شاكر النابلسي
الحوار المتمدن-العدد: 984 - 2004 / 10 / 12 - 09:26
المحور:
اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم
-1-
بدأت بالأمس في أفغانستان الخطوة الأولى على طريق الألف ميل للوصول إلى الديمقراطية الحقيقية.
كانت الخطوة الأولى عجائبية وسحرية بكل ما تعنيه هذه الكلمة.
فلو أن شاعراً وصفها في قصيدة لما صدقناه.
ولو أن روائياً من كتاب الواقعية السحرية كغارسيا ماركيز كتب المشهد الأفغاني الانتخابي في احدى رواياته لما صدقناه، واعتبرنا أن ما يُوصف من صُنع الخيال.
ولو أن مؤرخاً بعد أجيال طويلة وصف ما حصل في أفغانستان لاعتبرناه عميلاً من عملاء المخابرات الأمريكية، يكتب التاريخ بأقلام وعلى ورق هذه الوكالة التجسسية.
هذا الاندفاع التلقائي نحو المشاركة الكبيرة، وهذا الاندفاع التلقائي نحو الادلاء بالأصوات التي بلغت حسب تقارير مندوبي الأمم المتحدة عشرة ملايين ناخب من مجموع عدد السكان وهم حوالي 23 مليون نسمة.
جاءت هذه الملايين العشرة من الناخبين الأفغانيين على ظهور الجمال والبغال والحمير ومشياً على الأقدام، ونصفهم حُفاة، وثلثهم عُراة والبقية جائعون، لكي يقولوا للديمقراطية الأفغانية:
نعم.
وهذه الملايين العشرة وهي نسبة حوالي 45٪ من عدد السكان التي شاركت في الانتخابات، لم تحققها كثير من الدول الأوروبية العريقة بالديمقراطية، كما لم تحققها أية دولة عربية أو اسلامية منذ عهد الاستقلال، أي منذ نصف قرن حتى الآن، فيما لو علمنا أن الناخبين لدينا يساقون بالعصا حيناً وبالجزرة حيناً آخر، ومعظمهم من الأموات.
هذه الملايين العشرة جاءت رغم تهديدات طالبان وابن لادن بعدم المشاركة في الانتخابات، وقتل كل من يشارك فيها، وتوجيه صواريخها على مراكز الاقتراع. ولكن أنَّ لخفافيش الظلام أن تقف في وجه شمس الحرية الساطعة اليوم بقوة في أفغانستان.
-2-
هل رأيتم طوابير النساء الطويلة على شاشات الفضائيات وهي تقف أمام مراكز الاقتراع للادلاء بأصواتهن؟
لقد كانت هذه الطوابير تقف بالأمس في طوابير طالبان بانتظار الجلد أو الرجم أو القتل أو الدفن في حفرة جزاء ما فعلت، ظلماً وعدواناُ على النفس البشرية البريئة.
هل رأيتم طوابير النساء الطويلة على شاشات الفضائيات وهي تقف أمام مراكز الاقتراع للادلاء بأصواتهن؟
لقد كانت هذه الطوابير من النساء محرومة من المدرسة والعلم والخروج من المنزل، فأصبحت اليوم تمارس حق الانتخاب التشريعي والرئاسي وبإشراف الأمم المتحدة.
ما هي المسافة الزمنية التي قطعتها أفغانستان خلال هذه السنوات الثلاث.
إنها عشرات السنين، قطعتها أفغانستان بسرعة الضوء.
ضوء الديمقراطية الساطع.
-3-
لم أكن أتصور، ولم يتصور معي مراقبون كثيرون تعطّش الشعب الأفغاني على هذا النحو للديمقراطية.
لم يكن أحد يتصور أن الشعب الأفغاني سوف يُقبل بهذه الجموع الغفيرة على تلبية نداء الديمقراطية دون أن يخسر شيئاً من تقاليده وعاداته وطقوسه. فالمرأة الأفغانية التي كانت تُعدم بحجابها الأفغاني التقليدي هي نفسها المرأة الأفغانية التي كانت تدلي بصوتها بنفس اللباس وبنفس الهيئة.
- هل كان الشعب الأفغاني محروماً إلى هذا الحد من الديمقراطية؟
- نعم.
