|
مشهد بعنوان مصير الشيطان
هيثم نافل والي
الحوار المتمدن-العدد: 3285 - 2011 / 2 / 22 - 18:44
المحور:
الادب والفن
الإهداء إلى المرآة العظيمة ، التي شئنا اليوم أن نجعلها من الأحرار . إلى ذلك الرجل الذي ولدَ في الحياة بلا حواس ، سوى الأبصار ، شيطان بجسد إنسان ، ومن زمرة الأشرار . إلى قطبي الكائنات في الكون ، أرفع هذا المشهد ، لعلهم يدركون . قبلَ وأثناء حرب الخليج الأولى ، عاشَ عزيز سلام ، معَ زوجته إلهام أياد ، في مدينة بغداد ، لا يملكون في حياتهم ، سوى كرامتهم وعزة نفسهم التي توارثوها بجدارة عن أجدادهم . كانَ يحيى وحيدهم ، عاشَ وشّبَ على الدلال المفرط ، خاصةً من أمه ، لا يرفض له طلباً مهما كان ، ومرات ، قبلَ أن يشير إليها بأصبعه الصغير ، يعمل أبيه الصائغ بورشة تابعه له ، في نفس المنطقة التي يسكنها ، يصوغ فيه خواتم الزواج الرجالية ، التي يصنعها من مادة الفضة ، وينقشها من الداخل أسم الزوجة وتاريخ الزواج ، بيده الخشنة ، التي يظهر عليها آثار جراح قديمة مازالت لم تندمل بعد ، لاستعماله أدوات الصياغة البدائية التي لا يفكر بتغييرها لنقص المال ، لذلك كانَ يصوغها بطرقها ومعالجتها حرارياً في نفس الوقت ، بينما ينقش الأسماء والتواريخ بقطعة حديدية مدببة من طرف واحدة ، غالباً ما تنزلق أثناء النقش جانباً ، فتأكل من لحم يده أكثر مما تحفره في فضة الخواتم ، بينما كانت أمه ربت بيت وعلى قدر بسيط من التعليم ، تتعامل مع من يحيطون بها بالفطرة ، لا تطمح إلا لإسعادهم لتعيش لأجلهم ، كراهبة . عاشَ يحيى بلا كفائه تذكر ، واستمرَ يأخذُ مصروفه اليومي من أبيه ، وفي إحدى الأيام التي كانَ يقضي فيها عطلته الربيعية في منطقة الحبانية ، معَ أصدقائه ، للترفيه عن نفسه ، بعد فصل دراسي منهك !!، وعلى شاطئ البحيرة الجميلة آنذاك ، تعرفَ على طيف قاسم ، والتي تعتنق نفس ديانته ، وهذا ما شجعه أكثر ، ليقدم على الخطوة التالية ، وهو يعلم علم اليقين ، بأن في مجتمعه الضيق ، لا يعترفون ولا يسمحون ، بالعلاقات التي تسبق الزواج ، فطيف كانت بالنسبة له ، حلم يراه في الحقيقة ، تلك الشابة الجميلة ، ذات العيون الخضراء ، بلون الشجر ، أنجذبَ لها ، لتبادله الشعور ذاته وبنفس التطرف ، ليكونا بعد ثلاثة أشهر من تعارفهما خطيبين ، دونَ تخطيط مسبق لحياتهم القادمة ، بعد أن أقنع ذويه بخبث وحيلة ومكر الثعلب ، بجدوى الزواج المبكر !