أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - سعد محمد رحيم - ما بعد ماركس.. ما بعد الماركسية 5 سارتر والماركسية















المزيد.....

ما بعد ماركس.. ما بعد الماركسية 5 سارتر والماركسية


سعد محمد رحيم

الحوار المتمدن-العدد: 3285 - 2011 / 2 / 22 - 19:13
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


كان جان بول سارتر ( 1905ـ 1980) واحداً من أكثر المفكرين الغربيين، في حقبة الحرب الباردة، التباساً وإثارة للجدل في علاقته بالماركسية، وبالتجارب الاشتراكية. وقد اتخذ موقفاً نقدياً صارماً من النظرية الماركسية ومنهجها الجدلي وتطبيقاتها. لكنه عدَّ نفسه، دوماً، يسارياً، في الخانة عينها التي وضع فيها اليساريون أنفسهم، في مواجهة النظام الرأسمالي بجشعه واستغلاله ولا عدالته ووجهه الاستعماري. ولذا كانت علاقته متذبذبة بالحزب الشيوعي الفرنسي، وبالدولة الكبرى الراعية، في حينها، للحركات الماركسية والثورية في العالم: الاتحاد السوفيتي. وفي هذا الصدد كتب دراسات وأبحاث ومقالات عديدة جمعها في كتب شتى، لعلّ أهمها: ( نقد العقل الديالكتيكي ) و ( المادية والثورة ) و ( قضايا الماركسية ) و ( شبح ستالين ).
تحدث سارتر عن الطبيعة الخسيسة للنظام الرأسمالي، وعن خبث الطبقة البرجوازية وفسادها، حيث أنتجتا الفاشية وأهوالها. وطوال حقبة الحرب الباردة، وحتى وفاته، بقي يسارياً، مناوئاً للولايات المتحدة وسياساتها، ودورها في الحروب الإمبريالية، لاسيما في كوريا وفيتنام. والبديل المرغوب فيه، من وجهة نظره، هو شكل ما من أشكال الاشتراكية. وكان مقتنعاً بأن الاشتراكية، لا غيرها، هي التي بإمكانها خلق مجتمع حر، أصيل. وجوهر رؤيته الاشتراكية يتمثل في تأكيده بأنْ لا وجود لمجتمع حر "ما لم يستمتع كل عضو فيه بنفس درجة الحرية". وكان تصوّره عن كيفية تحقيق الاشتراكية، وطبيعتها هو أنه "لا يمكن للاشتراكية أن تظهر إلاّ على يد الطبقة العاملة، ولا يمكن لها أن تنجز شيئاً ما لم تُعط الأولوية المطلقة لحاجات هذه الطبقة". وظل على الرغم من انتقاده للاتحاد السوفياتي، والفظائع التي اُرتكبت فيه، لاسيما في عهد ستالين، يرى تفوقاً أخلاقياً للمنظومة الاشتراكية على الديمقراطية البرجوازية. غير أن تقلبات الأحداث منذ الاحتلال الألماني لفرنسا ( 1941 )، ووقوف الحزب الشيوعي الفرنسي إلى جانب معاهدة عدم الاعتداء الموقعة، في العام 1939 بين الاتحاد السوفياتي ( ستالين ) وألمانيا النازية ( هتلر ). واعتبار إعلان الحرب من قبل فرنسا وإنكلترا على ألمانيا إثر احتلال الأخيرة لبولندا مؤامرة إمبريالية، ثم انقلاب موقف الحزب مع غزو ألمانيا لأراضي الاتحاد السوفياتي في يونيو 1941، ليصبح الحزب في صف المقاومة ضد العدو النازي ( المشترك ).. نقول؛ مع تقلبات ألأحداث هذه ازدادت انتقادات سارتر للشيوعيين والاتحاد السوفياتي حتى وصلت، أحياناً، حد القطيعة. ومع احتلال الاتحاد السوفياتي لأوروبا الشرقية بعد انتهاء الحرب وبدء الحرب الباردة ما عاد، في نظر سارتر، كما في السابق "أن من يدعم الشيوعية فإنه يدعم أسباب الحرية".
خصص سارتر، في العام 1950، عدداً من مجلته ( الأزمنة الحديثة ) التي كان يرأس تحريرها لفضح وجود معسكر للعمال العبيد في الاتحاد السوفياتي. لكنه بقي إلى جانب فكرة الاشتراكية، وضرورة تحرير الطبقة العاملة. وكتب في العام 1952 مقالته الشهيرة ( الشيوعيون والسلام )، وفيه تعاطف مع الحزب الشيوعي الفرنسي، ورأى "أن الطبقة العاملة حققت وعياً بذاتها كطبقة من خلال الحزب الشيوعي وحده".
