعنها (قارن مع مثال الطفل والنمر والنار)، وعليه فإن الشعور بالراحة والمتعة من خلال مشاهد معينة يجعلنا نقبل الفكرة ونتشبث بها كمورد للأمل والراحة أو كفعل شرطي لاستحضار الراحة والسلام. في النهاية تتبلور هويتنا الإنسانية من خلال تراكم مشاعر وأحاسيس تم تصديرها لنا من خلال الجيل السابق بما امتلكه من خبرات الناتجة والملقنة بدورها من جيلٍ سابق. أحاسيس الآباء رسمت حدود المجتمع وشكله وطبيعة أفراده وطريقة تفكيرهم. ليوصلنا "سامي لبيب" إلى نتيجة مفادها أن تأثير المشاعر والأحاسيس المكونة لهويتنا الإنسانية قد جعلنا نقبل خرافاتنا وغيبياتنا من خلال أبٍ يقص المعجزة بعيون مُعجبة ومندهشة وممنونة، بينما نرى ملامح وجهه تتغير وتتبدل عندما يسخر من غيبيات الآخرين وخرافاتهم . وعليه فإن تأثير شريط طويل من الذكريات والأحاسيس كوّن هوية عاطفية قادرة على تمرير حمولات هائلة من الخرافة. ........................................ رسّخت المنظومة الإيمانية قانون اللاعقلانية في دماغ الإنسان، صورت له أن الأمور أعظم من أن يتخيلها وأن يستوعبها عقله المحدود، لتساهم هذه اللاعقلانية بتمرير كل هذا الكم من الغيبيات دون الاندهاش أو تولد اللامنطق. كان لا بد لمفكر كـ"سامي لبيب" درس الظاهرة الدينية من جميع جوانبها وتناولها من جذورها النفسية وغاص في أعماقها أن يذكر نقاط مادية ارتكز عليها المؤمنون غذت فكرة إيمانهم ورسخت المنظومة الإيمانية في العقول. لأستعرض عدداً من الحيل النفسية وآليات الدفاع التي كشفها لنا "سامي لبيب" يلجأ لها المؤمن لينقذ عقله من الصراع الناشئ الناتج عن نقد المنظومة الدينية بما تحمله من نصوص وأفكار متناقضة خرافية: • الانتماء للجماعة عزز في ذهن المؤمن فكرة أن معتقداته صحيحة فيتصور أنه طالما هناك ملايين من البشر يعتقدون بالله وبدينه فيكون إيمانه وفكره صحيح، فليس من المعقول بأن هؤلاء البشر كُلهم مُخطئون ومُنحرفون فكرياً. وبهذه الطريقة فإن المتدين يصرف حجم القلق الذي ينتابه من الموروث الديني وعجزه عن إيجاد وسائل منطقية للاقتناع والإقناع، ليتشرنق داخل القطيع، ليجد الحماية بين هذه الأعداد الهائلة من المناصرين الذين لا بأس أن يكون منهم علماء ومفكرين فهذا سيعطى للمعتقد المزيد من سلامه وقوته. فإذا قلنا لمؤمن يعتقد بهذا الطرح أن عدد الذين لا يؤمنون بإله الديانات السماوية أكبر بكثير من عدد المؤمنين به، فهل يمكن لهذه الحقيقة أن تشكل أي اختلاف أو تغيير لديه؟!. • لا يكف العقل الديني يستخدم آليات دفاع تمنع الشك من التسلل إلى داخل المنظومة الدينية، فها هو هذا العقل الديني يهرب من الإشكاليات التي تكلل معتقده ودينه بالخوض في فساد فكر الآخر كمحاولة إما لتفريغ طاقة غضب عن عجزه أو هو الارتماء في حالة نفسية تبريرية بأن الجميع فاسد. • ميكانيزم المؤامرة: وهو ميكانيزم دفاعي قوي استخدمته المنظومة الدينية للدفاع عن أركانها وهي زرع فكرة المؤامرة في محاولة من العقل لإيجاد وسيلة تتحمل كم الخرافات والغيبيات الكامنة في سراديبه، إنها مؤامرة نسج خيوطها الشيطان. تجد