|
أخشى من إجهاض الانتفاضة التونسية
عبد الحسين شعبان
الحوار المتمدن-العدد: 3285 - 2011 / 2 / 22 - 17:30
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
• أهلل لفوز إرادة الجماهير • أخشى من إُجهاض الإنتفاضة أو اختطافها أو إشغالها بصراعات ثانوية • أدعو إلى تأمين العدالة الإنتقالية وجبر الضرر وتعويض الضحايا والإبتعاد عن الثأر والكيدية والإنتقام • أميل الى التسامح دون نيسان الإرتكابات • الإنتفاضات تجاوزت القيادات التقليدية القومية واليسارية والدينية والشباب هم قادتها ووقودها حاورته: الصحافية إيمان الجابري – مجلة حقائق(تونس)-خاص
قال المفكر والأكاديمي العراقي الدكتور عبد الحسين شعبان أن الانتفاضات الجماهيرية العربية كانت اقرب الى المفاجآت، نظراً للركود النسبي الذي دام سنوات غير قليلة بسبب سياسة القمع وكبت الحريات. وأضاف استاذ القانون الدولي ومدير المركز الاقليمي للقانون الدولي الانساني في حوار خاص مع مجلة الحقائق أن سدى الانتفاضات ولحمتها كان عنصر الشباب الذي يمتاز بالحيوية والشجاعة والإقدام، وعلى الرغم من تأييده اللامحدود للحركة الاحتجاجية، إلاّ أنه أعرب عن خشيته من اختطافها أو إشغالها بصراعات ثانوية. وحذّر المفكر العربي الكبير شعبان انطلاقا من تجربته الخاصة من النزوع الى الانتقام والثأر والكيدية، ودعا الى التسامح وتأمين العدالة الانتقالية. وفيما يلي نص الحوار: * كيف تنظرون إلى ما يحدث في الشارع العربي اليوم وهو يشهد حالة من الحراك السياسي الملموس متمثلاً بالانتفاضات والاحتجاجات ومجابهة الأنظمة الاستبدادية ؟ لا شك أن ما يحدث في الشارع العربي هو حالة صحية بعد فترة ركود نسبي دام لسنوات غير قليلة. ما حدث كان أقرب إلى المفاجآت، فالتحركات الجماهيرية العارمة أعادت إلى الذاكرة الجمعية فترات النهوض الشعبي العربي، لاسيما في مواجهة الاستعمار من أجل الاستقلال والحريات والانعتاق. وهناك من اعتقد أن الجماهير قد تمّ تخديرها أو ترويضها بما في ذلك تدجين بعض النخب الفكرية والثقافية وتوظيفها لحرق البخور للسلطان وتزويق خطابه الإيديولوجي أو الديني كجزء مكمّل وموازي للقمع البوليسي، وأعلن بعضهم انتهاء عصر الجماهير، وإذ بنا أمام هبّة شعبية عربية تكاد تكون شاملة، كانت شرارتها الأولى إحراق البوعزيزي نفسه في مدينة سيدي بو زيد احتجاجاً على البطالة وهدر الكرامة، وقد سرت تلك الشرارة مثل النار في الهشيم من سيدي بو زيد إلى القصرين إلى تونس وشملت جميع القطاعات الشعبية. وكان سدى الانتفاضة ولحمتها عنصر الشباب الذي يمتاز بالحيوية والشجاعة والإقدام، فنزل إلى الشوارع معتصماً لأيام متواصلة ودون انقطاع مما اضطّر نظام بن علي للرحيل يوم 14 كانون الثاني (يناير)، لاسيما بعد استنجاده بالجيش الذي لم ينجده، حتى أن أصدقاءه الفرنسيين والغربيين تخلّوا عنه في اللحظة الأخيرة. ومن تونس انتقلت الشرارة إلى مصر وبين القاهرة والإسكندرية والسويس وغيرها اشتعلت الهبّة الجماهيرية يوم 25 كانون