تغير الأمر لمّا قام الاتحاد السوفياتي بغزو المجر وقمع حركة الاستقلال فيها، في العام 1956، وكتب مقالته الشهيرة ( شبح ستالين ) وفيها أدان التدخل السوفياتي، وعدّها فساداً من فعل الستالينية، لكنه لم يتخل عن إيمانه بالماركسية "التي ظلت في نظره الفلسفة الوحيدة القابلة للتطبيق في القرن العشرين". وقبل ذلك كانت الستالينية، في نظره، ضرورة تاريخية لبناء الاشتراكية. ولم يسع إلى تخطئة الماركسية في ضوء إخفاقات التجربة أو طبيعتها القمعية، اللاديمقراطية. وأراد للحزب الشيوعي أن يتبنى خططاً فيها قدر من الليبرالية والإصلاح. وذهب إلى أن الوجودية قادرة على تقديم العون للماركسية، فبالتفاتها إلى التجربة المباشرة تستطيع أن تنقذ الماركسية من أن تصبح جافة، متيبسة، ولاهوتاً مجرداً. وقد قال؛ "لا يمكن للوجودية أن تحل محل الماركسية. فالماركسية ــ والماركسية وحدها هي الفلسفة الصحيحة في العالم الحديث". أما ما تستطيع أن تقدمه الوجودية من عون فهو أن "تساعد الماركسية بوصفها الفلسفة التي تمكن البروليتاريا من إنجاز الوعي الذاتي والأصالة".
اكتست رؤية سارتر إلى مستقبل الجنس البشري بمسحة من التشاؤم. فوجوديته لم تكن لتتلاءم، من هذه الناحية، مع التفاؤل المسطح للماركسية التقليدية السائدة. وقد أظهر، مثل آخرين من مجايليه ( ألبير كامو مثلاً )، في كتاباته المختلفة تناقضاً بين "الفلسفة الاجتماعية للنشاط السياسي واليأس الميتافيزيقي العميق". ولعله غدا أكثر تشاؤمية وعدمية مع سحق قوات حلف وارشو، بقيادة الاتحاد السوفياتي، لنسخة الاشتراكية التي أقامها الكسندر دوبك في تشيكوسلوفاكيا في العام 1968. وكان رد فعل سارتر ضد عملية السحق تلك عنيفاً ومباشراً. وفي الوقت نفسه فشلت ثورة الطلاب في فرنسا ( مايو 1968 ).. هذه الهزائم "تركت سارتر في يأس من مستقبل السياسة في أوروبا فراح يشغل نفسه أكثر منذ الستينيات فصاعداً بصراع عالم المستعمرات ضد سادتهم الإمبرياليين". ومنذ انطلقت شرارة الثورة الجزائرية عمل سارتر على دعم تلك الثورة، وتفنيد أسطورة أن الجزائر فرنسية.
في مقالته الشهيرة ( المادية والثورة ) أو ( الماركسية والثورة ) يطرح مجموعة من الأسئلة والأفكار بخصوص الفكر الماركسي والحركات الماركسية. وكان سؤاله الأول، هنا، هو؛ "هل المادية وأسطورة الموضوعية لازمان فعلاً لقضية الثورة، وهل لا يوجد انفصال بين عمل الثوري وإيديولوجيته؟". ويبدو أن سؤاله كان يرمي إلى زعزعة التلازم، في الفكر الماركسي، بين النظرية والتطبيق.
إذا كانت المادية تنكر الغائية المتعالية، وتُحيل حركة العقل إلى حركة المادة، وتلغي الذاتية برد العالم، ومن ضمنه الإنسان، إلى نظام يتكون من أشياء ترتبط ببعضها بعضاً بروابط كونية، فإن سارتر يخلص إلى نتيجة لا تخلو من مفارقة، يقول أنه لا شك فيها؛ "أن المادية مذهب ميتافيزيقي، وأن الماديين ليسوا أكثر من ميتافيزيقيين".
يخوض سارتر سجالاً فلسفياً، تحليلياً، جامحاً، اشتهر به. وفي معرض وصمه الماديين بالميتافيزيقيين! يمضي في إلقاء أسئلته واستنتاجاته إلى النهاية التي أكدها مسبقاً بطريقة يراها منطقية؛ "وكيف يحل المادي نفسه من تهمة الميتافيزيقا إذا رد الفكر إلى المادة، مع أنه يتهم بها المثاليين عندما يردون المادة إلى الفكر؟ ولا تؤيد التجربة المذهب المادي مثلما لا تؤيد مذهب الطرف المناقض له، وإنما تنحصر نتيجة التجربة في التدليل على وجود علاقة بين ما هو فسيولوجي وبين ما هو سيكولوجي، ويمكن تأويل هذه العلاقة آلاف التأويلات، فإذا كان المادي يدّعي أنه على يقين من مبادئه فإن تيقنه ليس إلاّ مصدر واحد من الحدس أو الاستدلال المسبق، أي الاستدلال الصادر عن نفس التفكير القبلي الذي استنكره، وإذن تكون المادية كما أفهمها الآن نوعاً من الفلسفة الميتافيزيقية التي تختفي خلف الوضعية".
أما فيما يتعلق بإلغاء الماركسية ( المادية ) للذاتية، يقول سارتر؛ "إن المادي حين ينكر ذاتيته يعتقد أنه قضى عليها. ولكن حيلته مفضوحة فهو لكي يقضي على الذاتية يعلن أنه ( موضوع ) أي انه مادة للعلم، ولكنه بعد أن يقضي على الذاتية من أجل الموضوع يعتبر نفسه ( نظرة موضوعية ) بدلاً من أن يرى نفسه شيئاً بين الأشياء تتدافعه حوادث الكون المادي، ويدّعي أنه يتأمل الطبيعة مجردة..".
ليس من السهل إيجاز سجالات سارتر الفلسفية بخصوص مبادئ المادية، لكن الإشارة إلى بعضها تُظهر سخونة تلك السجالات التي تعرضت للمشكلات النظرية التي انطوت عليها المادية، ومنها المادية الديالكتيكية.. يقول؛ "إن المادية وهي نوع من المذهبية عندما تؤكد أن الكون يولد الفكر ما تلبث أن تتحول إلى الريبية المثالية، لأنها تضفي على العقل بإحدى يديها حقوقاً لا حدود لها، وتنزع عنه باليد الأخرى كل هذه الحقوق".
