|
الدستور ذلك الكتاب: الملك محمد السادس وخطاب الحسم والقطيعة
سعيد هادف
(Said Hadef)
الحوار المتمدن-العدد: 3305 - 2011 / 3 / 14 - 21:52
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المغرب العربي
عن الصحراء الأسبوعية: 14 مارس 2011 جاء الخطاب الملكي مساء التاسع من مارس، ليعلن بكل وضوح أن الخيار الديمقراطي لا رجعة عنه، وأن لامناص من نقلة دستورية نوعية تكون "عمادا لإصلاحات جديدة شاملة متجاوبة مع كل مكونات الأمة.وتفعيلا لمضامين خطاب 20 غشت 2010، ودعوة للانخراط في مواصلة إنضاج ما جاء في هذا التصور العام،في نطاق نقاش وطني واسع وبناء". إذاً، فالمراجعة الدستورية العميقة أصبحت واقعا، لكن هذه المرة من أجل ديمقراطية حقيقية وعميقة ومن أجل مطالب الشعب، فعهد تعديل الدستور من أجل تقوية "النظام" على حساب الشعب والمواطنة ومبادئ الديمقراطية، قد ولى. عربيا، كان كلما بدأ النقاش حول الدستور سارع نفر إلى الاعتراض متذرعا إما بعدم أهلية الشعب، أو أن الديمقراطيات العريقة نفسها لم تصل ذلك إلا عبر تراكمات، وأن الدول الراسخة في الديمقراطية ليس لها دستور مثالي، أو أن الدستور ليس هو المشكلة وتجديده لا يأتي بحل، فهو مجرد قوانين، أو أن الدستور بإجماع ولو نسبي طرح طوباوي. إن المشكلة ليست في الشعب مثلما يزعم بعض المنظرين، ولا في النظام الحاكم (فليس في العالم نظام له قابلية التنازل بسهولة عن امتيازاته)، بل الخلل في النخبة المعارضة سواء تلك التي تدعي التقدمية والحداثة (ليبرالية كانت أو اشتراكية) أو تلك التي تبنت القومية أو الإسلام السياسي. فقد أثبت التاريخ قصورها الفكري ونظرتها اللاتاريخية وعدم أهليتها في بلورة مشروع مجتمعي. ويبدو لي كمثقف متتبع، وليس كفقيه في القانون، أن المعضلة كانت ولا تزال في تبني نظريات ومفاهيم دون الإحاطة بالتطورات التي صاحبتها، وقد ظلت "الدولة" و"الديمقراطية" و "المواطنة" و "المجتمع المدني" من المفاهيم الأكثر تمنعا على الفهم، ومرد ذلك في نظري، إلى محدودية الحرية والخيال والإبداع لدى النخبة العربية؛ فـ"الدولة" مثلا، مفهوم مافتئ يتطور، من مكان إلى مكان، ومن زمن إلى آخر، غير أن النخبة العربية بقيت أسيرة فهم نمطي تجاوزه التاريخ. بعد أن قرأت تاريخ أمريكا، اتضح لي أنها بلد لا يحمل صفة "الدولة"، وأن "الدولة" تختلف لدى الأمريكان مفهوما ووظيفة، وهذا ما جعلهم يبتكرون كيانا اتحاديا، أطلقوا عليه اسم: الدول الأمريكية المتحدة. إن المصطلح الانكليزي (State)، المترجم إلى الفرنسية(Etat)، كلاهما يعني (الدولة) و ليس (الولاية). ومادام معجمنا العربي يتوفر على هذه الكلمة (الدولة) فلماذا أشاح المترجم العربي عنها، وحرّف اسم كيان سياسي، أثبت التاريخ أنه لم يكن مجرد ولايات؟ يبدو أن المترجم لم يكن مؤهلا، وهومعذور. ولكن أن يتم تكريس هذا التحريف على أوسع نطاق عربي، زمانا ومكانا، فهذا ما لا يمكن استساغته. إلى غاية 1776، لم تكن هناك مستعمرة واحدة في ظل التاج البريطاني، بل كانت مستعمرات بالجمع، لكل مستعمرة حدودها وعملتها. وهذا يدل على أن تلك المستعمرات كانت دولا ولم تكن ولايات. - ثارت هذه المستعمرات ضد التاج البريطاني، وفي ذات الوقت دخلت في نقاش حول تصور للكيان السياسي المفترض تأسيسه عند الاستقلال، وبلا شك أنها عندما ارتضت الاتحاد، فإنما اتحدت كدول في نظام فدرالي، وهي بذلك دول متحدة، إذ لا يعقل أن يكون الاتحاد بين الولايات. فالجزائر مثلا تتكون من ولايات، والمغرب أيضا، فهل هذا يعني أن الجزائر أو المغرب "ولايات غير متحدة"، فلا معنى أن نسمي دولة ما بالولايات المتحدة، فكل الدول القطرية هي متحد من الولايات. - يبدو أن المؤسسين الأوائل للدول المتحدة