المؤمن يردد على الدوام أن الشيطان اللعين يحاول أن يخرب إيماننا ومعتقداتنا ويوسوس بداخلنا بالشر وكل فكر متشكك، وأنه أساس البلاء، وأن الشيطان هو ومن يبتدع الأسئلة والبدع ليجرفنا عن إيماننا. لقد خلقت المنظومة الدينية فكرة أن أي نقد موجه لها ليس إلا غيرة وحقد. وعليه فإن أي نقد من شأنه أن يشكك ويهز أرجاء إيمانه هو نتاج قوى شريرة وحاقدة ولا تبغي الخير له. • ميكانيزم التحويل: أو إجابة السؤال بسؤال وهو أكثر الأنماط شيوعا في مناورات العقل الديني فتراه يتبنى نظرية " خير وسيلة للدفاع هو الهجوم "‘ إنه يقوم بتحويل السؤال الموجه إليه بسؤال آخر مضاد، ليجد تبريرا ً مقنعا ً لإيمانه. كأن تتحدث مثلا ًعن الخلق وكيف تم مع وجود رؤية علمية بان المادة يستحيل أن تتواجد من العدم، هنا العقل الديني لا يملك شيئا ً يقدمه بحكم أنه تلقى المعلومة كموروث ثقافي أكتسبه وتم تلقينه إياه، فلن يفعل سوى أن يطرح سؤاله المبتذل المكرر الذي لا يملك غيره أمام آلاف الأسئلة المضادة: وهل تعتقد أن الكون والوجود وجد هكذا، هل الحياة جاءت صدفة وبعشوائية! • ميكانيزم الإرهاب: كان لا بد للمنظومة الدينية وهي بهذه الهشاشة والبدائية والتخلف والهمجية أن تولد الإرهاب الفكري والمادي الإجرامي. صناعتها للإرهاب أخطر وأسوأ ميكانيزم دفاعي يمكن لعقل أن يستخدمه، إن مواجهته للأفكار الناقدة بهذه البدائية والبداوة والهمجية ما هي إلا نتيجة حتمية متوقعة. فمواجهة الفكر الناقد بالوعيد والإرهاب والعذاب والجحيم هو أسلوب يتبعه المؤمنون كضربة استباقية. يعتقد المؤمن أنه بهذا الأسلوب في تصديره للإرهاب كفيل بالرد على ما يثار من نقد حول منظومته الدينية. لقد خلق الفكر الديني تصوراً لدى الإنسان بأنه مازال تحت نير العبودية الفكرية القديمة وأن حد السيف المشهور سلاحا ً أو سبا ً كفيلٌ بالردع . ................................. ركنٌ أساسي محوري ساهم في تبلور البعد النفسي عند المفكر "سامي لبيب" ألا وهو "الموت". لا يمكن لإنسان أن يتخيل نفسه ميتاً، ولا يمكن للإنسان أن يتقبل فكرة الموت مع تيقّنه التام من حقيقته الحتمية. كان الموت هو الفجيعة الأكبر منذ فجر التاريخ، يحطم الإنسان ويزرع الرعب في قلب الإنسان. هو الصخرة الصلدة التي ترتطم عليها كل أحلامنا وأماننا وأمانينا البشرية. فكرة "الموت" بما حملته من آلام وهواجس ومخاوف وقصص وأساطير ساهمت في ترسيخ المنظومة الدينية وتمريرها مع حمولتها الضخمة من الغيبيبات والتناقضات إلى تقبل العقل البشري لها، وحصنتها أكثر فأكثر. لم يستطع أن يفهم الإنسان أن الحياة بدون موت تصبح بلا معنى ولا قيمة لها، ولذلك عندما فكر في الموت لم يفكر بمنطق الأمور، بل ترك مشاعره وأحاسيسه ومخاوفه وأحزانه على أحبائه الذين ماتوا مع النسيج الثقافي الهائل المحاك على قصص الموت هي التي تقود عملية التفكير لديه في هذه القضية، ليخرج بنتائج لم ينسبها "سامي لبيب" إلى جهل الإنسان المعرفي فحسب، بل إلى (الأنا) المهيمنة والموجهة للتفكير، والتي تصاعدت بنرجسية وغرور رافضة فكرة الانتهاء والتبدد