قارن سارتر في كتابه ( نقد العقل الديالكتيكي ) بين الديالكتيك الخارجي والديالكتيك الداخلي.. تجلى الشكل الأول ( التفسير الخارجي ) في سعي أنجلس لإيجاد تناظر بين التاريخ الاجتماعي والارتقاء البيولوجي، حيث "أن العمليات التاريخية محكومة بقوانين التاريخ، مثلما أن الجسيمات محكومة بقوانين الطبيعة". وهذا يعد برأي سارتر انحرافاً وسفاهة سياسية. أما الشكل الثاني ( التفسير الداخلي ) "فإن الديالكتيك الماركسي يرى أن كامل التاريخ الإنساني ينبغي أن يُفهم باعتباره حصيلة للأفعال الإنسانية".
كان المقصد من التفسير الأول ( الخارجي ) هو إقرار أن التاريخ يسير متقدماً وحتمياً نحو غاية بعينها هي؛ الاشتراكية. فيما المقصد من التفسير الثاني هو الإطاحة بفكرة الحتمية، ومن ثم بفكرة القوانين الموضوعية التي تتحكم بحركة التاريخ خارج نطاق إرادة الأفراد والمؤسسات، والتأكيد على أن التاريخ هو فعل الإرادة البشرية، لا غير. وقد أدرك سارتر أن الديالكتيك الداخلي "كما تصوره، لم يقترب قط من البرهنة على أن النضالات الاشتراكية ستتكلل، حتماً، بالنجاح". ويعلّق جوناثان ري على هذا التناقض والصراع بين الفكرتين ( الديالكتيكين ) بالقول؛ "إن الماركسية لم تتطلب أبداً نظرية غائية للتقدم التاريخي، أو مفهوماً عاماً للفعل الإنساني أصلاً وأنها ستكون بخير وعافية دون هذين الاثنين".
يقبل سارتر مبدأ الديالكتيك، وهو؛ "تحكّم الكل في الأجزاء، وميل الفكرة إلى الاكتمال والإثراء، وأن الارتقاء يسير، لا في خط مستقيم مثل ارتقاء العلة إلى المعلول، وإنما في تركيب متعدد الأبعاد تضم فيه كل فكرة في ذاتها جملة الأفكار السابقة عليها..".
يُقبل هذا المبدأ في مستوى الأفكار لأنها تركيبية،ولا يكون هيجل، حينئذ، في منظور سارتر، قد أوقف الجدل على رأسه لمّا "سحبه على الأفكار بدلاً من المادة". فالمادة، بحسب وجهة نظره، تتميز بالعطالة. وإذا كان عصب الديالكتيك هو الفكرة الكلية فإن عالم العلم كمي، والكمية نقيض الوحدة الجدلية لأن عناصرها تترابط بالمعية ( أي أنها موجودة معاً ) "ولا تتأثر الوحدة العددية بوجود وحدة عددية أخرى معها، إنها تظل ساكنة معزولة في قلب العدد الذي تكوِّنه، وهي لذلك يمكن عدّها، وإلاّ فلو كان هناك حادثان يقعان لطرفين بحيث يبدّل كل منهما الآخر لاستحال أن نقول؛ هل نحن إزاء طرفين مستقلين أم طرف واحد". وهكذا يصير العلم نقيض الديالكتيك "فيما يبحث فيه وفي مبادئه ومناهجه".
يناقش سارتر، بعد ذلك، أفكار أنجلس عن الطبيعيات، ومنها فكرة أن أي تغير في عالم الطبيعة هو انتقال من كم إلى كيف.. يقول سارتر "للمشتغل بالعلوم تولّد الكمية كمية، والقوانين العلمية هي صيغ كمية، وليس للعلم أية رموز يعبّر بها عن الكيفية من حيث هي كيفية، وعندئذ فما يقدمه ( أنجلس ) مدّعياً أنه إجراء علمي هو حركة بسيطة لعقله هو، تنتقل من عالم العلم إلى عالم الواقع الساذج، ثم ترجع مرة أخرى إلى عالم العلم وإلى عالم الحس الخالص".
وفي سياق السجال نفسه، وهو يناقش قانون المادية الجدلية الذي ينص أن التراكم الكمي يفضي إلى تغير نوعي، يوضح سارتر أن البحث العلمي "لا يهتم إطلاقاً بتوضيح العبور من الكم إلى الكيف. إن البحث العلمي يبدأ من الكيف ( أو الصفة ) المحسوس بوصفة مظهراً خدّاعاً وذاتياً حتى نجد وراءه الكم ( أو العدد ) بوصفه حقيقة الكون".
في المنظور الماركسي يكون الديالكتيك قد حلّ محل الحتمية الميكانيكية، لكن سارتر يرى أن ماركسياً مثل روجيه غارودي وهو يؤكد هذا الشيء يلجأ إلى تفسير الأشياء والمواقف بالعلاقات السببية السائرة في خط مستقيم "وتفترض الخارجية المطلقة للعلة في علاقتها بنتيجتها".
يفرّق سارتر بين الرابطة العلّية التي تسير في شكل خطي، حيث تظل العلة خارجية بالنسبة لأثرها، ولا تكون في آثار العلّة أكثر مما في العلّة، وبين التقدم الديالكتيكي الذي "يستدير إلى ما تجاوز من مواقف، ويحتضنها جميعاً. والانتقال من مرحلة إلى أخرى يثريه دوماً، فالمركّب يضم دوماً أكثر مما في الموضوع ونقيضه مجتمعين". أما أن تميّل العلم والديالكتيك بعضهما على بعض، كما تفعل المادية، فهذا يعني أن تضم بالقوة منهجين ينفي كل منهما الآخر.
