|
بؤس الفلسفة الماركسية (2)
نعيم إيليا
الحوار المتمدن-العدد: 3289 - 2011 / 2 / 26 - 22:44
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
1- المادة والوعي. تقدَّم أنّ مبادئ معلومة من الفلسفة الماركسية، لا تخلو من قصور وتناقض خفيّ سيظهران في مجالين، أولهما: مجال التعبير والتفكير، وثانيهما: في مجال التطبيق على الظواهر الاجتماعية. ففي المجال الأول: تحتل معضلة المادة والوعي، وأيُّهما له فضل السبق على الآخر، مركزَ الصدارة؛ وهي معضلة يرى لينين أنها جوهرية، وأنها الحدّ الفاصل بين اتجاهين فكريين عامين متنازعين يدّعي كلّ منهما أنه على حقّ وصواب، هما: الاتجاه المادي، والاتجاه المثالي. وتتضح معالم المعضلة فيما كتبه الأستاذ مجيد البلوشي في موقعه الفرعي في صحيفة الحوار المتمدن عن المادة والوعي، إذ قال: "إن المسألة الأساسية في الفلسفة والمتعلقة بالمادة، باعتبارها وجوداً مادياً مستقلاً، من جهة، وبالوعي (العقل أو الإدراك أو الفكر) باعتباره وجوداً غير مادي، من جهة أخرى، هي: أيهما الأصل وأيهما الفرع؟ أيهما المعطى الأولي وأيهما المعطى الثانوي؟ أيهما الوالد وأيهما المولود؟ أيهما السبب وأيهما النتيجة؟ علماً بأن الماديين لا ينكرون وجود الوعي أو الفكر أو العقل أو الطاقة، بل يعتبرونها - بكل مؤثراتها الإيجابية في تغيير الواقع الموضوعي - وجوداً ثانوياً مقارنةً بالوجود المادي" وهي معضلة جوهرية؛ لأنها – كما مرّ – أصل المعضلات الفلسفية الأخرى المتفرعة عنها. وهي جوهرية أيضاً لأنها النظرية التي يتحدّد بها موقفُ الفريقين من العالم بجميع حقائقه الكبرى والصغرى؛ فمن يأخذ بأسبقية المادة، فلا بدّ له من أن يفسر حقائق العالم والمجتمع الإنساني تفسيراً مختلفاً عن تفسير من يأخذ بأسبقية الوعي وتقدمه على المادة. فإن يكن هذا صحيحاً، فإنّ تقسيم النشاط الفكري الإنساني إلى معسكرين متباعدين لا ثالث يجاورهما أو يختلط بهما، لن يكون دقيقاً، بل قد يخلّ بصورة الحركة الفلسفية العامة التي تتكوّن من تياّرات متداخلة متشعّبة متواشجة يصعب فرزها إلى معسكرين اثنين بمثل هذه السهولة والبساطة: فربّ تيّارٍ فلسفي مثالي، جمع بين المثالية والمادية، وربّ تيار مادي حوى في باطنه بذور المثالية، وربّ تيار لا هو هذا ولا هو ذاك، ولا هو قريب من ذا ولا هو بعيد عن ذيّاك. يقول لينين في تعريفه للمادة في كتابه (المادية والمذهب النقدي التجريبي) وهو التعريف المعتمد لدى جمهور الماركسيين، وهو الذي يلخص موقفهم من العالم، والذي منه ينطلقون في تفسير وفهم الظواهر الطبيعية والاجتماعية: " المادة مقولة فلسفية للإشارة إلى الواقع الموضوعي الذي يُعطى للإنسان في إحساساته، والذي تستنسخه، وتصوره، وتعكسه إحساساتنا، وهو موجود بصورة مستقلة عنها". وهذا التعريف يبدو متسقاً جامعاً، ولكنه لن يكون كذلك عند التحليل والتدقيق على ضوء النتائج التي توصّلت إليها أبحاث علماء الفيزياء الكونية، ولن تكون كذلك على ضوء علم المنطق. وقد تنبّه نفرٌ من الشيوعيين الشباب في الآونة الأخيرة، إلى ما في هذا التعريف من القصور والاختلال، فقالوا: إنَّ تعريف المادة بأنها كتلة لها حجم - كما كان لينين يتصورها - بات تعريفاً قديماً قد تجاوزته الفيزياء الرياضية باكتشافها أنّ المادة في أصلها (كمّ)؛ أي طاقة لا كتلة لها. وقالوا: إنّ الواقع الموضوعيّ لا يُعطى للإنسان في إحساساته دائماً، فثمة واقع موضوعي في الكون، لا يقع ضمن إحساساته أو لا يستشعره الإنسان بحواسه. والأهم