والسكون بلا حركة. ليفزع الإنسان ويهلع ولتحرص الأديان على فكرة استدعاء الجسد والبعث لأن الإنسان يعرف أنه لا يدرك ويحس ويشعر بمتعة إلا بجسده، وتخيل الحياة بعد الموت في الجنة لتدغدغ مشاعره بلذات حسية إنسانية من طعام وخمر وجنس . وكان لا بد لتحقيق هذه المسرحية من مخرج، فخلق فكرة الإله الذي يجتاز بالإنسان عالم الموت ويمنحه الحياة الأبدية. نقطة أخرى مهمة في قضية الموت طرحها المفكر "سامي لبيب" أرست أسس المنظومة الدينية وثبتتها في عقل الإنسان، وهي أن امتلاك الإنسان للوعي والإدراك جعله منفصلاً عن الطبيعة ومراقباً لها. فالإنسان كائن واعي يمتلك الذاكرة الحافلة بالأحداث بكل ألوانها الجميلة والفجة وذاكرته عبارة عن صور وأحداث مشبعة بالأحاسيس والمشاعر، الإنسان أدرك أيضا ً أن الحياة عبثية وكل السيناريوهات التي تمر وستمر به مفتوحة، أدرك أن اللحظة التي يعيشها يمكن أن تحل مكانها مئات اللحظات التي تقلب يومه رأسا ً على عقب. إن خوفنا من لحظات الموت تجعلنا في حاجة إلى معين وراعى، فكان لا بد لفكرة الإله الراعي والمعتنى والحافظ أن تأخذ مجدها وتظهر وخاصة أن ظواهر الطبيعة القاسية لم ترحم الإنسان وحصدت أرواح الآلاف، فكان الإله حضن الأب الدافئ يحمي الأبناء. في النهاية استطاعت المنظومة الدينية بكل جدارة أن تمرر حمولتها بكل هذه الغيبيات والخرافات والهذيانات، مستغلةً أيما استغلال عوامل الخوف من الموت والرغبة في تجاوزه، مستفيدة من بحث الإنسان عن حامي وسند معين له من نوائب الدهر، طارحةً رؤية بأن الإيمان بحياة أخرى يخلق للوجود معنى وجدوى في عالم هو في حقيقته بلا جدوى ليتخلص الإنسان من الإحساس القاتل بعدمية الوجود وأن الحياة لا تزيد عن كونها ريشة تذرها الرياح. ........................................... لقد فطن "سامي لبيب" إلى علاقة الإنسان ضمن الجماعة، فدرس علاقاته وتفاعلاته مع جماعته، تلك العلاقات التي قامت على الصراع والتعاون والتنافس والموائمة، لقد توغل "سامي لبيب" عميقا في الجماعة البشرية ودرس التغييرات الاجتماعية والقوى المحركة في حياة الإنسان، ليشرح كيف ساهم فهم الإنسان وتطور وعيه إلى وضع قوانين وتشريعات دخلت في صميم المنظومة الدينية، لتكون النصوص الدينية نتيجة تجارب بشرية ولا علاقة لها بإله أو سماء لا من قريب ولا من بعيد. لقد استنتج الإنسان أن مستوى أداء الجماعة يصبح أفضل ضد الظروف الخارجية المحدقة بها من قبل الطبيعة والجماعات البشرية الأخرى على حد سواء. وأدرك الإنسان أن صراعاته في حيز جماعته البشرية سيضر بمصالح الجماعة، فكان لا بد لهذا الصراع أن يُهذّب ويتوقف أمام أخطار لا يستطيع مواجهتها وحيدا ًومن هنا تعلم أن يقلل من طاقات العنف والشراسة المتأصلة فيه حتى يستطيع العيش ضمن جماعة توفر له الحماية والأمن من أخطار الطبيعة وأخطار الجماعات البشرية الأخرى . ليبدأ تبلور النصوص الدينية في التحريم والتحليل، فحرّم الإنسان القتل ضمن جماعته البشرية، لأن أي فرد هو سند للآخر أمام مخاطر قادمة ومحدقة، ويتم تفريغ غريزة القتل في الآخر البعيد