|
عندما يختصر اللاوعي الجمعي للذات الفردية مصير وتاريخ أوروبا لارسن فون تراير يحقق الثلاثية الأشهر حول أوروبا
بلال سمير الصدر
الحوار المتمدن-العدد: 3328 - 2011 / 4 / 6 - 00:33
المحور:
الادب والفن
بلال سمير الصدّر[email protected] عندما يختصر اللاوعي الجمعي للذات الفردية مصير وتاريخ أوروبا لارسن فون تراير يحقق الثلاثية الأشهر حول أوروبا ولد لارسن فون تراير عام 1956 وتخرج من مدرسة الفيلم الدانمركي عام 1982،وعاش هذا المخرج طفولة غريبة شاذة حيث أن والداه أعلنا أنفسهما شيوعيين وانضما في نفس الوقت إلى مذهب (التعري) لذلك قضى لارس فترات طويلة من طفولته ولأكثر من مرة في مخيمات للعراة من أتباع هذا المذهب،وكان والداه يرفضان أن يقيما عليه أي حدود للتربية بحجة أن هذه الحدود والقواعد قد تسبب له الكآبة وأدرك هذا الطفل مبكرا بأنه يعيش في أسرة ملحدة وحتى والده اليهودي لم يكن متدينا وسيكتشف هذا الطفل عندما يصبح رجلا وفي وقت متأخر جدا عام 1989 بالتحديد من والدته هذا وهي على سرير الموت بأن هذا اليهودي لم يكن والده بل هو زوج أمه ووالده الأصلي كان رجلا بروتستنتيا يدعى (هارتمان) ومما زاد الطين بله بأن هارتمان هذا لم يعترف بابنه ورفض التواصل معه الأمر الذي دفع بتراير إلى صدمة حقيقية. حقق لارس فون تراير عدة أفلام قبل أن ينجز بدايته السينمائية الحقيقية والقوية في نفس الوقت فيلم عنصر الجريمة(Element of a crime) عام 1984 يعاني فيشر(قام بالدور مايكل الفيك) من فقدان للذاكرة ويلجأ إلى مصر،إلى طبيب مصري ليمارس عليه لعبة التنويم المغناطيسي ليبدأ فيشر عندها باسترجاع حياته في أوروبا المحطمة...المدينة المهجورة المدمرة التي لا تطلع عليها الشمس حيث ينضم فيشر للمشاركة في حل قضية قاتل متسلسل مختص بقتل الاطفال(ربما) أو بائعات اليانصيب ويستعين بأستاذه في الأكاديمية (أوزبورن) الذي وضع كتابا يدعى ب(عنصر الجريمة) وهو كتاب في علم الإجرام يحلل شخصية المجرم وينادي بضرورة تقمص شخصية المجرم للوصول إلى معرفته وإلى معرفة حالته الحقيقية....عنصر الجريمة عبارة عن تمثيل منهجي (تصرف أو سلوك) مبنى على إعادة بناء المعرفة لأجزاء من حياة القاتل ويتقمص فيشر شخصية (هاري جراي) القاتل والذي سيتقمصه أوزبورن أيضا ويرتكب جريمة ثم ينتحر. ينتقل فيشر-أو هاري جراي الآن- في أجواء كئيبة مظلمة-يغلب على الفيلم السواد واللون الأرجواني-ويتعرف إلى عاهرة حسناء ويقيم معها علاقة،وينتقل عبر أوروبا على متن سيارة فولس فاجن قذرة قديمة من نوع (1200) لنكتشف في النهاية أن فيشر ليس سوى هاري جراي....ليس سوى القاتل. في الحقيقة فإن رواية الحبكة بهذه الطريقة ستضعف الفيلم كثيرا وستجعلنا نخضع الفيلم إلى فكرة ومفهوم خاطئ حول أن الفيلم يقدم تحية إلى سينما الجريمة بل ويستفيد منها وهو مفهوم خاطئ وقع فيه الكثير من النقاد. ولكن إن أصعب ما في الفيلم هو خضوعه إلى العديد من التفسيرات فالفيلم سوريالي نعم،يحمل في ثناياه التعبيرية نعم،يقدم تحية إلى سينما الجريمة نعم....سوداوي يحمل مدلول نفسي...لنركز على هذه الجملة قليلا.... تلك البرك السوداء والكبيرة التي يغرق فيها الحيوانات،الحيوانات التي تحتضر،الحمار الذي يحاول التحمل والصمود مع بداية الفيلم ولكنه يقضي نحبه،الشبان الذين ينتحرون بدون سبب هاري جراي أو فيشر الذي يعذب نفسه ليس لعلة مازوخية بل لشعور قوي بالذنب وانتقاله في أنحاء أوروبا ومنها ألمانيا-موقع المذبحة...