، سمعهُ الأب وهو صامت لا يعرف ماذا يجيب ، بينما فرحت الأم بطيبتها الساذجة بقرار أبنها الوحيد . لم يعيش بعدَ زواجه أكثر من تسعة شهور في منزلهم القديم ، ليقرر فجأةً السفر إلى خارج العراق برفقة زوجته ، على الرغم من أنه مازالَ طالباً جامعياً . صعقت الأم بالخبر ، وبدأت توسلاتها المكوكية أولاً مع الزوجة ، وعندما لم تصل معها إلى أي أتفاق ، ولم ترى فيها إذنٍ صاغية ، استغفرت ربها ، وقالت في سرها : مسكينة لا تعلم ماذا ينتظرها هناك في الغربة . ثمَ حاولت معَ أبنها تترجاه بقلب يعصرهُ الألم ، في كل كلمة تنطقها : يا بني لا تجعل حسرتي عليك تؤكلني ، فأنا لم أعيش إلا من أجلك ، لا تفكر بأنانية الطفل ، فكر بأبيك المريض الذي أصبح نظره ضعيف جداً ، لا يرى الخواتم التي يصوغها إلا بشق النفس ، وأنا ماذا تظنني ؟، كيفَ سأعيشُ بدونك ؟، هل فكرت بنا ؟، لا تكن قاسياً كالصخر ، أتوسل إليك بأن لا ترحل وتتركنا ، لا تقتلنا في الحياة ، أرجوك ، وأجهشت في البكاء المر الذي يقطع أوصال من يراها ، إلا أبنها الجامد كقالب من الثلج ، يسمعها ويراها تبكي وتنتحب ، وهو يتأفف من الضجر !. سمعَ الأب بالخبر ، فأوصى أبنه بأن يزوره في ورشته ، بعد انتهاء دوامه الرسمي ، كي لا تسمع الأم ما سيدور من حديث ، فيؤذيها ، أنتظر الأب طوال النهار ، ولم يأتيه !، وفي المساء كررَ طلبه ، بعدَ أن تعذر يحيى بأسباب وجدها والده بأنها واهية وغير مقنعة ، لكنه لا يملك الكثير من الأوراق في يده ، وهو يعلم بأنه يستطيع السفر دونَ الرجوع إليهم ، رغم ذلك أصّرَ على مفاتحته بالموضوع لعله يتراجع فيغير رأيه ، لكن انتظار الأيام القادمة لم تجدي نفعاً ، وفهم الأب تلك النوايا على أنها أجوبة صريحة ، لا يريد المواجهة في موضوع قد حسم وأصبحَ في حيز التنفيذ ، فأجبرهم على الخضوع ، وهم صاغرون . ودعتهم الأم بالدموع ، والأب بالأحضان والقبل ، بينما يحيى يستعجل الوقت ويأمر زوجته صارخاً ، هيا يا طيف ، سنتأخر على موعد الطائرة ، ألم تنسي شيئاً ؟ ، هلً أخذتِ معك كل أشياءك الثمينة ؟، لأننا قد نحتاجها هناك ، من يعلم ؟!، وأنتَ يا أبي لا تنسانا ، فأننا هناك سننتظر ما ستبعثه لنا من مال ، سأتصل بكم ، كلما احتجتُ إلى شيء ، أوعدكم بذلك ، هيا يا طيف فالطائرة .... - معَ السلامة يا أبني ، كن حذراً ، وأعتني بنفسك وبزوجتك جيداً ، وأتصل بنا كلما سمحت الظروف بذلك ، أرجوك ، وهي تودعه ، أجهشت بالبكاء ، تجعل من يراها ، يموت آلاف المرات ، إلا أبنها !. سافرَ يحيى وهو مازال بعد لم ينهي دراسته الجامعية ، بينما كانت زوجته قد أنهت دراستها الإعدادية ، لتبدأ حياتهم الجديدة في مدينة نيويورك الأمريكية ، وسط انبهار وتعجب استمرَ لعدة أسابيع ، فالحضارة الحديثة ، والبنايات الشاهقة ، والشوارع المزدحمة ، لقد كانت المدينة تبدو لهم وكأنها تدور ، كل شيء فيها يجري بسرعة حتى الأطفال الذين مازالوا يحبون !. اضطروا للعيش على ما تقدمه لهم بلدية المدينة من معونات ، تلك التي تقدم للذين هم تحت خط الفقر ، بالإضافة إلى دعم الكنيسة ، ذلك بتزويدهم بالمواد الغذائية التي نفذ تاريخ صلاحيتها ، ولكنهم يوزعونها للفقراء ، حتى تعود يحيى بالوقوف في طابور طويل مرة كل بداية أسبوع