عن جماعته والذي يحمل سمات وهوية مختلفة. ليأتي التراث الديني مليئا بالجرائم الوحشية، ولتقوم المنظومة الدينية على ركن أساسي ألا وهو القتل. ثم يستنتج لنا "سامي لبيب" تبلور نصوص دينية مقدسة كانت الغاية منها تمرير مصالح الطبقات الحاكمة وإبقاء سلطتها واستغلالها لبقية الشعب. ونشوء نصوص أتت لخدمة مشاريع سياسية وقومية واضحة الملامح بمشاريع سياسية للاستيلاء على أملاك وأراضى الآخرين، لترى عمليات تطهير عرقي وإبادات ومجازر اعتمدت نصوص دينية مقدسة تطرح أجندة واضحة في تكوين دولة والتمدد والغزو والانتشار والاحتلال . ....................................... لا بد أن أشير في معرض حديثي عن كتابات المفكر "سامي لبيب" إلى نقطة هامة ركز عليها وهي دراسته لمفهوم الأخلاق، ونقضه للنظرية الأخلاقية التي أدعت المنظومة الدينية أنها شكلتها وكونتها وشيدت أركانها. لقد بين المفكر "سامي لبيب" أن تواجد منظومة سلوكية تنظم العلاقات بين أفراد الجماعة البشرية كان منذ فجر التاريخ وولد مع أول تجمع بشري، لتتشكل الملامح الأخلاقية والسلوكية كنتاج طبيعي لتطور الإنسان المعرفي والحضاري. أوضح "سامي لبيب" أصل الأفكار الأخلاقية الدينية وهشاشتها، وبين زيف إدعائها بأنها هي من أنتجت الأخلاق مدعية أنها تلقتها من السماء وفق إرادة إلهية، وبين حقيقة الأخلاقيات التي صدرتها النظرية الأخلاقية الدينية التي هي عبارة عن إرادات بشرية لتمرير مصالح النخبة والملاّك من خلال صياغة حزمة من السلوكيات المراد إتباعها ولكي تضمن لها الردع نسبتها إلى الآلهة التي تبغي هكذا سلوك فيكون لغضب وانتقام الإله . لقد بين "سامي لبيب" المصدر الأرضي لهذه الأخلاقيات. لقد ذهب "سامي لبيب" إلى فكرة أن رفع مستوي وعي الإنسان وتنويره سيؤدي إلى إرساء وولادة أخلاقيات جديدة تقود الإنسان لتحقيق مجتمع تسوده العدالة والحرية ويكون فيه الإنسان سعيدا. لكنه نبه إلى خطورة الرؤية الأخلاقية الدينية والناتجة عن فهم الإنسان البدائي القديم الهمجي للأمور لتأتي بكل ثقلها على الإنسان المعاصر لتصيبه بالتجمد والتشوه الحضاري والأخلاقي، وتفرض منهجيتها على الإنسان في مرحلة الطفولة، مشبعة بالازدواجية، مرسيةً منظومة أخلاقية مفتقدة للحرية وتبنى على القهر والترهيب مستخدمة أسلوب الجزرة والعصا. ........................................ • يصور "سامي لبيب" الظاهرة الإيمانية على أنها عدوة العلم، لتحارب التفكير المنطقي وشد الانتباه بعيدا عن إدراك القوانين الموضوعية للطبيعة وخاصة قوانين المجتمع. • يحرص "سامي لبيب" على تصدير فكرة دائمة عن المنظومة الإيمانية بأنها صاحبة قطعية متطرفة ونزعة تسلطية. • من خلال هذه المنظومة الدينية يتم تمرير مصالح نخب. • يقع المؤمن في خضم صراعات عقلية ثابتة تسيطر على الإنسان، فالصراع العقلي ناتج عن الرغبات والدوافع اللاشعورية التي تضغط لتحقيق اللذة والإشباع والراحة للإنسان من جهة وبين الواقع المفروض على الإنسان الذي عليه أن يتكيف معه ويتقبله ويكبت غرائزه ودوافعه مضطرا ومجبرا. وليحافظ المؤمن على مكاسبه