سيقود هذا التخريج سارتر إلى أن يجد في محاولات الماركسيين دراسة الكيانات الفوقية كانعكاسات لطريقة الإنتاج مغالطة وزيفاً. وبعد أن يساجل في إبراز أوجه التناقض داخل النظرية المادية. والالتباس القائم بين التقدم الديالكتيكي والحتمية البيئية واللحظة التاريخية. وأيضاً بإشارته إلى تصوير المادية منهجاً وأسلوب تفكير حيناً، وأسلوب حياة حيناً آخر ( عند الماديين ) سيعد هذا "شكلاً من أشكال التفكير التقليدي ووسيلة من وسائل الهرب من الذات"..
أدرك سارتر طبيعة انتمائه البورجوازي، وما علمته إياه هذه الطبقة ( الحريات السياسية، والحصانة الفردية، وسلطة الذات، الخ ) لكنه كان يشعر بضرورة أن يكون إلى جانب البروليتاريا، يقول: "نحن ما زلنا بورجوازيين بثقافتنا، بطريقتنا في الحياة، وبجمهورنا الحالي، لكن الموقف التاريخي يحثنا في الوقت نفسه على الانضمام إلى البروليتاريا لبناء مجتمع بلا طبقات". غير أنه وفي خضم وقوفه ضد المذهبية الجامدة كان يتهكم من دوغمائية الماديين واجداً في موقفهم تناقضاً صارخاً؛ يقول؛ "ولقد شاهدت أناساً ينقلبون إلى المادية ويدخلونها كما لو كانوا يدخلون ديناً من ديانات الله. وما يفعلونه هنا ليس إلاّ الذاتية التي يستحون منها".
كان سارتر يرفض الربط الحتمي بين الدعوة إلى تحرير الطبقة العاملة والمادية.؛ "أنا أعلم أن لا خلاص للإنسان إلاّ بتحرير الطبقة العاملة. وأنا أعلم هذا دون ما داعِ لأن أكون مادياً، ومن مجرد استقصاء الواقع. وأعلم أن من صالح الفكر أن يكون مع البروليتاريا: لكن هل يستوجب مني ذلك أن أطلب من تفكيري الذي قادني إلى اكتشاف هذه النتيجة أن يحطم نفسه". أي أن يلغي استقلاليته وفعاليته النقدية. ساخراً من أن تتجلى خدمة البروليتاريا في خيانة الحقيقة.. تلك الحقيقة التي عملت الستالينية على حجبها وتشويهها.
ويتلمس سارتر تلك المفارقة في أن تكون النظرية المادية التي شكّلت "إنكاراً راديكالياً لحرية الإنسان قد صارت أكثر الأدوات الراديكالية لتحرير الإنسان". ويذهب في سجاله إلى الحد الذي يقر بوجود "علاقة عميقة بين موقف طبقة مضطهدة وبين التعبير عن هذا الموقف بمذهب مادي". لكننا، يقول؛ "لا نستطيع أن نستخلص من ذلك أن المذهب المادي فلسفة، أو حتى أنه الحقيقة". داعياً في النهاية إلى تخليص المادية من بعدها الأسطوري، ورسم خطوط رئيسة "لفلسفة متسقة تعلو على المادية لمجرد كونها وصفاً حقيقياً للطبيعة والعلاقات الإنسانية".
أخيراً، يمكن الجزم أن سارتر تعامل مع الماركسية، ومع فكر ماركس تحديداً، باحترام فائق، لا بانقياد أعمى، واستثمر أدواته المنهجية في نقد الفكر الماركسي، ولم يكن هدفه تسفيه ذلك الفكر، وإنما تقويمه لأنه آمن بأن الماركسية هي نظرية الطبقة العاملة وفلسفتها في الفعل الثوري، كما هي فلسفة العصر. صحيح أنه حاول في كتابه الذائع الصيت ( نقد الفكر الديالكتيكي ) دحض فكرة ديالكتيك الطبيعة والحتمية التاريخية، وفكرة وجود قوانين موضوعية خارجية تسيّر التاريخ الإنساني، فاسحاً الفرصة للوعي والإرادة الإنسانيين في صنع التاريخ. وانتقد، في مقالات ودراسات عديدة أخرى، بشدة كل ما يتعلق بمصادرة الحرية الفردية داخل الإطار البيروقراطي للدولة الستالينية، والممارسات الاستبدادية لتلك الدولة في علاقتها مع مواطنيها، ومع الدول التي كانت يومها في ضمن المعسكر الاشتراكي، ولاسيما خلال أحداث المجر وبولونيا وربيع براغ. إلا أنه بقي مخلصاً للطبقة العاملة ونضالها ضد الرأسمالية. وللماركسية بوجهها الإنساني، ولفكر ماركس الذي عانى من تشوهات المريدين الدوغمائيين وحماقات التطبيق.
أهم المصادر؛
1ـ مؤلفات سارتر؛ ( المادية والثورة ) وترجمة ثانية للكتاب بعنوان ( الماركسية والثورة ). ( قضايا الماركسية ). ( شبح ستالين ).
2ـ كتاب ( أقدّم لكم سارتر ) فيليب تودي وهوارد ريد.. ترجمة؛ إمام عبد الفتاح إمام.. المجلس الأعلى للثقافة/ مصر 2002.
3ـ ( ما بعد الماركسية: ندوة أبحاث فكرية ) إعداد: فالح عبد الجبار.. دار المدى ـ دمشق.. ط1/ 1998.