للتزود بما يفيض من تلك المواد . فكرَ يوماً بالاتصال بأهله ، عندما بدأ الجوع ينهشُ بطونهم ، بعد أن فشلت كل محاولاته للحصول على فرصة عمل يعيشون منها ، خاصة وأنه لم يكمل دراسته الجامعية ، أنتظرَ ذلك اليوم لحين قدوم المساء في توقيت بغداد : - الو...... مرحباً يا ماما ، أنا يحيى - نعم يا حبيبي ، كيفَ هي صحتك ، وكيفَ حال زوجتك ، ألم تصبح زوجتك حامل بعد ؟، هل تأكلُ جيداً ؟، قل لي بصراحة ولا تخبئ شيء على أمك يا ولد !. - نحنُ ، ..... نحنُ بخير يا ماما ، وكيفَ حالَ أبي ، قولي له أرجوكِ بأننا نحتاج إلى بعض المال ، والعنوان قد أرسلته في رسالتي الأخيرة لهذا الغرض ، أرجو أن يعجل الإرسال يا ماما . - الو .... الو ... أنقطع الخط ، ولم يقل أي كلمة وداع ، لا أحبك يا ماما ، ولا أي كلمة اشتياق !. قد لا يملك حق الاتصال ؟، لذلك أنقطع الخط ، لم يعطني الفرصة للكلام ، كي أخبره بما حصل ، ولكنه كيف سيقع الخبر عليه ؟، لا ، لن أخبره ، آه يا ربي ، ماذا يمكن لي أن أفعل ، أنه رجل وعليه أن يتصرف أيضاً كالرجال ، لكنه وحيدي وأخافُ عليه ، لم أعد أملك في الحياة سواه ، آه ، رأسي يكاد ينفجر ، يا ألهي ..... ( هكذا كانت تكلم نفسها كالمجنونة ) . بعدَ ثلاثة أسابيع ، عاودَ الاتصال مجدداً : - الو .... مرحباً يا ماما ، نحنُ مازلنا ننتظر المساعدة ، ألم يرسل أبي شيئاً ؟. - .......... سكون ، كصمت القبور ، بلا جواب . - الو ، ماما هل تسمعينني ؟. - نعم يا أبني أسمعك جيداً ، ولكن ........ فضحها صوتها المرتبك ، فبكت بصوت موجع ، كمن يقطع أصبعه دونَ مخدر !. - ماما ، ماذا حدث ؟، تكلمي أرجوك ، هل أبي بخير ؟ - ( بصوت مرتجف كرنة الجرس ، وبنبرة حزن عميق كمن يؤذن ، وبحسرة خانقة كالمرء الذي يشعر بأنه سيموت بعد ساعة )! ، أردفت : أبوك يا بني ، ...... قد ..... قد ماتَ قبلَ خمسة وعشرونَ يوماً ، ودفن في مقبرتنا ، وقد تصرفت بورشته كي أسدد تكاليف الدفن ، حتى أنها لم تكفي ، ولم يسوى قبره سوى بحفنة من التراب ، دون زهور يا يحيى ، هل سمعت دون زهور .... وأجهشت في البكاء مجدداً . - الو .... ماما ، أرجوكِ أن تتحلي بالصبر ، وأن تمسكي أعصابك ، فالوقت يجري ، والمكالمة تكلفني كثيراً ، يا أمي ، أرجو أن تركزي معي ، وقولي لي بسرعة ، ماذا ترك لنا أبي ؟. - نعم يا بني ، أنا أتفهم ظروفكم جيداً ، لكن أبوك لم يترك لنا ما هو ثمين ، وأنتَ تعلم ، بأنَ الفضة التي كانت بحوزته ، لا تساوي شيئاً يذكر الآن ، وأدوات الصياغة التي يمتلكها كلها قديمة والصدأ يملئها ، فكل هذه الأشياء لا تساوي اليوم حق كيس من الطحين الأسمر المخلوط بالنخالة ، آه يا بني ، ماذا أقول لك ، الأمور لم تعد كما كانت عليه في السابق ، وعلى الرغم من أنك لم تتركنا سوى ستة أشهر ، ولكن كل شيء قد تغير هنا وبسرعة ......!.
