|
ليلة ٌ ضاعَ فيها الرغيف /قصة قصيرة
انمار رحمة الله
الحوار المتمدن-العدد: 3286 - 2011 / 2 / 23 - 01:35
المحور:
الادب والفن
ليلة ٌ ضاعَ فيها الرغيف
الذاكرة ُ مرفأ الخيالات،يعصفُ بحرُها تارة ،ويستكينُ،يقلّبُ الماضي على راحتيها،الأوجاع َ /الأماني َ/البكاء َ/الشعورَ التائه في عالم ٍ أثيري عميق.فمن الصعب ِ مصارحة ُ الذات ،والأشدّ صعوبة الاسترسال في عدم ِ نكران ِ الواقع. وخصوصا ً إن من تخصّه ُ الحكاية ُ رجلا ً ستينـيا ً يـودّع ُ زمنا ً غابرا ً ،ويمارسُ الحياة َ في بساطة ٍ مألوفة ٍ لعمره ِ الأبيض. الشتاء ُ يعانق المساء َ ناثرا ً على المدينة الساكنة قبلا ً باردة.كنت طفلا ً أراه كالباقين قرب المدفئة،يتصفـّحُ كتابا ً أو صحيفة ً أو يعتكِفُ كناسك ٍ يُرسلُ أنظاراً بعيدة ً من خلال النافذة المطلة على البساتين النائمة. كنت ُ أراقبه عن كثب حين يبكي من دون سبب، خافيا ً بكاءَهُ عن الكبار ومسترسلا ً في دموعِه أمامي غير آبه ،بحكم ِ أني صغير وغير مكترث ٍ لدموع ِ رجل ٍ عجوز،وهو الآخر ينظرُ لي النظرة َ ذاتها من دون ِ اكتراث. مازلتُ اذكرُ صوته البعيد ،وارتعاشَ يده ِ الشائخة..سألني ليلتها عن حال ِ المدرسة وهموم المذاكرة ،أجبته وكفي اليمنى تخط ُّ على الورقة خطوطا ً لا اعرفُ مغزاها ،سوى أن الحركة َ كانتْ تحولُ بين عيني ّ وعينيه اللامعة : - بخير. صمت برهة ً فانتبه إلى نظارته وقد تلطختْ بدمعهِ المترقرق فأنزلها ماسحا ً زجاجها القديم وأرجعها ثانية ً فعاجلته حينها بشغف طفولي :- - جدي ..جدي..لماذا تبكي .؟؟! أشرقتْ ابتسامة ٌ على وجههِ المتعب ،ثم ربّتَ على كتفي .اعتدلتُ في جلستي وبدأت أطالعُ قسماتِ وجههِ وهو يزفرُ تأوها ً على الماضي الذي أشرقَ في كلامِهِ كشمس ٍ خجــولة ٍ قائـلا ًً: - بني أنها قصة ٌ من الماضي البعيد تطاردني دوما ً.. فتوسّـلتُ إليه راجيا ً أن يقـصّها لي ،فما هي إلا ثواني وانفرجتْ الستارة ُ في مسـرح ِ الـذّاكرة معلنة ً هي الأخرى تأوهات ٍ خفية ٍ في اللاشعور حيثُ استطردَ قائلا ً: - حين كنت ُ شابا ً وكان علي لزاما ً أن أكملَ خدمتي الوطنية ،تعلـّقتُ بصديق ٍ حنون ٍ لي في تلك المحنة . قاطعته ُ مستفسرا ًعن اسم صديقه فأجاب: -لايهمنا اسمه ..فالأسماء لوحات رخام تخفي تحتها قبور الأرواح ) لم افهم قصده في تلك اللحظة فتركته يكملُ حديثه قائلا ً : كان صباحنا يعلنُ بداية َ يوم ٍشتائي جديد ،وكانتْ الطيور تحلـّق ُ من فوق ِ كتيبتنا الباردة، تطالعُ في نـَهَم ٍ تدريباتنا الصباحية الرتيبة،نقفز..ونتمرن..ونهرول..غير آبهين بالبرد، كنا متحابين تجمعنا شفافية ُ الوئام و الحب والصفاء.. كنت ُ وإياهُ بمنأى عن الباقين ..فقط ْأنا وهو ،نأكلُ وننام ُ ونحكي وقتَ الغروبِ حكايات ٍ عن مدننا وقرانا البعيدة،فتارة ً يحكي لي عن حب ٍ أرّقه ُ،وتارة ً أحكي له مشاعري وحكايات حب انتهتْ يوما ً ولم تفلح ْ.كانتْ حياتنا سعيدة ً برغم ِ تعاسة ِ المكان..وتكالب ِ الهموم ِ الوطنية التي جمعتنا في معتقل ِ الرتابة والواجب. اعتدلتُ في جلستي بعد أن رَعدتْ السماء ،نظرت إلى وجه جدي الخافت مستفسرا ً في استغراب: - ولكن يا جدي ما هو الذي يبكيك في هذه الحكاية .؟؟ وضع الرجل العجوز نظارته على الطاولة المجاورة،ثم دلك عينيه بهدوء وقال: - مرتْ علينا ذاتَ شهر ٍ أيام ُ جوع ٍ وقحط ٍ شديد،بسبب ِ بعد ِ موقعنا البائس، وتكالبُ الطـقس ِ علينا قطع المدّ من معونة ٍ وإعاشة ٍ دورية،وتكفـّلَ الشتاء ُ بالباقي ..حين أذابَ ما أخفيناه من طعام ٍ وشحوم ٍ وعزيمة ٍ زجاجية، وبعد أيام ظهرتْ بوادرُ الخير حين لاحتْ لأعيننا مركبة ُ الإعاشة من بعيد ،عادتْ كـ (سانت كلوز) محملة ً بالهداية للجائعين . في يومها لم تسعنا الفرحة ،لقد كنـّا على مشارف ِ الموت ِ نتيجة َ السغب،قلت لصديقي العزيز سوف نأكل حتى نموت من الشبع) ضحك َ صديقي طويلا ً وحمدَ الله َ بوجودي معه في محنته الأخيرة،وصلتْ المركبة ُ المتهرئة ُ إلى باب ِ الكتيبة ِ اليتيمة،ثم أغلـق َالسائـقُ باب َ المركبة بقوة ٍ،و سـلم َ على الموجودين ،قاصدا ً مقرّ الإعاشة،ومبلغا ً أن ما بحوزتهِ أرغـفة َ خـبز ٍ لا أكثرْ،صُعـِقَ الجميع ُ بهذا الخبر ِ القاتل ،وتنازلَ بعضُهم عن قيمه ِ الكبرى كافرا ً بكل ِ مقدس ٍ في الوجود،واستغفرَ بعضُهم ربَه صابرا ً على ما ألمَّ بنا من ضـيم ٍ ومـرار،وأنا وصديقي كنا متفرجين على مهزلة ِ الجوع ِ الأزلية،لا نعرفُ هل نبكي.؟؟ أم نضحكُ حتى الموت؟!. وزِعِـتْ أرغفة ُ الخبز ِ حيث ُ أخذ َ الآمرون َ حصتهم المألوفة،ومن ثم تم توزيع ُ الباقي على من له ُ يد ٌ طويلة ٌ ولسان ٌ يفتكُ بالأعراف ِ والأخلاق ِ الحميدة ،وأنا وصديقي الجائع نتفرجُ كطفلين ِ على واقعة ِ الجوع.همسَ صديقي في أُذني ..سوفَ اجلبُ لنا رغيفين ِ كي نتعشى بهما) هرولَ إليهم مسرعا ً عله يخطفُ قرصَ رغيف ٍ بائس،أنا لم أفعلْ شيء سوى رجوعي إلى مقر ِ نومي منتظرا ً الموتَ أو وصول َ قافلة ِ للإمداد مِن جديد.عاد َ صديقي مبتسما ًوبحوزته قرصُ رغيف ٍ واحد،جلسَ قربي وهو يحكي قصة َ مغامرتِهِ للحصول ِ على الجائزة،ومصارعة ِ الباقين لخطفِ دواء ٍ يُخرِسُ صوتَ الجوع ِ في غابة ِ أحشائنا المظلمة.وضع َ الرغيفَ أمامي طالبا ً مني الأكل ..فرفضتُ معلنا صبري على الم ِ الجوع ،عاطفا ً على صديقي الجائع ،فقرصُ رغيف ٍ واحد لا يكفي لرجلين .توسّلَ بي أن أشاطره فرفضتُ مجددا ً ،وأخبرته إني سوف احصلُ أيضا على قرص ِ رغيف ٍ آخر ،ثم خرجت ُ عله في خروجي جدوى . تركته وحيدا ً فـَرِحـا ً بالنصر، فلمْ نحاربْ في تلكَ الكتيبة عدوا ً إلا الجوع،وقد هـَزمَنا شرَ هزيمة. عدتُّ إليه خالي اليدين،سألني في استغراب ..هل حصلت على شيء.؟؟ فأجبته ..بنعم ولم اخبره أني مهزوما ًرجعت إلى مثواي التعيس ، سألني...ولكن أين رغيفك.؟؟ أجبته بسرعة ..لقد أكلته في الطريق). خيم َ الليلُ وشيكا ً خافيا ً تحتَ لحافـِهِ أنـّات ٍ متفرقة ٍ لبعض ِ الجائعين ،مثلي طبعا ً لم يفلحوا بالوصول إلى بغيتهم،صديقي أخفى رغيفه في حقيبته البسيطة،ثم توجه للصلاة شاكرا ً ربَه على ديمومة ِالحياة،كنت ُ أراقبه عن كثب،فقد أوصاني أن لا أفارقَ الحقيبة ، وخصوصا ً أن فيها بعضَ ما يملكُ من أشياء،وعلى رأسها رغيفُ الخبز الثمين. أكملَ صلاته وشكرني على صبري ،ثم توجهت أنا بدوري إلى خارج ِ المكان لقضاء بعض الأشياء،وإذا بصوت ِ صديقي يعلو من داخل القاعة ،رجعت راكضا ً إليه ..