#سعد_محمد_رحيم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ما بعد ماركس.. ما بعد الماركسية 4 مدرسة فرانكفورت ونقد أسس ا ...
- ما بعد ماركس.. ما بعد الماركسية 3 غرامشي.. لوكاش
- ما بعد ماركس.. ما بعد الماركسية 2 من كاوتسكي ولينين إلى الست ...
- ما بعد ماركس.. ما بعد الماركسية: 1 مدخل
- مأزق النقد
- بين الرواية والفلم
- امرأتان وثلاثة رجال ( قصة قصيرة )
- في مديح القصة القصيرة
- كتب قديمة مستعملة
- الغموض في القصص
- مع محيي الدين زنكنة.. خواطر وذكريات
- القابض على الجمر.. يوميات قاسم عبد الأمير عجام
- أنْ نأسر المكان داخل النص: قراءة في -خرائط منتصف الليل- لعلي ...
- إدوارد سعيد: المنفى والهوية.. الأنا والآخر
- تمثلات النهضة: 4 معوقات النهضة في العراق، ونقد مشروعها
- تمثلات النهضة: طبيعة ثقافة النهضة في العراق ومعضلة الهوية
- تمثلات النهضة 2 ثقافة النهضة والمثقفون والدولة
- تمثلات النهضة 1 المنهج والمفاهيم وحدود البحث
- أفق النهضة وأسئلة الحداثة: قراءة في كتاب ( نحو وعي ثقافي جدي ...
- عن أدب اليوميات