الثاني (يناير) وتصاعدت حتى بلغت يوم الثلاثاء الأول من شباط (فبراير) أكثر من مليون متظاهر في القاهرة وحدها إضافة إلى الإسكندرية ومدن أخرى، وشهد عدد من البلدان العربية حراكاً جماهيرياً واسعاً بسبب أزمات ونقمة سياسية واقتصادية تتعلق بالفساد وشحّ الحريات وتدنيّ الحالة المعاشية، كما هو الحال في الجزائر واليمن والاردن وليبيا وغيرها، إضافة الى إيران من دول الجوار. ولعل أبرز ما تميّزت به هذه الحركة الشعبية التي فاجأت العالم أجمع هي أنها نظمت نفسها بنفسها متجاوزة القوى التقليدية الأيديولوجية القومية والدينية واليسارية، وكان الطابع العام والغالب للتحرك الشعبي عفوياً، كما كان للإعلام وتكنولوجيا الاتصالات دوراً مهماً، فلم تعدْ أية وسيلة قمعية قادرة على الوقوف في وجه التكنولوجيا الحديثة التي تمكّنت من تخطّي الزمان والمكان ونقل الصورة والصوت إلى أقاصي الدنيا في لحظات قليلة من وقوع الحدث، عن طريق الفايس بوك والتيوتر والانترنيت والهاتف النقّال، لتخرج صورة البوعزيزي بثوان من سيدي بوزيد إلى كل مدينة وقرية وشارع في تونس والعالم أجمع لتشتعل ثورة الغضب وتؤدي إلى رحيل الرئيس بن علي، وهو الأمر الذي تكرر على نحو تعبوي هائل في مصر، حيث لعب الإعلام دوراً مؤثراً في التهيئة والتنظيم وسرعة الانتشار. والدلالة الأخرى تكمن أهميتها في أن التونسيين نجحوا في تحقيق ثورة سلمية بامتياز، بوسيلتها الناجعة وهي اللاعنف، وهذا إن دلّ على شيء إنما يدلّ على بلوغهم مرحلة من الوعي والثقافة والوطنية لحماية الوطن من الاحتراق وصون الدماء الوطنية. وقد آن الأوان للملمة الوضع وتضميد الجراح والتخلّص من مظاهر التخريب والعبث واليأس، والسير إلى الأمام، فنصف الانتصار قد تحقق ومهمة البناء والتنمية والديمقراطية والرفاه ستكون طويلة وهي النصف الأهم من المعركة. أضف إلى ما سبق دلالة هامة ألا وهي الوحدة الوطنية التي تجمع كل التيارات والقوى بمختلف مشاربها وتوجهاتها الفلسفية والسياسية، تلك التي ساهمت في إنجاح المدّ الجماهيري، لاسيما بوحدة الهدف وعدم تجزئة المطالب، فقد التقت الأحزاب والقوى السياسية والمدنية حتى الآن على أهداف مشتركة، على الرغم من تباين وجهات نظرها وبذلك فوتت الفرصة على السلطة لاستعداء بعضها ضد بعضها الآخر. وقبل كل ذلك فقد كشفت أحداث تونس عن مدى استهتار "الأنظمة" بإنسانها المثقف، فالبوعزيزي وأمثاله الذين درسوا وحصلوا على الشهادات الجامعية، لم تتح لهم فرصة العمل في أي مكان، بينما القوى الحاكمة وأقاربها وذيولها يرتعون بالمناصب والمراكز ويكدّسون الأموال سواءً حصلوا على الشهادات أم لم يحصلوا عليها؟ * برأيكم ماهي انعكاسات ثورة التغيير التونسية على الشارع العربي وهل كانت المحرك والشرارة لتحولات في بنية الأنظمة العربية ؟ الانعكاس الإيجابي الأول هو انكسار حاجز الخوف وارتفاع ثقة الجماهير بنفسها وتزايد قناعتها بقدرتها على صنع تاريخها بيدها. والانعكاس الثاني هو استمرار الأمل بإزاحة الدكتاتوريات مهما طال أمدها حتى وإنْ ظهرت أنظمة منيعة مدججة بالمال والسلاح والمخبرين، وكأنها قلاع عالية يصعب اختراقها، بينما هي هشّة ومنخورة من الداخل، ومهما تمكّنت من تزييف الوعي ومصادرة الحريات فلن تتمكن من الاستمرار بذلك إلى النهاية. وقد سبق الثورة التونسية، انتصار الثورة الإيرانية وبعدها في ثمانينيات القرن الماضي انهار جدار برلين وانتصار الثورة المخملية في براغ وسقوط نظام تشاوتشيسكو في رومانيا وكان نظام بودابست وقبله نظام وارسو قد تكيّفا بفعل الحراك الشعبي الطويل، لاسيما بدور نقابة تضامن في بولونيا وأعقبتهما بلغاريا بالتدريج، لكن الانهيار المدوي كان في يوغسلافيا التي انقسمت إلى خمس دويلات وانحلال الاتحاد السوفييتي الذي تحول إلى عدد من الدول. أما الانعكاس الإيجابي الثالث فهو الاعتماد على العامل الداخلي، فقد أثبتت تجارب الحكومات والمعارضات أن الاعتماد على العامل الخارجي، لن يكون دون شروط مجحفة بل ومذلة، والتجربة العراقية خير دليل على ذلك، حيث أدّى الأمر إلى تفكيك الدولة ومؤسساتها تحت سلطة الاحتلال منذ ثماني سنوات، وهي ما تزال إلى اليوم تئن تحت ضربات موجعة من اشتعال الطائفية والتشظي المجتمعي، ولم تتماثل الى الشفاء بعد، على الرغم من التحسّن النسبي في الوضع الأمني، لكن نار الإرهاب والعنف ما تزال تخترق الوضع بين الفينة والأخرى، ناهيكم عن استمرار نار الفساد الاداري والمالي والمحاصصات الطائفية والاثنية.
* بصفتكم مفكراً وناشطاً متميزاً في مجال حقوق الإنسان والمجتمع المدني، ألا تعتقد أن الحكومات العربية يتوجب عليها الآن أن تعيد النظر بواقع سياساتها وعلاقتها مع المواطن ومصالحه الأساسية؟
أظنّ أن الحكومات العربية بسياساتها الراهنة، لاسيما بتغييب دور الجماهير قد وصلت إلى طريق مسدود، ولا يمكن لها الاستمرار إلى ما لا نهاية في هدر حقوق المواطنة والمساواة والتنكّر لمتطلبات الدولة العصرية، تلك التي تتطلب فصل السلطات وتحقيق استقلال القضاء والإقرار بالتعددية الفكرية والسياسية والقومية والدينية وتأكيد مبدأ تداولية السلطة سلمياً وإجراء انتخابات دورية وتحقيق حدٍ أدنى من العدالة الاجتماعية، الأمر الذي يحتاج إلى علاقة مختلفة بين الدولة والمواطن تقوم على أساس احترام حقوق الإنسان وعلى حق المشاركة في إدارة الشؤون العامة وعلى حق التعبير وحق الاعتقاد وحق التنظيم الحزبي والنقابي والمهني. لا يمكن للدولة أن تستمر مهما كانت تسلطية: ثورية أو محافظة أو استبدادية أو شمولية، أو ثيوقراطية أو غير ذلك لأن طريق التنمية سوف يصل إلى طريق مسدود، ولعل تجارب البلدان الاشتراكية السابقة وبعض دول حركة التحرر الوطني، تؤكد ذلك فبعد تنمية محدودة ولنقل بعد "نمو اقتصادي" ولا أقول تنمية بمعناها الانساني الشامل، بدأت سلسلة من الاختناقات والأزمات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، خصوصاً في ظل شحّ الحريات وسباق التسلح، الأمر الذي أدّى إلى انهيار تلك التجارب ثورية واشتراكية كانت أو محافظة.