- الو ماما ، سأضطر لغلق الخط ...... ينقطع الخط ، دون أن يودعها ، وهي مازالت تتحدث ........... - معَ السلامة يا بني ، اعتنوا بصحتكم أرجوك ، أفعل ذلك لأجلي ، وأعلم بأني أحبكم كثيراً جداً ، أجهشت في البكاء المتواصل ، كما يبكي الطفل ، وأردفت : لقد أصبحت وحيدة يا بني ، لا أحد باتَ يتكلم معي أو يسمعني ، سوى الجدران ، حتى أنني بتُ أصدقُ ، أنها فعلاً تتحدث معي ، وتعيد عليّ كل ما أقوله !، أشعر بأنها تتألم لآلامي ، بل حتى أنها تبكي معي !، فأشعر بدموعها ندية ورطبة عندما ألمسها بحنان أم ، براحة يدي ! . إلا تصدقني ؟، ماذا دهاك يا بني ؟ لقد باتت كلماتك قاسية كضربات السوط ، وثقيلة كالحجر على قلبي ، أريد أن أتكلم معك إلا تشعر أنت بهذه الحاجة ، أأصبحَ قلبك إلى هذا الحد صلداً كحجر الصوان ؟، لا أريد منك شيئاً سوى التحدث معك ، هل هذا كثير ، أنا أمك يا يحيى ، هل تفهم ما يعني هذا ؟ ، حتى أني ترددتُ في رفض عرض جارتي الطيبة أم عماد ، لأنَ هذا لا يرضي الله ولا أحداً ، فهي مسئولة عن أسرة كبيرة ، ولها طفلٌ مريض بالربو، قد يختنق في أي لحظه ، حتى أبنها عماد الموجود في إيطاليا ، تأخر عن إرسال الأدوية الضرورية له ، وهي قلقة جداً هذه الأيام وتكاد تجن ، كيف يمكن لي قبول عطفها ؟! ، حينَ قالت : لو أحببتِ أستطيع أن أبقى معك أثناء الليل . تتحدثُ معَ نفسها ، كأنها تحضر روح لعزيزٌ لها ، أدركها النعاس ، فغفت معَ حزنها ووحشتها ، ببراءة طفل وهي جالسة بلا ظل !. بدأت الأم تعاني الوحدة القاتلة ، سماعها الأصوات ليلاً جعلها قلقة ، لا تستطيع النوم ، حتى أنها بدأت تصدق الأوهام ، كأنها حقيقة تنظر لها كالمرآة ، قطع عنها النور ، بسبب تأخر الدفع ، استعاضت عنه بوهج الشموع ، حتى ثقب الباب بدا لها في الليل ، مثل عين وحش يترصد حركاتها ، باتت تتقلب في السرير وكأنها نائمة على جمر ، أصبحت هزيلة ، كبالونه أفرغت تواً من الهواء ، وعيونها ملتهبة حمراء بلون الدم ، أنهكها السهد ، لتنهض في صباح اليوم التالي تستقبله ، كي تبيع فيه قطعة أخرى من أثاث منزلها ، بعدَ أن بدأت ببيع جهاز التلفاز ومن ثم كانت قد تصرفت بطاولة الطعام والكنبة والأسرة واحداً تلو الآخر وحتى المذياع الكبير المستقر على الرف ، الذي شاطرهم حياتهم . استقطعت جزء من المال الذي باعت به تلك الأشياء لتشتري فيها بطاقة كي تتصل بابنها . - الو ... نعم يا ماما إني أسمعك !. - حبيبي ، كيف صحتك وكيفَ هي زوجتك ، لم تعد تتصل بي ؟، هل نسيتني يا بني ؟