من اعتراض الشيوعيين هذا، هو الاعتراض التالي على مسألة فصل الوعي عن المادة: يؤكد ماركس وإنغلز ولينين كما نقل عنهم جورج بوليتزر في كتابه (أصول الفلسفة الماركسية) أنّ الوعي لا ينفصل عن المادة: ( كما كتب ماركس يقو ل: "لا يمكن فصل الفكر عن المادة المفكرة. لأن هذه المادة هي أساس جميع التغييرات التي تحدث. كما يقول انجلز من ناحية أخرى: "مهما بدا لنا وعينا وتفكيرنا أنهما متعاليان فهما ليسا سوى ثمرة عضو مادي ألا وهو الدماغ. وكذلك يقول لينين: "يدلنا منظر العالم على كيفية تحرك المادة و كيفية تفكيرها كما يلاحظ أن القول بأن الفكر ليس حركة بل هو الفكر، هو قول علمي كالقول بأن الحرارة ليست حركة، بل هي الحرارة"). ويشرح جورج بوليتزر هذه الوحدة بين الوعي والمادة بقوله: "ماذا تعني الفكرة القائلة بأن الوعي انعكاس للكينونة وللواقع الطبيعي والاجتماعي؟ يعني ذلك أن الثنائية قد زالت وأن الفكر لا يمكن فصله عن المادة المتحركة. فلا يوجد الوعي خارج المادة مستقلا عنها." ولكنّ هذا الشرح فضلاً عن أنه يتعارض مع تعريف لينين الذي سبق أن قال بأنّ المادة مستقلة عن الوعي، فإنه يظهر تناقضاً لا يخطئه النظر. فإذ قال لينين إن المادة واقع موضوعي مستقل عن الإحساس وبالتالي عن الوعي، صار قول بوليتزر: "إن الفكر لا يمكن فصله عن المادة" نقيضاً له باجتماع شيئين لا يجتمعان معاً، وهما: الاتصال، والانفصال في آن واحد؛ وهذا أمر تنفر منه البديهة ويلوي عنه الطبع السليم. بيد أنّ الماركسيين لا يقرّون بهذا التناقض الناشئ على الأغلب عن سوء التعبير وضعف الصياغة، وحجتهم أنّ الوعي خاصية من خواص المادة (الدماغ) ملازم لها ملازمة الحرارة للنار، والبياض للثلج. وفي هذا يقول بوليتزر مستلهماً ستالين في (الفوضوية أو الاشتراكية): "لا تعني الفكرة القائلة بأن الوعي صورة من صور الكينونة قط أن الوعي، بطبيعته، هو من المادة أيضاً .. وتقول النزعة المادية عند ماركس أن الوعي والكينونة والفكرة والمادة أنما هما صورتان مختلفتان لظاهرة واحدة تحمل اسما عاما هو أسم الطبيعة أو المجتمع. فالواحد منهما إذن ليس نفيا للآخر ، هذا من ناحية ومن ناحية أخرى فهما لا يكونان نفس الظاهرة". ويقول لينين في دفاتره الفلسفية: "أن يكون الفكر والمادة واقعيين، أي انهما موجودان، هذا صحيح. لكن القول ان الفكر مادي هو خطوة فاسدة نحو خلط المادية والمثالية". ويقول أيضاً: "العالم المادي الذي ندركه بحواسنا والذي ننتمي إليه هو الواقع الوحيد، غير أن ذلك لا يعني قط أن الفكر مادي كالمواد التي تفرزها أعضاؤنا. والاعتقاد بذلك أنما هو خطوة خاطئة نحو الخلط بين النزعة المادية والنزعة المثالية، وإقامة تماثل بين المادة والفكر وبين المادة والوعي، ويؤدي ذلك إلى الوقوع في النزعة المثالية". إنّ جميع هذه الأقوال، لا ينفي - كما هو ظاهر - اتصال الوعي بالمادة (الدماغ) اتصالاً لا يستمرئ الفصلَ بينهما إلا بالمخيّلة وبالتحليل الذهني، ولكنه يرفض أشد الرفض فكرة أن يكون الوعي شيئاً مادياً محسوساً له وجود مستقل خارج الدماغ. فهل في هذا الرفض ما يحمل على الاقتناع بصحته، ويذهب الشكّ في ضعف منطقه؟ للإجابة على هذا السؤال، لا بد من إيضاح مسألة في غاية الأهمية ربما غفل عنها الماركسيون، هي: أنّ الوعي ليس خاصية من خواص الدماغ - وإن لم يكن له وجود مستقل عن الدماغ - وليس عرضاً من الأعراض، مثل: التمدد، والتقلص، واللون..