من المنظومة الإيمانية كان عليه رفض التفكير المنطقي للوصول إلى قانون، وذلك عن طريق إحلال الإيمان محل المنطق. ........................................... كنت أتمنى لو توسعت أكثر في بحثي هذا لأني لم أرغب في رؤيته ناقصا، فهناك سلسلة سيكولوجية كاملة كتبها المفكر "سامي لبيب" عنوانها " نحن نخلق آلهتنا " تمنيت لو سلطت الضوء على أفكار مقالاتها الأساسية ولكنني ركزت جهدي على سلسلة " لماذا يؤمنون ..وكيف يعتقدون "، فشيء بسيط أفضل من لا شيء. أتمنى أن تنال كتابات وأبحاث "سامي لبيب" حقها في الانتشار والشهرة والوصول لأكبر عدد من القراء، وهذا ما سيتحقق لو قامت دار نشر بطباعة سلاسله ونشرها كــ كتب قيمة، لتوزع في مكتبات البلدان الناطقة بالعربية، وتعرض في معارض الكتاب المتنوعة، وتصدير هذا الفكر للعالم لكي يرى العالم أن إنسان الشرق لا يزال يملك الخصائص العقلية التي تؤهله لرفد الحضارة العالمية من جديد بعيدا عن ثقافة آلاف الكتب والمنشورات الدينية الهاذية وما ترافقها من ميديا فضائية جعلت إنسان الشرق بتدينه أضحوكة وألعوبة بيد العقول المفكرة المتحررة البانية للحضارة والتي تضخ في بحر الحضارة مع بزوغ فجر كل يوم جديد إبداعات جديدة وتكنولوجيا جديدة. تمنياتي للمفكر "سامي لبيب" حياة طويلة قوامها الحب والصحة والسعادة.
#سامي_ابراهيم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
كيف تكون مجرماً بريئاً!
-
أنا كافر.. وأنت؟... تهذي
-
البعد الفلسفي والسيكولوجي في أبحاث سامي لبيب (1)
-
مصر.. من يقود ثورتكم بحق السماء
-
مصر.. هيجان شعبٍ مخدوع
-
تونس.. أكذوبة اسمها الثورة العربية
-
أيها الغرب.. لماذا تخاف المسلمين؟
-
المتدين تحت المجهر (3).. دافع الانتماء
-
الدين (1).. البحث عن الشر (1)
-
المتدين تحت المجهر (2).. الدوافع (1)
-
المتدين تحت المجهر (1).. الفكرة الثابتة والطريق الأوحد
-
المتدين.. شخصية تتقاذفها الأمواج
-
آليات الدفاع التي يلجأ إليها المتدين
-
النظرية الآشورية والنظرية الآرامية.. نقاط ضعف وقوة
-
لماذا تسحق المرأة
-
أسئلة إلى الله (5).. اللا عدالة
-
أسئلة إلى الله (4).. فاقد الشيء لا يعطيه
-
أسئلة إلى الله (3).. العنصرية
-
أسئلة إلى الله (2).. السادية
-
أسئلة إلى الله (1).. الخلق
المزيد.....
-
سوريا.. إحترام حقوق الأقليات الدينية ما بين الوعود والواقع
-
بابا الفاتيكان: الغارات الإسرائيلية على غزة ليست حربا بل وحش
...
-
“ماما جابت بيبي” تردد قناة طيور الجنة الجديد 2024 على النايل
...
-
وفاة زعيم تنظيم الإخوان الدولي يوسف ندا
-
بالصور.. الزاوية الرفاعية في المسجد الأقصى
-
جماعة -الإخوان المسلمون- تنعى الداعية يوسف ندا
-
قائد الثورة الاسلامية: اثارة الشبهات من نشاطات الاعداء الاسا
...
-
قائد الثورة الاسلامية يلتقي منشدي المنبر الحسيني وشعراء اهل
...
-
هجوم ماغدبورغ: دوافع غامضة بين معاداة الإسلام والاستياء من س
...
-
بابا الفاتيكان: الغارات الإسرائيلية على غزة وحشية
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|