، أرجوك أبقي الخط مفتوحاً ليلاً ، فأنا بدأت أشعر بالخوف هنا بمفردي ، أريد أن أسمع شهيقكَ وزفيرك ، كي أشعر بالأمان ، وأعدُ نبضات قلبك لأنام ، أرجوك أنا سأتحمل تكاليف المكالمة ، لا تقلق من ذلك ، لن أكفلك شيئاً ، يا حبيبي أريدك فقط أن تكون معي ، فالوضع هنا قد تغير كثيراً ، هناك من يريد سرقتي أو قتلي ، أراهم في كل ليلة يحومونَ حول المنزل ، صدقني يا ولدي ....... ترتجف وتتلوى ، كطير مذبوح . - ماما ، أرجوكِ وصلي لي سلامي إلى صديقي جبار ، أنتِ تعرفينه ، أنه زميل الدراسة ، قولي له أنني مشتاق جداً لتلك الأيام التي قضيناها معاً ، أنها أيام لا يمكن نسيانها ، سأحاول الاتصال به قريباً ، حين يكون لدي بعض المال ، لا تنسي يا ماما ؟، لأجلي ..... وينقطع الخط مجدداً دونَ مؤاساة أو كلمة حب أو حتى وداع . - سأذهب إليه اليوم بعد الظهر يا ولدي ، لا تقلق ، سأفعل ذلك من أجلك ، ما دامَ الأمر سيجعلك سعيداً وراضياً ، لكنك لم تقل لي ، هل أستطيع أن أكون بجانبك ليلاً ؟، فأنه سيأتي وسيجلب معه الخوف ، هل تعلم ماذا يعني الشعور بالخوف لامرأة بسني ؟ أراك كالصنم بلا عواطف ، ماذا جرى لك ؟، نسيت اهتمامي بك وسهري الليالي ؟، أجبني بالله عليك ولا تجعلني أكلم نفسي كالمجنونة ، ماذا .... ها .... لماذا لا ترد ، هل أنت شيطان بجسد إنسان ؟ لا أنت يحيى أبني ، حبيبي ، تنتحب ، ترتجف ، تبكي بلا صوت ، تغمض عينيها ، تنكسُ رأسها فتغفوا وهي جالسة كالميت . كبرت في الستة أشهر الأخيرة ، كما لو أنها ستينَ عاماً ، أنتشر الشيب في رأسها فجأةً ، وبسرعة غريبة ، كما تنتشر الغيوم الملبدة بالأمطار في شهر نيسان ، أنحنى ظهرها ، ليصبح كقوس الرماية ، فتبدو للناظر ذابلة ، كزهرة قطفت قبلَ أيام . كبَر القلق في داخلها ، كما يكبر الجنين في رحم أمه ، باعت أبريق الشاي الذي كانت تحتفظ به ، وقالت تحدثُ نفسها وهي منهكة : ماذا يعني أبريق الشاي بالنسبة لي ؟، لا شيء ، فأنا لم أحضر الشاي منذُ موت زوجي ، ولا أرغب باحتسائه بدونه ، إذن لا جدوى من الاحتفاظ به !. واشترت بثمنه بطاقة كي تتصل بابنها الذي لم تسمع صوته منذ مدة : - الو ، بصوت متثائب ، منْ هناك ؟ - أنا أمك يا نظر عيني . - أه يا أمي ، هل تعلمين كم الوقت الآن ؟ - لا يا ولدي ، فعندنا هنا مازالت الشمس تلعب معَ الأطفال ، فالطفل يحاول أن يهرب من ظله ، لكن الأخير يلاحقه بإصرار لا يعرف التعب ، مثلي يا ولدي !. - نعم يا أمي ، نعم ، ولكني متعبٌ جداً الآن ، لأنني قضيت اليوم بطوله في المستشفى مع زوجتي ، لقد سقط الجنين للمرة الثالثة ، هل عرفت الآن لماذا أنا متعب ، وأرجوكِ يا أمي لا تلاحقينني كالظل ، فأنا لم أعد طفلاً ، سأتصلُ بكِ غداً ، أوعدكِ بذلك ، يغلق الخط ....... - انتظرتُ مكالمتك طويلاً يا بني ، وبعتُ آخر أبرق احتفظتُ به ذكرى من أبيك ، كي أتصلُ بك . أن داخلي يا ولدي قد حطمته ، كما يتحطم الزجاج ، والجراح في داخلي تنزف شوقاً لك ، هل تسمعني يا ولدي ؟ أن حبك يأكلُ قلبي ، كما تأكل آفة السرطان جسم الإنسان ، فأنا لم أطهي الطعام منذُ أيام ، ولا أرغب الأكل بمفردي ، لا أريد إلا أن أكون بجانب أبيك ، لقد اشتقت إليه كثيراً ، لم أعد أطيق الانتظار ، ما رأيك أنت ، هل تسمعني ؟. باعت فراشها ، لتفترش الأرض ، وتلتحف السماء ، كي تشتري بإصرار مرة أخرى بطاقة ، فتعاود مجدداً ودونَ ملل الاتصال ، وهي تشعر بأنها لم تعد تقوى على الحركة أو حتى الكلام ، ونهايتها باتت مجرد لحظات ، ولكنها تريد سماع صوت أبنها ، قبل أن ترحل وإلى الأبد . - الو ، نعم يا أمي لقد عرفتكِ مباشرةً ما وراءك ؟. - إني جائعة يا ولدي ، وخائفة ، أشعر بالهزال الشديد ، لم أعد أقوى على الوقوف ، بالله عليك لا تغلق الخط ، بالله عليك........... ينقطع الخط . فتسقط سماعة الهاتف من يدها الصغيرة المرتعشة ، تتوقف الحياة في قلبها ، كوردة قطعت من غصنها. في هذه اللحظة ، كانت زوجته تنظر له جامدة كعمود ملح ، كزوجة لوط ، ، تنظر له بعيون ثاقبة ، مثل عيون الصقر ، فأدارَ رأسهُ نحوها وسألها : لا تتأثرين يا زوجتي العزيزة على سقوط الأجنة ، نحنُ ما زلنا شباباً ، والحياة ما زالت أمامنا طويلة ، لا تيئسين من رحمة الله . وعندما لم تبدي أي حركة ، تقرب منها ، رفعَ يدها ، فسقطت من تلقاء نفسها ، كجلدة السوط ، وأحسَ ببرودة جسدها الجامد كالثلج !، رجعَ إلى الوراء مذهولاً ، يشد شعره بقوة دون شعور ، وبدأ بنبحُ كالكلب : ماذا يا حبيبتي ، هل سترحلين وتتركيني ، هكذا ؟، لا لن أسمح لكِ ، ها .... لن أسمح لك ، ماذا ، أين الهاتف ، يلتفَ حول نفسه كالمجنون ، يصرخ عالياً ، تباً ، أين الهاتف ، لقد كانَ للتو هنا ، يجده ويطلب أمه ..........................ما من أحد يجيب . يفقد أعصابه ، يرمي السماعة بقوة على الحائط ، فتتحطم ، يبكي بهستيريا وكأنه في كابوس يرى رأسه في يده ! ، وهو يعوي كالذئب ، لماذا لا تردين علي يا أمي ....... ها ........ لماذا ؟ أنا خائف يا أمي ، فزوجتي تنظر لي ، لكنها يابسة وصلبة كصارية مركب ، ماما أجيبيني ، قولي لي بأنكِ مازالت تحبينني ؟ قولي أي شيء ، أريد أن أسمع صوتك الملائكي كي أشعر بالراحة ، أني أجن يا أمي ، أجن ، ويجهش بالبكاء ويضرب رأسه بالجدار المقابل له بقوة ، ينزف ، فتنزلقُ الدماء سريعاً على وجه ، يفضُ ملابسه دون فتح أزرارها ، كالسكران ، ويخرجُ إلى الشارع عارياً ، يصرخ بتضرع أماه ، أماه أجيبيني ، أنني خائف ، أني وحيد ، أنني شيطان ، نعم يا أمي أنا شيطان ، لكنني أبقى أبنكِ ، هل تسمعينني ؟........................................................................... في نفس تلك الليلة .............