كل تلك الدلالات ليست سوى عبارة عن مدلول نفسي سوريالي كئيب أسود حول تصور فردي من تراير إلى أوروبا...حول أمور علقت في ذهنه شكلت ما يدعى باللاوعي الجمعي لتصور فردي للقارة القديمة. حقق لارس فون تراير فيلما انطباعيا يقدم فكرة الانكسار الانطباعي لأوروبا ما بعد الحرب تتداخل فيه الكابوسية الروائية لكل من كافكا وبورخيس ويعتبر فيلما ناقدا للتطرف يجلد الذات البشرية ويصفها بالدونية وصنع تراير أكبر فيلم سوداوي حول أوروبا ولكن هذه التناقضات بحاجة إلى توضيح وهذا ما سيقوله تراير في فيلمه التالي ليتابع ثلاثيته حول أوروبا. منذ البداية استقبل فيلم وباء بتصفيق حاد من النقاد ولكن سوداويته حيرت الجماهير كثيرا. إذا كان فيلم عنصر الجريمة شكل اللاوعي الجمعي-حسب تفسيرنا-لرؤية تراير الفردية حول أوروبا،فنحن في وباء أمام فيلم ذاتي فردي يتحدث فيه تراير أولا وأخيرا عن ذاته عن طريقة ونمط الاستحواذ الأيديولوجي الذي يسيطر على تفكيره. في وباء هناك فيلم داخل فيلم...هناك تراير الذي لعب الدور باسمه وشخصيته الحقيقية مع كاتب النصوص الذي ساعده أيضا في كتابة عنصر الجريمة على وشك كتابة نص سينمائي يدعىب(الشرطي والعاهرة) ولكن هذا النص يذوب ويتبخر لسبب ما،فيعمل كلاهما على كتابة نص جديد يتعلق بوباء يجتاح أوروبا في عصور ظلامها (1348) ونحن في الفيلم الأول أمام فيلم وثائقي ليس أكثر يعتمد على الارتجال أمام الكاميرا بشكل كبير حول أسلوب ومحاولة تراير وكاتب السيناريو لخلق هذا النص ويتخلل هذا السيناريو رحلة إلى داخل اوروبا ومراجعة المؤرخين وأخصائيين الأمراض. هذه الحبكة الوثائقية التي أعتمد فيها تراير على ألوان حادة من خليط الأبيض والأسود سيتخللها قصة ثانية لكن داخل عقل وذهن تراير ليضعنا في أجواء تلك القصة وأحضان هذا الوباء من خلال رحلة جوانية إلى ذهنه وتصوره،تصور لارسن فون تراير حول طبيب مثالي يدعى مسمر يصر على معالجة المرض ويتحدى سلطاته الدينية ورؤسائه الأطباء لينتقل إلى تلك المنطقة الموبوءة ولكنه لا يعرف أنه في الحقيقة يقوم بنشر المرض ولكن الخيال يتحول إلى حقيقة إلى واقع عندما ينتقل المرض من خلال امرأة منومة مغناطيسيا إلى هذا الزمن،زمن الممثلين والحبكة ليقضي بدوره على الجميع...بينما القصة الثانية تنتهي بأن الدكتور سينجو بأعجوبة ربما لأنه هو من قام بنشر المرض(الإخلاص قطع بالتهكم والعكس بالعكس). الفيلم مليء بالكنايات التي يطفح فيها التصور الأيديولوجي الذهني لهذا المخرج الذي أراد أن يقول من خلال مسمر أن أوروبا تتآكل من الداخل وهي في خططها للانتشال من الغرق تعود للموت أكثر وأكثر والبعض رأى الفيلم بأنه حديث عن الغربة التاريخية التي تعاني منها أوروبا. في عام 1991 عرض فيلم أوربا-والجزء الأخير من الثلاثية-في مهرجان كان واعتبره الجميع تحفة استثنائية كما إنه أثار الكثير من السجالات حول رسالة الفيلم الحقيقية واعتمادها على التفسيرات التي خضعت لآراء النقاد والمشاهدين أولا وأخيرا ولكن الفيلم حصل على جائزة لجنة التحكيم مقاسمة مع فيلم الراحل مارون بغدادي. في الحقيقة-وإذا