- هل كان الشعب الديمقراطي رغم ظلالات طالبان وجهالات ابن لادن، ملهوفاً على الديمقراطية إلى هذا الحد؟
- نعم.
- هل كانت المرأة الأفغانية التي وقفت في طوابير طويلة ساعات طويلة لتدلي بصوتها وتمارس حقها الانتخابي تثأر لنفسها من سنوات الحرمان والاستبداد والطغيان والقمع الذي مارسته عليها طالبان والمؤسسات الدينية الباكستانية والأفغانية والإيرانية، كما شاهدنا ذلك، وكما صورها الفيلم الأفغاني الشهير الموسوم بـ "إسامة"؟
- نعم.
- هل كان لطالبان وأسامة ابن لادن وقاعدته الفضل في فتق الشرنقة الأفغانية واخراج الأفغان من ظلام الكهوف إلى نور الحضارة والتمدين، وفتح شبابيكها على العالم لكي تجدد هواء الأقبية الرطب العفن منذ آلاف السنين بهواء نقي وجديد، كما نرى ونسمع ونعقل الآن؟
- نعم.
-4-
شكراً ابن لادن على هذا الصنيع الجميل الذي فعلته بأفغانستان!
فلولا جنونك وحزمة من العقد النفسية التي تعاني منها نتيجة لاضطهادك في صغرك من قبل والديك وعائلتك ومجتمعك، مما دعاك إلى حمل السلاح بدلاً من القلم، واشاعة الظلام بدلاً من النور والاختباء في الكهوف بدلاً من الظهور في قاعات المؤتمرات، وتسجيل الأشرطة في شعاب أفغانستان بدلاً من الوقوف على منابر الرأي، لما تم تحرير أفغانستان على هذا النحو ولما رأينا افغانستان كما رأيناها بالأمس تدلي بصوتها إلى جانب المستقبل المضيء، وليس إلى جانب الماضي المظلم.
شكراً ابن لادن على هذا الصنيع الجميل الذي فعلته بأفغانستان!
فقد شكرك من قبل المفكر المصري الليبرالي والحداثي سيد قمني في كتابه (شكراً .. ابن لادن) الذي منعه أشياخ الأزهر، لأنه يفرز بين الإسلام المحمدي النقي والإسلام المسروق والمزوّر، بين الإسلام المُتلطف وبين الإسلام المُتسيف، بين إسلام العقيدة وإسلام الظروف البعيدة، بين إسلام الهداية وإسلام الدعاية، بين إسلام الفقهاء وإسلام الفقراء.
شكراً ابن لادن على هذا الصنيع الجميل الذي فعلته بأفغانستان!
فلولا "غزوة" نيويورك وما تبعها، ودماء شهداء الإنسانية الثلاثة آلاف الذين قضوا في البرجين لما أزهرت أفغانستان بالديمقراطية. فلا زهر للديمقراطية إلا بدم الفداء. وكانت خسارة الإنسانية لدمقرطة أفغانستان خسارة لا تذكر إلى جانب خسارة اليابان مليون انسان لدمقرطة اليابان وأكثر من عشرة ملايين انسان راحوا فداء للديمقراطية في الحرب العالمية الثانية لدمقرطة المانيا وايطاليا وتحرير فرنسا وكل أوروبا من شرور الديكتاتورية النازية والفاشية.
شكراً ابن لادن على هذا الصنيع الجميل الذي فعلته بأفغانستان!
فنحن بحاجة الى عشرين مثلك في العالم العربي، يتوزعون في كهوف وشعاب وجبال هذا العالم العربي التعيس، ويناكفون ويعادون امريكا ودول الغرب بـ "القاعدة" و"الاستثناء" حتى نستطيع في النهاية أن نبدأ الخطوة الديمقراطية الحقيقية الأولى في مسيرة الألف ميل. ولكي نقضي على هذا التزوير المريع للانتخابات، وتجديد الولايات إلى يوم يبعثون، وتعديل الدساتير حسب حجم البساطير، والانتهاء من مهزلة وأسطورة التوريث والتبعيث، والخلافة وحكم الخرافة.
شكراً ابن لادن على هذا الصنيع الجميل الذي فعلته بأفغانستان!
فنحن بحاجة في العالم العربي إلى مثله.
