|
كتابة مسمارية
سليم مهدي قاسم
الحوار المتمدن-العدد: 3301 - 2011 / 3 / 10 - 21:37
المحور:
الادب والفن
الِمسْكين انكيدو ، لم يكنْ باسْتَطاعَته تقمَّصْ دِور البطل الى نهايةِ الملحمة ، ومن أَجَل ذلك فقد فَضَلَ أَن يهاجر ، لم يَتَحملْ الحياة خارج الطبيعة ، كانتْ المدينة بالنسبةِ اليه آخر المطاف ، هذه المتاهة التي علقتْ بها روحه مثل سمكةٍ في شبكةِ صياد ، كان من الصعوبة الخروج منها ، وربما ان الإله الفينيقي (Melqart ) الفتى سيد المدينة وملكها هو من اغراه في القدوم الى بلاد الثلج ، من اجل ذلك اكتشفَ أن الدخول الى الحانة هو افضل الحلول ، وعلى ضوء خافت استطاعَ أن يرى الفتاة النرويجية التي تعيشُ في السويد منذ خمسة وعشرين سنة ، وهي ترتشفُ كأسها ما قبل الاخير، ولبرهةٍ اعتقدَ انها سيدة الحانة ( سيدوري ) وانها تَقولُ له : (جَعَلوا الموت للإنسان .. والحياة احتفظوا بها في أيديهم) لقد احبَّ هذا البياض الذي يَشِعُّ من جسدِها من النظرة الاولى ولم تعدّ تلك القدرة التي حملها من ارض بابل بقادرةٍ على خداع وسواسه ازاء كل ما يشعّ ، كان يَرتفعُ وينخفضُ مثل مسلةٍ تم نقلها بالعربات الى المانيا عن طريق الجبال الكردية التي تفصل العراق عن تركيا ، وعندما اقتربَ منها شعَرَ كما لو أنه يتسولها ، حاولَ ان يكلمها ، ولكنه اكتشفَ أنه بلا لغة ، ورغم ذلك فقد احبتْ ( هي ) هذه الحركات الحيوانية التي كان يَقومُ بها ، ولبرهةٍ اعتقدتْ انه الانسان الاول الذي نزلَ الى الارض ، وربما كانتْ محقة في ذلك ، فقد كان طينُ آدمَ مازالَ عالقاً في جسده وعبثاً ذهبتْ كلّ محاولاته في محوه ، كما انها احبتْ طريقته في النظر الى اعماقِها ، وتخيلته ساحراً من الشرق القديم قذفته سفينة من احدى رحلات الف ليلة وليلة ، تلمستْ جسده حيث اشار لها ، وقد احس بالقبور وهي تنمو مثل غابةٍ في كلّ مكانٍ من جسده وللحظةٍ تخيلَ أن مقبرة نسيتها سلالته تفترشُ الحقول الواسعة كلما فتح يديه ، شعر كما لو أنه يتحولُ الى قبرٍ وأن ثمة امرأة عجوز يكادُ الدمع يجفُ في عينيها تمد يداً مرتعشة لتضع على الشاهدة زهور سود . تربكه انفعالها وهي تبتكر اسئلة عن الحياة والموت ، او كلما مدت يدها الى الكأس الذي امامها حيث باستطاعته مشاهدة اهتزازات ثدييها وعنفهما وهما يصطدمان ببعضهما البعض مثل مصارعين ، تنحني لترفع حجراً من الارض فيسقطان على الارضية الصلبة ويحدثان صوتاً كأنه دوي مدافع ، يتذكر كيف هَربَ ذات يوم من قذيفة كادتْ تحوله الى أشلاء ، كان ذلك قبل سنوات في حرب طويلة توقفت بشق الانفس ، توقف بين الدولتين ولكنها لم تتوقف داخله ، فحتى اليوم مازالَ يركضُ كلما سمع صوتاً ، او مازالَ يَنقلُ قدماً او يداً او رأساً كلما انفجرتْ قنبلة في المخيلة ، ينقلها من مكانٍ الى آخر يضعها تحت السرير يخبئها في الخزانة وعندما تتعفن يَحفرُ قبراً في الحديقة ويبدأ بدفنها . قالت له : انت بلا ملائكة ... قال لها : انا بلا ملائكة .. ثم اغمض عينيه واكمل كمن يحلم . النهر بعيد .. وانا لا اجيد السباحة ، وعندما انزل الى المياه اشعر كما لو انني اطفو مثل خشبة ، هل انا خشبة ؟ لكنني عندما اكون في الضفة الاخرى اشاهد النوم وهو يجذف بقاربه وحيداً وحزيناً الى نقطةٍ باتجاه يقظة لا تجيء ؟ الحانة الان مليئة بالضائعين ،وتحديداً بأولئك الأشخاص الذي اضاعوا مفاتيحهم ، وهو الاخر بلا مفتاح مثلهم ... تحدثا كثيراً بلا لغة ، تحدثها حتى اخر الليل ، قبل المغادرة ، اعطها ورقة فيها عنوانه ، ولكنها لم تستطع القراءة ، فقد كانتْ الكلمات مكتوبة بلغة مسمارية ، وهي تجهل هذه اللغة . عندما ذهبَ الى الحافة الاخرى من الحياة تذكر كلكامش ، والثور السماوي ، وشارع المتنبي .تذكرَ باب المعظم والموظفات اللواتي يَصعدنَّ او يَنزلنَّ من الحافلات والمكياج يَسيحُ على وجوهِهنًّ ، تذكرَ قمصانهنَّ تتعرقُ تحت الابط ، تذكرَ بطونهنَّ المكورة مثل امل يأتي فيما بعد ،تذكر الرائحة الآن ، وتعجب كيف يمكن ان تكون هذه الرائحة عالقة بأنفه حتى هذه الساعة ؟. . كم يرغب الآن أن يموت مرّة اخرى .. وبطريقة اخرى اكثر درامية .. كم يتمنى لو أنه فقط غير قبره قبل سنوات ، لو أنه بَدَلَ هذا الجسد هذه الروح التي في الخزانة ، في هذه الثلاجة التي اسمها اوربا ؟ فتح النافذة وشاهد الغراب يحفر في الحديقة .. حاول أن يكلم الغراب ولكن بلى جدوى .. حاول أن يقول له أنه ليس بقابيل .. ولم يقتل اخيه .ولكن بلا جدوى ايضاً . من اجل ذلك اغلق النافذة .. وبدأ بالرسم . في البداية رسم عصفوراً .. لكنه اكتشفْ أن العصفور ليس بوسعه التحليق .. كم هي الحرية بلا اسلحة ؟ .. كم هي بعيدة هذه المقصلة التي تحت جلد الليل ؟... اغلق النافذة وصرخ داخل روحه: سيدوري أنني اشتاق اليك .. هل تسمعيني .. أنني اشتاق اليك ...
من مشروع كتاب بعنوان : يوميات انكيدو
#سليم_مهدي_قاسم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
المثقف الآن .... طيرانٌ حتى الافق
-
مجلس السياسات العليا .. خيبة امل لعلاوي وورطة للمالكي ..
-
مظاهرات كركوك .. العنف بداية للقمع
المزيد.....
-
-كأنك يا أبو زيد ما غزيت-.. فنانون سجلوا حضورهم في دمشق وغاد
...
-
أطفالهم لا يتحدثون العربية.. سوريون عائدون من تركيا يواجهون
...
-
بين القنابل والكتب.. آثار الحرب على الطلاب اللبنانيين
-
بعد جماهير بايرن ميونخ.. هجوم جديد على الخليفي بـ-اللغة العر
...
-
دراسة: الأطفال يتعلمون اللغة في وقت أبكر مما كنا نعتقد
-
-الخرطوم-..فيلم وثائقي يرصد معاناة الحرب في السودان
-
-الشارقة للفنون- تعلن الفائزين بمنحة إنتاج الأفلام القصيرة
-
فيلم -الحائط الرابع-: القوة السامية للفن في زمن الحرب
-
أول ناد غنائي للرجال فقط في تونس يعالج الضغوط بالموسيقى
-
إصدارات جديدة للكاتب العراقي مجيد الكفائي
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|