كان لا بد من كلمة حول هذا الفيلم-فإن الفيلم جاء مرتبكا مشوشا بالنسبة للجمهور بحيث يشعر بأنه أمام حلم كابوسي كافكوي يحمل رمزيات معقدة وكان هذا السبب كافيا ليخرج هذا الفيلم بجائزة متواضعة من مهرجان كان مع القوة البصرية والأسلوب التجريدي الذي يتبعه دائما مخرجنا في كل فيلم من أفلامه،بل أن اللقطة الأولى للفيلم على لسان الممثل ماكس فون سيدو اعتبرت بحد ذاتها مدخلا لقيمة هذا الفيلم الفنية. أوروبا في عالم ليلي مرعب كئيب يهيمن عليها اللون الأبيض والأسود مع بعض اللقطات التي استخدم فيها المخرج الألوان...هناك شاب ساذج(ليو) في العشرينيات من عمره قدم من أمريكا لأنه من أصل ألماني ويريد المساهمة في إعادة أعمار بلاده بعد الحرب العالمية الثانية فالزمن الذي نعيش فيه هو زمن مهم بل استثنائي بالنسبة لأوروبا ألا وهو عام 1945. يتعرف على حسناء من جماعة (Ware Wolf) وهي جماعة ثورية لا زالت تدافع عن الفكر النازي ولكن والدها كان مسؤولا عن صناعة القطارات...القطارات التي حملت اليهود إلى المذبحة وهو الآن متعاون مع الحلفاء ويتورط هذا الشاب أكثر ليتحول إلى التعاون مع النازيين ويموت هذا الشاب البسيط غرقا في نهاية الفيلم وهو يحاول التراجع عن قراره ويصبح هو الضحية والجلاد في نفس الوقت. مما لا يخفى على الجميع فإن هذا الفيلم يحمل الكثير من الالتباسات وصلت إلى حد نعت مخرجنا باللاسامية...إن الفيلم ليس إلا احتفالا جنائزيا بموت أوروبا-دون التركيز على جزئية معينة لأوروبا كما قلنا سابقا-والأطفال الذين كانوا يجرون القطار في بداية الفيلم ليس إلا تعبيرا عن مدى الأسى الأخلاقي الذي تعيشه أوروبا،والفيلم يقول بكل وضوح أن النازية لازالت موجودة ولم تمت،إن أوروبا هو رحلة داخل روح أوروبا وأساسها الأخلاقي المعاصر ربما-وعندما يختار المخرج المكان ألمانيا وزمان 1945 فهو ليس إلا عبارة عن أداة بيد المخرج لتوضيح ما يريد قوله،وعلى الرغم من كل الالتباسات والتشويش الذي أحاط بالفيلم من أوله إلى آخره إلا أنه يبقى تحفة استثنائية عظيمة ولو رضي تراير النزول قليلا إلى مستوى عقلية المشاهدين لربما حصل أوروبا على التمجيد أكثر مما حصل عليه فعلا.
#بلال_سمير_الصدر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
البكاء..--Grisis1946- وسفينة إلى الهند 1947 لانغمار بيرغمان
-
ليالي كابيريا1957 لفدريكو فليني:كابيريا:الشخصية الوحيدة التي
...
المزيد.....
-
-البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو- في دور السينما مطلع 2025
-
مهرجان مراكش يكرم المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ
-
أفلام تتناول المثلية الجنسية تطغى على النقاش في مهرجان مراكش
...
-
الروائي إبراهيم فرغلي: الذكاء الاصطناعي وسيلة محدودي الموهبة
...
-
المخرج الصربي أمير كوستوريتسا: أشعر أنني روسي
-
بوتين يعلق على فيلم -شعب المسيح في عصرنا-
-
من المسرح إلى -أم كلثوم-.. رحلة منى زكي بين المغامرة والتجدي
...
-
مهرجان العراق الدولي للأطفال.. رسالة أمل واستثمار في المستقب
...
-
بوراك أوزجيفيت في موسكو لتصوير مسلسل روسي
-
تبادل معارض للفن في فترة حكم السلالات الإمبراطورية بين روسيا
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|