ماذا حصل ..؟؟ماذا حصل.؟؟سألته في عجل ٍ فأخبرني أن رغيفه سُرق،سألتـُهُ هل رأيتَ أحدا ً أخذه .؟؟قال ..لا لم أرَ أحدا ً قربَ الحقيبة) .بدأ صديقي يسأل الباقين ،يستحلفُ هذا... ويقسم على هذا..هل من احد أخذ قرصي الوحيد) يصيح بصوت ٍ عال ٍ،بدأ يفقدُ أعصابَه /يشتم/يبصق /يلعن الذي سرقَ رغيفه،والكلُ في صمت ٍ نائمون ..مستسلمون للجوع ِ والقدر.سألته هل وضعته في مكان آخر .؟؟ أجابني بـ( لا ..لا) . رجعَ صديقي إلى فراشِه مستلما ً هو الآخر للجوع ،وغط ّ في نومِه كعصفور ٍ مبلل ٍ خائـف،في تلك الليلة الكلُ نام َ في هدوء،إلا إنا بقيتُ ساهرا ً حتى الصباح أرقـُبُ أسرابا ً من الملائكة تهبط ُ على قاعة ِ المنام،حاملة ً روح َ صديقي العزيز إلى عالم ٍ أنقرضَ فيه الجوع والحسد و الأنانية ، لم اعرفْ ليلتها هل رحل بسبب الجوع .؟؟...الألم.؟؟ أم الضياع..؟؟ .نعم سهرت ُ ليلتها وأصبحتُ بلا صديق..بلا رفيق..بلا رغيف جديد ،أطفئ به سغبي ،واهربُ به إلى عالم ِ الخلاص.وهانا ذا جائع ٌ إلى ألان بعد رحيل ِ ذاك الصديق ،لم يشبعني رغيف العالم كله،ومصيري أن أظل جائع إلى صديق حنون ..وقرص رغيف. توقف جدي عن الكلام سارحا ً في عالم ٍ بعيد ، فانبريت له سائلا ًبفضول ٍ شديد: - ولكن ..ولكن يا جدي هل عرفت من سرقَ قطعة َ الرغيف..؟؟ هزّ رأسه واثقا ً وأشارَ إلى صدره بحزن ٍ عميق،و تكلـّمَ في استحياء ِ الأطفال متمتما ً: - .... أنا
#انمار_رحمة_الله (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
هذا ماحدث في المقبرة
-
الوصايا العشر
-
ثلاث قصص قصيرة جدا(همْ....هنَّ)
-
هلوسة
-
ثلاث قصص قصيرة جدا
-
طفل جنوني
-
رائحة الخيالات
-
الساهر
-
قصة قصيرة / قتلت عصفورا مرتين
المزيد.....
-
فصل سلاف فواخرجي من نقابة فناني سوريا
-
-بيت مال القدس- تقارب موضوع ترسيخ المعرفة بعناصر الثقافة الم
...
-
الكوميدي الأميركي نيت بارغاتزي يقدم حفل توزيع جوائز إيمي
-
نقابة الفنانين السوريين تشطب سلاف فواخرجي بسبب بشار الاسد!!
...
-
-قصص تروى وتروى-.. مهرجان -أفلام السعودية- بدورته الـ11
-
مناظرة افتراضية تكشف ما يحرّك حياتنا... الطباعة أم GPS؟
-
معرض مسقط للكتاب يراهن على شغف القراءة في مواجهة ارتفاع الحر
...
-
علاء مبارك يهاجم ممارسات فنانين مصريين
-
وزير الثقافة التركي: يجب تحويل غوبكلي تبه الأثرية إلى علامة
...
-
فيلم -استنساخ-.. غياب المنطق والهلع من الذكاء الاصطناعي
المزيد.....
-
فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج
...
/ محمد نجيب السعد
-
أوراق عائلة عراقية
/ عقيل الخضري
-
إعدام عبد الله عاشور
/ عقيل الخضري
-
عشاء حمص الأخير
/ د. خالد زغريت
-
أحلام تانيا
/ ترجمة إحسان الملائكة
-
تحت الركام
/ الشهبي أحمد
-
رواية: -النباتية-. لهان كانغ - الفصل الأول - ت: من اليابانية
...
/ أكد الجبوري
-
نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر
...
/ د. سناء الشعلان
-
أدركها النسيان
/ سناء شعلان
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
المزيد.....
|