، دخلَ أثنين من السارقين وهم جياع ، إلى أحد إلى منزل عزيز سلام - أرى المنزل مظلماً كالقبر ( قالَ أحدهم ). - أجابهُ الآخر مرتبكاً ، نعم ، ورائحته نتنة كرائحة جثة متفسخة . - يرتطم الأول بشيء في الأرض ، ويقول ما هذا ، كأنه صرة مليئة بالخشب . - لنحملها إلى الخارج ، لعلنا نجدُ فيها كنزٌ ثمين أو شيءٌ يأكل ؟!. يحملونها ، وعند عتبة الباب الخارجي من المنزل ، ينظرون لها ، وإذا بهم يفاجئون بجثة امرأة ، يتلفتون حولهم بهلع ، لا يعرفون ماذا يفعلون !، فشاهدتهم الجارة أم عماد ، فزعت صارخة في وجههم ، ماذا أرى ؟ من هناك ؟ ماذا تحملون دعوني أتأكد بنفسي....................!!. تتقدم أم عماد نحو السارقين ببطيء شديد كالضرير ، فتصعق صارخة ، وهي تضربُ صدرها بيدها ، فتنوح بصوتٍ موجع : إلهام يا عزيزة قلبي ، ومهجة عيني ، لقد كنتِ ظلاً لأجسادنا وصدى لكلماتنا ، هكذا تكون نهايتك على يد الشيطان ؟ ........... ماتت الأم العظيمة الصابرة . بعدَ معاناة كبيرة ، نتيجة حب عظيم ، منحته إياه ، استحقت عليه الموت الذليل ، بعد رحلة عذاب وجوع ومهانة تلقتها من فلذة قلبها ، ولو كانَ صدرها قد أنفجر ، لأغرقَ الدنيا بالوحشة ، اشتياقاً لأبنها الوحيد . روت أم عماد للسارقين الجياع ، الحكاية ، وهي في حالة من الذهول ، بقلب يعصرهُ الألم وعيون حمراء ، فاضت الدموع . يطبقُ صمتٌ عميق ورهيب للحظات ، يتفرس كل منهم الآخر ، تكاد تنطقُ نظراتهم بسؤالٍ واحد : جثة إلهام ؟. فاتفقوا على دفنها بجانب زوجها في مقبرتهم غرب بغداد ، دونَ الشيطان !.
#هيثم_نافل_والي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قصة قصيرة بعنوان الصرخة
-
قصة قصيرة
المزيد.....
-
وفاة الأديب الجنوب أفريقي بريتنباخ المناهض لنظام الفصل العنص
...
-
شاهد إضاءة شجرة عيد الميلاد العملاقة في لشبونة ومليونا مصباح
...
-
فيينا تضيف معرض مشترك للفنانين سعدون والعزاوي
-
قدّم -دقوا على الخشب- وعمل مع سيد مكاوي.. رحيل الفنان السوري
...
-
افتُتح بـ-شظية-.. ليبيا تنظم أول دورة لمهرجان الفيلم الأوروب
...
-
تونس.. التراث العثماني تاريخ مشترك في المغرب العربي
-
حبس المخرج عمر زهران احتياطيا بتهمة سرقة مجوهرات زوجة خالد ي
...
-
تيك توك تعقد ورشة عمل في العراق لتعزيز الوعي الرقمي والثقافة
...
-
تونس: أيام قرطاج المسرحية تفتتح دورتها الـ25 تحت شعار -المسر
...
-
سوريا.. رحيل المطرب عصمت رشيد عن عمر ناهز 76 عاما
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|