فلا المفكرون استطاعوا تحقيقه، ولا المثقفون ضحوا من أجله، ولا السياسيون ناضلوا لصونه، ولا الإسلامويون "جاهدوا" لإحقاقه، ولا المماليك قالوا به وطبقوه.
أنت الوحيد وقاعدتك الاستثنائية هي التي استطاعت أن تطفئ الأنوار الخادعة لكي يعم الظلام الكالح وتشرق الشمس من جديد، لتنير الطريق، وتهدي الشعوب، وتدلَّ التائهين، وتنصف المظلومين.
شكراً ابن لادن على هذا الصنيع الجميل الذي فعلته بأفغانستان!
ندعوا الله أن تعمَّ بركاتك على باقي أنحاء العالم العربي.
فأنت كالطوفان قاتل ومحيي، تأتي بالدمار والعمار في هذا الزمن المالح والرديء والأغبر، حيث لا تنفع معه إلا الطوافين. فلعلَّ وعسى، نقف يوماً طوابير طويلة أمام صناديق الاقتراع، لا صناديق الاتّباع، وبإشراف الأمم المتحدة، حيث لا تزوير ولا تغيير، ولا بيع ولا شراء للذمم، لكي ننتخب قادتنا بنسب العالم المعروفة، لا بنسب الشياطين الزرق ذات التسعات الخمس في وزارات الداخلية العربية.
-5-
أين نحن من الانتخابات الأفغانية الآن؟
لقد تقدمت علينا أفغانستان خلال ثلاث سنوات ما لم نستطع أن نفعله في مئات السنين وحتى الآن.
فهل تستطيع نوال السعداوي أن تترشح في مصر ضد الرئيس مبارك، كما فعلت مرشحة الرئاسة الأفغانية مسعودة جلال ضد حامد كرزاي؟
وهل تستطيع فتحية البيرقدار أن تترشح في سوريا ضد الرئيس الأسد، كما فعلت مرشحة الرئاسة الأفغانية مسعودة جلال ضد حامد كرزاي؟
هل تستطيع خديجة البيضاني أن تترشح في اليمن ضد الرئيس علي عبد الله صالح، كما فعلت مرشحة الرئاسة الأفغانية مسعودة جلال ضد حامد كرزاي؟
هل تستطيع رجاء بنت سلامة أن تترشح في تونس ضد الرئيس بن علي، كما فعلت مرشحة الرئاسة الأفغانية مسعودة جلال ضد حامد كرزاي؟
وهل تستطيع فاطمة الشهرستاني أن تترشح في ايران ضد محمد خاتمي، كما فعلت مرشحة الرئاسة الأفغانية مسعودة جلال ضد حامد كرزاي؟
نعم ، أين نحن من افغانستان، وكم من السنوات نحتاج لكي نصل إلى ما وصلت اليه أفغانستان بالأمس، وخلال ثلاث أعوام فقط من اشراق شمس الحرية؟
بركاتك يا ابن لادن، عجّل بها.
-6-
الإسلامويون – ويا للعجب – أعجبتهم خطوة الديمقراطية الأولى في رحلة الألف ميل، ولكنهم طعنوا بها وقالوا: " الانتخابات الأفغانية هي تمثيل بسيط مُستقى من الشورى بين زعماء ووجهاء القبائل وبين الشخصيات الأفغانية التي نصبها الأمريكان، وفيها سيمارس الترهيب والترغيب لدفع الناخبين لترجيح كرزاي، ومع ذلك فهي مقبولة كبداية، ولو كانت بعيدة عن جوهر الديمقراطية".
أتباع ابن لادن الكثر من "القاعدة" ومن "الاستثناء" في العالم العربي قالوا : " لو أعطوا الأفغان الحرية حقا سيختارون طالبان من جديد! لقد دخلت أفغانستان في نفق مظلم لا يعلم مداه إلا الله وحده، فهي اليوم مستعمرة من قبل الأمريكان بعد أن كانت مجاهدة بالأمس".
الأفغان المحررون، قالوا: "أخيراً رأينا التحرر والديموقراطية في أفغانستان الحبيبة، وأسأل الله أن تنجح الانتخابات ويفوز الرئيس كرزاي، ونرى النور من جديد".
أما العراقيون الأحرار المنتظرون فقالوا : " للأفغان نقول: أنتم السابقون ونحن اللاحقون بمشيئة الله".
#شاكر_النابلسي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