الأمريكية، كانوا يتمتعون ببعد النظر وبعبقرية تجاوزت نظام الدولة الوطنية كنمط سياسي أوروبي في تلك المرحلة، فاجتهدوا وأبدعوا دستورا ديمقراطيا متطورا ونظاما مختلفا، تمثل في نظام فدرالي، أصبح في ما بعد محل استلهام عدد من الدول. كان هدفهم تجاوز نظام الدولة إلى نظام الفدرالية (اتحاد اندماجي لمجموعة من الدول، كل دولة تحافظ على استقلالها، وفي الوقت ذاته، تخضع للحكومة الفدرالية). - البند العاشر من القانون يقول:"إن هذا الاتحاد يبقى مفتوحا على كندا" و كندا ليست ولاية، بل دولة. وما دام الأمر كذلك فهذا يعني أن الاتحاد كان مفتوحا على أي دولة في الجوار. وحتى إذا سلمنا أن "الولاية" مفهوم متكافئ مع نظيره الانكليزي " State"، فلماذا العرب وحدهم يصفون أمريكا بـ"الدولةّ"؟ السبب هو أنهم لم يدركوا التحول الذي خضع له هذا المفهوم، ولم يستسيغوا كيف تكون هناك "دولة" بلا جيش وعملة وتمثيل دبلوماسي، ولم يدركوا أن الحكومات المحلية يجب أن تكون أكثر قربا من الشعب، ومهمتها الأساسية هي الانشغال بمصالح الشعب، وما عدا ذلك فهو مهمة الحكومة الفيدرالية؛ فمفهوم "الدولة" الذي استقر في أذهاننا، ولم نقبل بغيره بديلا، هو "الدولة القطرية" الوطنية، وهو مفهوم بائد، وهذا ما جعل أوروبا تعمل من أجل التخلص منه. إن هذا الفهم القاصر، تولد عنه جهل بالسياسة والتاريخ، وتعسفٌ على المفاهيم والنظريات وانعكس ذلك على جميع المجالات وأحاط بحالة من الالتباس والارتباك كل المشاريع النهضوية والاتحادية العربية، مما حرم الشعوب العربية من الاندماج في عصرها والتمتع بثروات بلدانها. إن قوة الديمقراطية تكمن في ارتباطها الجدلي والعضوي بالتجارب الحياتية من جهة ومن جهة أخرى، بجعل هذه التجارب في دائرة التأمل العقلاني الإنساني: فلسفيا، أخلاقيا وقانونيا؛ ومن الخطأ كما أنه من التضليل ذلك الاعتقاد أن الديمقراطية تقتضي نوعا متميزا من الوعي يختلف عن وعي عامة الناس. إن غياب الكفاءة والعزيمة، و التعالي عن الواقع، وعدم القدرة على الاندماج و التواصل مع المحيط الاجتماعي لدى بعض النخب ظل عاملا من عوامل الادعاء أن الديمقراطية غير ممكنة وأن شروطها لم تتوفر بعد. إن الشرط الوحيد، الشرط المؤسس لأي نظام ديمقراطي هو الدستور المنبثق من صلب الشعب عبر نخبه بكل مشاربها وانتماءاتها وتطلعاتها. و"إن قدرة الإنسان على أن يكون عادلاً تجعل الديمقراطية ممكنة- يقول اينولد نيبور - لكن نزوعه للظلم يجعل الديمقراطية ضرورية". إن الديمقراطية في أبسط معانيها وأعمقها هي الحوار العقلاني، القائم على فن الإصغاء والتفهم، وهي حرية الرأي والتعبير والمعتقد والتنقل، ونبذ كل أشكال التطرف والعنف، وترسيخ الثقافة الإنسانية المؤسسة على تكافؤ الفرص والشفافية والتضامن والانفتاح والتسامح والتوزيع العادل للثروة من خلال اجتراح سياسة تنموية عقلانية للقضاء على أسباب الفقر والحد من ظاهرة الثراء الفاحش وتكديس الثروة...، إنها روح الديمقراطية، والمبادئ المؤسسة لأي نظام ديمقراطي. ذلك أن من يجب أن يخضع للقوانين، يجب أولا أن يكون شريكا في ابتكارها. ويأتي الخطاب الملكي، ليؤطر المشاريع التي سبق أن تم إطلاقها، ولينضم إلى صوت الشعب، أما من يحاول أن يقلل من أهمية الإصلاحات التي أطلقها الملك فهو امتداد للقصور الفكري الذي تحدثنا عنه أعلاه، فالخطاب يؤسس لعهد حرية المبادرة والإبداع وحرية الخيال الخلاق، وإن عهد الدساتير الممنوحة والمنسوخة قد ولى. إن الدستور ليس مجرد اقتباس قوانين من هنا وهناك، وصياغتها بأسلوب منمق، بل هو أروع و أجمل نشيد يبدعه الشعب عبر ممثليه، بل هو كتاب الأمة المتفرد والأصيل الذي لا يمكن إبداعه إلا بواسطتها، ومن صلبها ولها. وكل أمة، كيفما يكن دستورها تكن.