الخ كما يتوهم الماركسيون، بل هو طاقة ذات فاعلية لا تنضب إلا بموت الدماغ، وهي فاعلية تحدّد وجودَ المادة، وتتحدّد بوجود المادة. فلا وجود لدماغ من دون وعي، ولا وجود لوعي من دون دماغ. إنّ هذه العلاقة الاندماجية ما بين الدماغ والوعي، لهي علاقةٌ تماثلُ العلاقة القائمة بين المادة والطاقة تمام المماثلة. فكما أنّ الطاقة لا كينونة محسوسة لها تجعلها مستقلة عن المادة، فكذلك هو الوعي. ومن هنا تأتي الإجابة عن السؤال السابق، لتنفي الاعتقاد السائد عند الماركسيين بأنّ الوعي لا يمتّ إلى المادة. لقد كان هذا الاعتقاد مقبولاً قبل أن يثبت أن الطاقة جزء لا يتجزأ من المادة. وعلى هذا فإنّ الوعي ليس بطارئ على الدماغ، وليس بناشئ عنه، إنه داخل في أصل تكوينه. وإنّ وجود الوعي في الدماغ بصورة غير محسوسة، لا ينفي ماديته، إذ لو صحّ ذلك، لصحّ أيضاً ألا يكون وجود الطاقة مادياً. فأما قولهم بأسبقية المادة، فإنه قول ركيك؛ إذ يستحيل أن يسبق أحدهما الآخر، مادام أحدهما لم يوجد قبل الآخر. فهل وجد الدماغ قبل أن يوجد التفكير أو الوعي؛ فيقالَ بأن الدماغ أسبق من الوعي في الظهور؟! بيد أنّ الماركسيين لا يقصدون من قولهم: "إن المادة تسبق الوعي"، أنّ الدماغ يسبق الوعي، وإنما يقصدون من ذلك أن المادة (الطبيعة، الواقع الموضوعي) سبقت في وجودها، وجودَ الإنسان الواعي. ولا ريب في أنّ المادة في وجودها، قد سبقت وجود الإنسان الواعي؛ هذه حقيقة علمية لا يماري فيها اثنان، ولكنّ هذه الحقيقة، لن تستطيع على كلّ حال أن تقدم لهم تفسيراً أو جواباً لهذا السؤال: فمن أين جاء الوعي إلى المادة (الدماغ) إذن، إن لم يكن هذا الوعي كامناً في أصل المادة التي تكوّن منها الدماغ؟ هل يا ترى جاءها من عند الله؟ ولن يكون قانون التطور والصيرورة هنا جواباً مقنعاً؛ لأنّ قانون الصيرورة لا يخلق الأشياء من عدم، وإنما حسبُه أن يوجد صورها ويغيّر تركيبها. لقد نشأت الحياة - والوعي بأشكاله الدنيا والعليا جزء منها - بفضل قانون الصيرورة والحركة، ومرّت الحياة بأطوار عديدة، ومراحل من التطور معقدة مديدة، ولكنها لم تنشأ من عدم، وإنما نشأت من اجتماع وتآلف مواد طبيعية شتى خضعت لعمليات كيميائية في ظروف زمانية وأخرى مكانية عبر أحقاب. فلو لم تكن الحياة في أصل هذه المواد، فهل كانت الحياة انبثقت منها؟
#نعيم_إيليا (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
بؤس الفلسفة الماركسية
-
نقد نقد النظرية الماركسية
-
إلهٌ جديد
-
حنَّا هاشول يصرخ في الوادي
-
حياتي في خطر. قصة قصيرة
المزيد.....
-
الملكة رانيا تهنئ الأمير هاشم بعيد ميلاده العشرين
-
انتشال 30 جثة حتى الآن لضحايا كارثة مطار ريغان في واشنطن
-
الدفاع الروسية تعلن حصيلة جديدة لخسائر قوات كييف في كورسك
-
فوائد -مكملات الحمل- في تقليل مضاعفات الولادة
-
ماذا نعرف عن وحدة الظل في كتائب القسام المسؤولة عن تأمين الر
...
-
-مخاوف من سيطرة دينية على الحكم في سوريا- - جيروزاليم بوست
-
سانا: الرئيس أحمد الشرع سيلقي خطابا موجها للشعب السوري مساء
...
-
شاهد: فرحة أسرة الأسيرة أغام بيرغر بعد أن أفرجت عنها حماس
-
انهيار صخري في أعماق كاليفورنيا يكشف أسرار تكوّن القارات
-
سر -طبيب الموت- ولغز -عاصمة التوائم-!
المزيد.....
-
حوار مع صديقي الشات (ج ب ت)
/ أحمد التاوتي
-
قتل الأب عند دوستويفسكي
/ محمود الصباغ
-
العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا
...
/ محمد احمد الغريب عبدربه
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
المزيد.....
|