|
الطائرة ألقت بكومة رسائلي
أمل جمعة
(Amal Juma)
الحوار المتمدن-العدد: 3325 - 2011 / 4 / 3 - 17:25
المحور:
الادب والفن
الطائرة ألقت بكومة رسائلي أمل جمعة أتذكر ذاك المقطع جيداً من نص ساحر "مر خلال سنوات الدراسة (أكتبها الآن ) ويقصد بها صاحب النص الرسائل ، لا تسعفني محركات البحث الضخمة لأستدل على صاحب النص الذي أورثني كل هذا العشق لكتابة الرسائل ، امتهنت الكتابة لمجهولين ،وكتبت من الرسائل التي لم ترسل أبداً العشرات . كانت إشاعة امتلاكي لخط جميل وعبارات لافتة في حصص اللغة العربية قد هيأتني لهذا الدور ،خانتني إحدى رسائلي الوهمية عندما تحولت لمكيدة حيكت ببراعة وصارت دليلاً ضدي في معركة حب لمراهقات. كم أشتاق أن أتسلم رسالة بريدية ورقية ،بطابع مُلّون وختمٍ دائري ،كم ترتجف أصابعي الآن وأنا استنشق تلك النهارات الدافئة البعيدة أمام مكتب البريد الحكومي ، وكم كانت الصناديق الصغيرة المرقومة تثير لدي فضولاً لا يرْحَم ،كل مرة أتخيل الرسائل ستفيض الآن لو قدر لها وتكسرت الأقفال دفعةًً واحدةً . أرافق صديقتي التي انتظرت رسالة بفارغ الصبر- أقلقت بها صفوف الثانوية العامة لأسبوع كامل -كانت الرسالة عبارة عن مجموعة صور فوتوغرافية لمذيعي ومذيعات مونت كارلو، الشقراء الفاتنة حينها كابي لطيف ببلوزة سوداء ونمش خفيف على صدرها وابتسامة مرحة من المذيع الراحل حكمت وهبي (أميغو) وصورة للفنان وليد توفيق لامعة تحتلها ابتسامته مع قرص دائري أسود يضم أغانيه،عرفنا لاحقاً انه "سي دي" ،نعود بحملنا الثمين وتبكي أكثر من صبية امتناناً وشغفاً ،بينما تختطف (يسرا) العاشقة المتيمة صورة المطرب وليد توفيق ،وتعود بعد أيام وقد حملت صورة (مدبلجة) تجمعها بوليد توفيق ،بالطبع كان إنجازاً تكنولوجياً مثيراً،منح صاحب الأستوديو (الخجول بعيون خضراء بلهاء قليلاً ) نجومية المشهورين ،وأسراب من الفتيات تزرنه كل ظهيرة لصناعة صورة مشتركة مع مطربين وممثلين ونجوم شاشة بوليود. التقي كابي بعد ذلك بسنوات طويلة وتفرد لي في برنامجها مساحة كبيرة ،أحدثها عن المراهقة التي مستّها صعقة وافرة وهي ترى فتنتُها تخرج من رسالة ورقية وكيف تجمعت حولنا طالبات المدرسة لنريهن كنزنا المثير ،تضحك لحد الدمع وأنا أخبرها أننا لم نتمكن من سماع "السي دي " لخلو مدينتا بأكملها من جهاز تسجيل يشغل هذا القرص الأسود. المفارقة اللذيذة أن المصور تزوج من الجميلة (يُسرا) ومنحها كماً هائلاً من الصور مستبدلاً نفسه بمطربها المحبوب، الفتيات لجّجن حينها في اختراعاتهن حيث وصلت الجرأة بإحداهن لتطلب من شاب يشبه وليد توفيق أن يمنحها صورته لتشارك بها في مسابقة إذاعية كانت باختصار أن يرسل المستمعون صوراً لأقاربهم تحمل ملامح نجم مشهور أو شخصية معروفة وكلما كان الشبه الأقرب كانت الجائزة من نصيبك . الشاب غير المدرك لوسامته حينها صار له موقفاً ثابتاً أمام مدرستنا الثانوية،وقام بقص شعره على طريقة وليد توفيق ،بل إنه ابتاع سنسال ذهبي وقميصاً أبيضاً ليقترب من خيالات المراهقات وكم كانت خسارته مدوية عندما فوجئ برسوبه في الثانوية العامة وخطوبة ثلث فتيات التوجيهي الجميلات لرجال آخرين،أتذكره وهو يصيح يوم نتائج الثانوية العامة أمام مدرستنا والفتيات يبكين بحرقة وصدق خسارات البطل الجميل ،أراه بعد عشرة أعوام بننطلون جينز وبلوزة سوداء ووسامة مكتملة وناضجة وهو يدير محلاً صغيراً لميكانيكا السيارات ونضحك بتواطؤ مرح، وأحزن وأنا أرى كم اختصر كل الدنيا بتلك الأشهر الصيفية القليلة وهو يصفها ضاحكاً ومضخماً (بالسنوات الحلوة المجنونة) كم فات الفتى من ابتهاجات ؟ وهل حقاً ضيعته رسائل البنات المعطرة وضحكاتهن كما رددت أمه دوماً؟ هل أحبته الفتيات أم كان مجرد نسخة محلية ومتوافرة لنجمٍ بعيد؟ وهل أفولهما الاثنين (النجم وشبيهه )كان قابلاً التصديق قبل عشرين عاماً؟ في مكتب صغير هو جزء من ملحمة يديرها المختار وفي الليل تتحول ساحته لمقهى مرتجل ،كان شعبة البريد التابعة لمخيمي ،قائمة المرسل إليهم لا تتعدى في أقصى اكتظاظها عشرين اسماً،ولكنها كافية لتخلق الفضول وتراكم القصص والإشاعات إذا ما كان أحد المرسل إليهم فتاة باسمها، وكانت هناك إشاعة أرقت الجميع أن ابن مدير البريد الشقي يفتح الرسائل ويقرأها ويرد على بعضها نيابة عن أصحابها،بل وصلت الشائعات لوصف طريقة فتح الرسائل بتعريضها لبخار ماء ساخن_طريقة نزع الطوابع البريدية التقليدية- لذا كنّا نحن الفتيات نستعير أسماءً وهمية (تكشفنا أكثر بسبب رنينها الصاخب ونحتنا الصارم في بلاغتها). رفيقة ذكية بشعرٍ قصير على الدوام، أوعزت للفتيات استخدام أسماء ذكورية ،بل قامت الفتيات بالتمويه الشديد حتى بصناديق البريد بحيث تصل رسائلنا لقريتها (إحدى القرى المحظوظة بمكتب بريد متواضع) وكان عليها أن تحفظ الأسماء عن ظهر قلب ،أتذكرها وهي تصيح بالفتيات :"اخترن أسماء قريبة من أسمائكن -وهي تحمل كمشة رسائل بين الحين والآخر- يسري والمقصود يسرا،ناصر والمقصودة انتصار ،الوحيدة التي بقيت حائرة سوسن فلا تذكير لاسمها ،اخترنا لها اسماً صرنا نناديها به لسنوات (عمرو). امتهنت لسنوات كتابة الرسائل طوعاً عن أمهات مخذولات وأميات ،وشقيقات ضَج بهن الشوق للغُيّاب ،وبنات تشكو لأعمامهن وأخوالهن ضيق قلوب الآباء، بل قمت أيضاً بكتابة الرسائل نيابة عن بعض الرجال وسقطت على رسائلي بعض الدموع ،ورأيت في عيون باعثي الرسائل ألماً وشوقاً وإيماناً قاطعاً بأن الورقات القليلة ستُغير وجه الكون ،تعلمت كيف أتحدث عن أزمتهم المالية دون أن أجرح المرسل،وأتعبتني الأشواق الفائضة لأبناء جحودين لا يتذكرون كيف باعت الأمهات أقراطهن وحليّهن ليسافروا لآخر الدنيا ويغيبوا للأبد صامتين باردين ،سيدة طلبت مني أن أكتب لابنها هذا المقطع بالذات من أغنية شعبية :"وخايف يا محمد تروح وتتملك وتتبع الزينات وتنساني أنا"وفاضت بالدمع . امتنعت عن كتابة رسائل الحب لمنطق كان يتلبسني حينها: الحب لا يجوز العبث بمفرداته ولا يكتب نيابة عن الآخرين . قرأ رسائلي كثيرون لا أعرفهم ، تنامت حرفتي فابتعت دفتر رسائل بورقٍ أزرق شفاف وقلم حبر سائل ،بل وصلت الأمور بي لمطاردة حيوان النيص في الجبال للحصول على ريشة النيص القاسية الرشيقة لأصنع منها قلماً قيل أنه يكتب أجمل الخطوط. تدثرت لسنوات باسم وهمي أكتب به رسائلي وابعثها بعيداً لصناديق بريد لمجلات وصحف وأصدقاء يطلبون المراسلة في زوايا مخصصة بالمجلات (هل وصلت رسائلي لأصحابها؟ لم أتسلم رسالة واحدة عبر البريد، ولا افهم فلم يرق لي يوماً خطي ولا رأيته مرة بالجميل، أما ما يحيرني أكثر هل حقاً كان استخدامي لاسم وهمي سبباً في ضياع رسائلي وعدم وصولها بالرد إلي؟ ؟ أم كان علي أن اكتبها بخط واضح وعنوان معروف وباسمي الكامل.وربما الطائرات أتلفت رسائلي، كما أشاعت بنات صفي ونحن على مقاعد الدراسة الابتدائية إذا نوت الطائرات التخفف من حمولتها الزائدة ألقت بصناديق الرسائل الفائضة إلى البحر. أمل جمعة وحدة دولة فلسطين - الضفة الغربية / رام الله –شارع الإرسال ص.ب 2197 عنواني صحيح تماماً وكذا اسمي،لا تحاولوا فالرسائل قد لا تصل ..... ومع ذلك سأسعد جداً برسالة ورقية مكتوبة بخط اليد. خريف 2010 -------------------------------------------------------------------------------- فلسطين حصلت على الرمز البريدي الدولي في نهاية عام 2009 والتطبيق لا زال قيد التنفيذ. .
#أمل_جمعة (هاشتاغ)
Amal_Juma#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
نص - مملكة اليمامات
-
الخوف
المزيد.....
-
-البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو- في دور السينما مطلع 2025
-
مهرجان مراكش يكرم المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ
-
أفلام تتناول المثلية الجنسية تطغى على النقاش في مهرجان مراكش
...
-
الروائي إبراهيم فرغلي: الذكاء الاصطناعي وسيلة محدودي الموهبة
...
-
المخرج الصربي أمير كوستوريتسا: أشعر أنني روسي
-
بوتين يعلق على فيلم -شعب المسيح في عصرنا-
-
من المسرح إلى -أم كلثوم-.. رحلة منى زكي بين المغامرة والتجدي
...
-
مهرجان العراق الدولي للأطفال.. رسالة أمل واستثمار في المستقب
...
-
بوراك أوزجيفيت في موسكو لتصوير مسلسل روسي
-
تبادل معارض للفن في فترة حكم السلالات الإمبراطورية بين روسيا
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|