#سعيد_هادف (هاشتاغ)
Said_Hadef#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الأفق المغربي-الجزائري في ضوء همجية النظام الليبي
-
الراهن العربي: دينامية الشارع، همجية الحاكم وقصور النخبة
-
الانفصال في ضوء نظرية المؤامرة: تأملات في المخطط / الجزائر ن
...
-
المغرب الكبير وسؤال المستقبل: تونس ساحة أخرى للصراع بين القو
...
-
نزاع الصحراء: من يكسب الرهان؟؟؟
-
الجهوية الموسعة والحكم الذاتي: الدينامية الدموقراطية والدينا
...
-
الاتحاد المغاربي: التاريخ المعطى والتاريخ البديل
-
الجزيرة في المغرب والمغرب في الجزيرة
-
مؤتمر السمارة وقمة سرت: التاريخ واللاتاريخ
-
المغرب والجزائر: رحلة السلام تبدأ من تندوف
-
مناطق للسلام وأخرى للفوضى : من يصمم خارطة المستقبل المغاربي؟
-
العلاقة الأمريكية بالعالم الإسلامي: أي آفاق؟
-
حمى المونديال : الجزائر صيف 2010
-
محمد لبجاوي:صوت الشجاعة والأمل
-
الشعر، السياسة، التاريخ....
-
الحريات في الجزائر ملف معقد وستكون له تبعات على مستقبل النظا
...
-
على هامش أربعينية وفاة عائشة مختاري:متى تخضع كل القوانين إلى
...
-
محمود درويش/ شهادة
-
أفريقيا كفضاء أيكوثقافي: العلاقة المغربية الجزائرية نموذجا
-
الشرط الغائب في مشروع الاتحاد من أجل المتوسط*الجزائر في أفق
...
المزيد.....
-
قرار الجنائية الدولية.. كيف يمكن لواشنطن مساعدة إسرائيل
-
زيلينسكي يقرّر سحب الأوسمة الوطنية من داعمي روسيا ويكشف تفاص
...
-
إسبانيا: السيارات المكدسة في شوارع فالنسيا تهدد التعافي بعد
...
-
تقارير: طالبان تسحب سفيرها وقنصلها العام من ألمانيا
-
لبنانيون يفضلون العودة من سوريا رغم المخاطر - ما السبب؟
-
الدوري الألماني: ثلاثية كين تهدي بايرن الفوز على أوغسبورغ
-
لحظة سقوط صاروخ إسرائيلي على مبنى سكني وتدميره في الضاحية ال
...
-
سلسلة غارات جديدة على الضاحية الجنوبية في بيروت (فيديو)
-
مصدر مقرب من نبيه بري لـRT: هوكشتاين نقل أجواء إيجابية حول م
...
-
فريق ترامب الانتقالي: تعليق القضية المرفوعة ضد الرئيس المنتخ
...
المزيد.....
-
عن الجامعة والعنف الطلابي وأسبابه الحقيقية
/ مصطفى بن صالح
-
بناء الأداة الثورية مهمة لا محيد عنها
/ وديع السرغيني
-
غلاء الأسعار: البرجوازيون ينهبون الشعب
/ المناضل-ة
-
دروس مصر2013 و تونس2021 : حول بعض القضايا السياسية
/ احمد المغربي
-
الكتاب الأول - دراسات في الاقتصاد والمجتمع وحالة حقوق الإنسا
...
/ كاظم حبيب
-
ردّا على انتقادات: -حيثما تكون الحريّة أكون-(1)
/ حمه الهمامي
-
برنامجنا : مضمون النضال النقابي الفلاحي بالمغرب
/ النقابة الوطنية للفلاحين الصغار والمهنيين الغابويين
-
المستعمرة المنسية: الصحراء الغربية المحتلة
/ سعاد الولي
-
حول النموذج “التنموي” المزعوم في المغرب
/ عبدالله الحريف
-
قراءة في الوضع السياسي الراهن في تونس
/ حمة الهمامي
المزيد.....
|