|
أحمد الجنديل في ( الهذيان داخل حقيبة الموت )
أرشد ممود العاني
الحوار المتمدن-العدد: 3328 - 2011 / 4 / 6 - 16:31
المحور:
الادب والفن
أحمد الجنديل في ( الهذيان داخل حقيبة الموت )
قرأت قصة قصيرة بعنوان ( الهذيان داخل حقيبة الموت ) للأديب العراقي أحمد الجنديل ، وبعد القراءة الثانية لها ، وجدتُ فيها ملامح لمدرسة تعتمدُ على معمارية من طراز جديد في بناء أحداث القصة ، وعلى سرد أجمل ما يميّزه كثرة الصدمات التي يسقطها الكاتب على المتلقي دون أن يمنحه فرصة التقاط أنفاسه من خلال الخطـّافات التي تنهي المقطع لتخطف المقطع الذي يليه بخيوط المفاجأة التي تسحب القارئ وتضعه عند نهاية القصة . فاستهلال القصة يُلغي المقدمات والدواخل التي اعتاد كتّاب القصة على تهيأة مناخاتها للدخول إلى ثيمة التمركز الداخلي ففي ( الهذيان داخل حقيبة الموت ) لا وجود للأبواب ، فالمدخل تندمج فيه البداية مع بناء الداخل بطريقة لا أحد يشكّ في براعة الكاتب فيها : ( أنا مثنى سعيد حامد ، في المرحلة الأخيرة من كلية الآداب في الجامعة المستنصرية ، أسكنُ حي القاهرة ، أقسمُ بالذي لا اله إلا هو ، أنّ ما أدوّنه الآن لا يخرج عمّا شاهدته في تلك الحادثة المروّعة ) . القصة هنا تبدأ بالراوي الذي يتحدث عن حادثة مروّعة يكون فيها جزء منها وشاهدا عليها ثمّ ينفرد بها في الخاتمة . عندما تقرأ ( الهذيان داخل حقيبة الموت ) تنتصب في ذاكرتك قصة ( شقاء ) للقاص الروسي الكبير 0 انطون تشيخوف ) حيث نجدُ علاقة من نوع غريب بين القصتين ، فبطل قصة أحمد الجنديل ( مثنى سعيد حامد ) تجتاحه رغبة جامحة في إفراغ ما يعانيه من أحداث مروّعة لكي يتخلص من ثقلها النفسي عليه ، فهو يلجأ إلى الوسادة التي ينام عليها ، لكنّه يجد الخيبة عندها . ( وصفتُ الفجيعة أكثر من مرّة إلى وسادتي التي أنامُ عليها ، وضعتها قبالتي وبدأتُ معها الحديث ، لم تبك ولم تنفعل ، ابنة الكلب وسادتي لا تستحق أن يتحدث معها أحد ، تركتها وعدتُ إلى أمي ) . وعند أمه وجدَ مَن يستمعُ إليه ويبكي للمصاب الذي هو فيه ، كانت تنتحب بمرارة ، تبكي بحرقة ، لكنه توقف عن الحديث ، خاف عليها ، تركها خوفا على حياتها : ( لو تماديت في الاستمرار فيما أفعل لم يبق لأمي شيء من الدمع لوقت الحاجة ، والدمع ضروري كالخبز ، لابدّ وأن يكون لها رصيد منه ، وآلا تختنق من الداخل وتموت ، وأنا لا أريد لأمي أن تموت بهذه الطريقة ) . بعدها يلجأ إلى جاره العجوز ، فيجده لا يختلف عن وسادته إلا بالنطق ، قال له بوقاحة : ـــ في كلّ يوم عشرات الانفجارات ، بلدنا أصبح بركانا لا يقذف إلا الموت ، وما تريد قوله سمعته مرارا من غيرك . ( عدتُ منه باكيا ، رفض أن يسمع ، نهرني بقوله هذا ، لعنتُ أجداده في سرّي ، شعرتُ بتفاهتي أمامه ، رجعتُ منه مخذولا مهانا ) . وأخيرا يجدُ الحل عند أقدام النخلة الهرمة في باحة البيت القديم ، ويأخذ النصيحة منها بالتزام الصمت والتدرب على أساليب كبح العواطف ، والتمرن على استبدال طريقة الاستجداء بالحديث بطريقة الصمت الوقور بالكتابة ، ثمّ يبدأ بسرد قصته التي تشكّل هذا المدخل المتشابك بعنف مع العمق . في قصة ( شقاء ) لـ ( تشيخوف ) نجد البطل ( إيونا بوقاف ) قد لفـّه الثلج في مكانه من العربة كالشبح ، وعندما يسمع من يناديه : ( أيها الحوذي العجوز ... أوصلني إلى فيبرجسكايا يهمّ العجوز بالتحدث عن مأساته المتمثلة في موت ولده ، لكنّه لا يجدُ سوى الإهانة من الذي استأجره ، فيرتدّ مذعورا حاملا ما يعانيه في داخله دون التمكن من الخلاص منه ، كان بحاجة إلى مَنْ يحدثـّه ، ولمّا فشل في ذلك ، لجأ إلى الإسطبل ، وهناك التقى بزميل له في طريقه إلى مصدر الماء ، سأله إيونا : ـــ أعطشان أنت ؟ ـــ أريد الماء فأنا ظمئ إليه . ـــ سترتوي منه بعد قليل ، ولكن دعني أخبرك أيها الزميل عن موت ولدي ، كان ولدي جميلا ومات ، مات هذا الأسبوع في المستشفى ، الغريب أنه مات دون مقدمات . كان إيونا يراقب الذي أمامه ، لم يكن الحوذي يسمعه ، وعندما انتهى من شرب الماء ليحدّثه عن موت ولده ، وجده قد غطّى رأسه واستغرق في النوم . لم يكن أمام إيونا إلا حصانه الذي قدّم له العلف وجلس بقربه يحكي له قصة موت ولده . هنا القاسم المشترك يبدو واضحا عند الكاتبين ، ففي القصتين بطل وألم دفين ينوء به هذا البطل وفي القصتين هناك حاجة ملحّة لكلّ منهما بالرمي بألمه على كلّ من يصادفه ، وهناك جفاء وصدود وفشل في تحقيق ما يصبو إليه كل من البطليْن ، وأخيرا يلجأ ( مثنى سعيد حامد ) إلى النخلة ، بينما يلجأ ( إيونا ) إلى الحصان . وبقدر هذا التشابه بين القصتين في بناء وتسلسل أحداث القصة ، نجد اختلافا عميقا يظهر في هذا البناء ، فعندما يجدُ الراوي أخيرا ضالته في النخلة الهرمة ، تبدأ القصة الحقيقية ، وكلّ ما رسمه أحمد الجنديل ما هو إلا إكسسوارات وديكورات وهمية لما يريد أن يقول ، بينما نجد تشيخوف ينهي القـصة دون معرفة تفـاصـيلها سوى أنّ ولـده ( كوزما أيونتش ) مات من سبب ما : ( كان الحصان يعلك ويجتر وينخر فوق يدي سيده ، وأخذت الحميّة ( إيونا ) فبدأ يحكي له القصة كاملة ) . هكذا كانت الخاتمة ، في حين أنّ هذه الخاتمة كانت البداية في ( الهذيان داخل حقيبة الموت ) ( في السابعة والنصف من صباح يوم الاثنين ، كنتُ وصديقي صلاح في طريقنا إلى الجامعة ) . من هنا بدأت القصة ، أخذت طريقها بالتدرج وسط منلوجات داخلية وإيقاعات يبدأ هادئة أول الأمر ، ثمّ تتصاعد مفرغة شحناتها على القارئ ، فينساق وراءها بقوّة من خلال السخونة التي تدفعه إلى النهاية ، وعندما يستمر القاص في التحكم بضربات الإيقاع من حيث ضرباتها وسخونتها ، يبدأ برسم الصدمة الأخيرة وبشكل مفاجئ : ( وانسدل ستار أسود أمامي ، ولم أعد أشعر بشيء ) . ما تتميز به ( الهذيان داخل حقيبة الموت ) قوّة الشد في بنائها ، وسخونة المنلوجات الداخلية فيها ، وكثرة الخطـّافات الخفية فيها ، والضربة التي تصطدم القارئ في خاتمتها ، وبهذا فهي تعد نموذجا ينبغي الالتفات إليه ودراسته بعمق .
د . أرشد محمود العاني
#أرشد_ممود_العاني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
-طفولة بلا مطر-: المولود الأدبي الأول للأكاديمي المغربي إدري
...
-
القبض على مغني الراب التونسي سمارا بتهمة ترويج المخدرات
-
فيديو تحرش -بترجمة فورية-.. سائحة صينية توثق تعرضها للتحرش ف
...
-
خلفيات سياسية وراء اعتراضات السيخ على فيلم -الطوارئ-
-
*محمد الشرقي يشهد حفل توزيع جوائز النسخة السادسة من مسابقة ا
...
-
-كأنك يا أبو زيد ما غزيت-.. فنانون سجلوا حضورهم في دمشق وغاد
...
-
أطفالهم لا يتحدثون العربية.. سوريون عائدون من تركيا يواجهون
...
-
بين القنابل والكتب.. آثار الحرب على الطلاب اللبنانيين
-
بعد جماهير بايرن ميونخ.. هجوم جديد على الخليفي بـ-اللغة العر
...
-
دراسة: الأطفال يتعلمون اللغة في وقت أبكر مما كنا نعتقد
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|