المزيد.....




- رجل وزوجته يهاجمان شرطية داخل مدرسة ويطرحانها أرضًا أمام ابن ...
- وزير الخارجية المصري يؤكد لنظيره الإيراني أهمية دعم اللبناني ...
- الكويت.. سحب الجنسية من أكثر من 1600 شخص
- وزير خارجية هنغاريا: راضون عن إمدادات الطاقة الروسية ولن نتخ ...
- -بينها قاعدة تبعد 150 كلم وتستهدف للمرة الأولى-..-حزب الله- ...
- كتاب طبول الحرب: -المغرب جار مزعج والجزائر تهدد إسبانيا والغ ...
- فيروز: -جارة القمر- تحتفل بذكرى ميلادها التسعين
- نظرة خلف الجدران ـ أدوات منزلية لا يتخلى عنها الألمان
- طائرة مساعدات روسية رابعة إلى بيروت
- أطفال غزة.. موت وتشرد وحرمان من الحقوق


المزيد.....

- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي
- الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا ... / قاسم المحبشي
- الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا ... / غازي الصوراني
- حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس / محمد الهلالي
- حقوق الإنسان من منظور نقدي / محمد الهلالي وخديجة رياضي
- فلسفات تسائل حياتنا / محمد الهلالي
- المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر / ياسين الحاج صالح
- الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع / كريمة سلام
- سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري - / الحسن علاج


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - سعد محمد رحيم - ما بعد ماركس.. ما بعد الماركسية 5 سارتر والماركسية