* ألا تعتقد أن الشراكة الحقيقية بين الأحزاب الحاكمة من جانب وأحزاب المعارضة من جانب آخر تتحمل مسؤولية البناء وضمان مصلحة الوطن ؟ للأسف الشديد استأثرت الأحزاب الحاكمة الثورية والمحافظة بالسلطة السياسية بزعم تمثيلها الكادحين تارة أو النطق باسم الأمة أو بحجة الصراع العربي- الإسرائيلي أو "الحزب القائد" تارة أخرى، وثالثة باسم الدين أو غير ذلك واحتكرت هذه الأحزاب، لاسيما بعد وصولها إلى السلطة العمل السياسي والنقابي والمهني والاجتماعي قانونياً وبمسميات مختلفة وبصورة مباشرة أو غير مباشرة، وحرّمت ذلك على أحزاب المعارضة التي اضطّر قسم منها إلى العمل السري ضمن أجواء اتسمت في غالبها بكبت الحريات ولاسيما حرية التعبير وحق التنظيم وحق الاعتقاد وحق المشاركة السياسية. وهناك تجارب كثيرة في البلدان العربية التي تؤكد الدولة الفاشلة، لاسيما في تحقيق التنمية. ولعب التنظيم السياسي الشمولي عائقاً أمام تطوير التنمية المستدامة بمعناها الإنساني الشامل، السياسي والاجتماعي والاقتصادي والقضائي والقانوني وغير ذلك والأمثلة كثيرة، فهناك تجربة الاتحاد الاشتراكي العربي في مصر الناصرية والحزب الوطني الديمقراطي الحالي وتجربة المؤتمر الوطني السوداني وتجربة حزب البعث في العراق وسورية وتجربة اللجان الشعبية في ليبيا وتجربة جبهة التحرير في الجزائر وتجربة الجبهة القومية والحزب الاشتراكي فيما بعد في اليمن الجنوبية وتجربة التجمع الدستوري التونسي، وكلها وصلت إلى طريق مسدود وقد فشلت تلك الأحزاب فشلاً ذريعاً لأنها منعت أو روّضت الأحزاب المعارضة والنقابات والاتحادات ومؤسسات المجتمع المدني وتكدّس فيها الكثير من الفاشلين والانتهازيين. ولعل تجارب الأصل أو الفرع، والمقصود هنا تجارب الدول الاشتراكية وبلدان حركة التحرر الوطني كلها اتخذت مسارات واحدة وإن اختلفت تسمياتها، وذلك بمحاولة اسقاط الفكرة على الواقع، وتطويع هذا الأخير وتقنينه ليتلاءم مع الفكرة وليس العكس. إن الشراكة الحقيقية وتحمّل المسؤولية الجماعية تتطلب حريات عامة وخاصة وتأمين حقوق المواطنة والمساواة، ويتطلب ذلك عقداً اجتماعياً وسياسياً وثقافياً جديداً يمكن أن يتضمنه الدستور، لاسيما بوجود قضاء مستقل ورقابة وشفافية ومساءلة. * لو عدنا إلى ثورة تونس التي وصفت بثورة الياسمين آو ثورة الحرية ، إلى أي مدى تنظر لدور الفئة المثقفة مقارنة بفئة الفقراء والمسحوقين وهل كان للمثقف دور مميز في ذلك أم أن الشعب هو من فعل التغيير ؟ ما حصل في تونس وفي مصر وفي غيرهما لم يحصل بفعل الفقر وحده، بل كان سببه الرئيس أيضاً هو هدر الحريات ومحق الكرامة، وقد لعبت الطبقة الوسطى وهي في غالبيتها من المتعلمين، لاسيما من خريجي الجامعات دوراً متميزاً على هذا الصعيد، وحتى الذين أرادوا اتهام تلك الانتفاضات الشعبية بأنها انتفاضة رعاع قام بها سكان العشوائيات وأطراف المدن المتريّفة وتخومها، لم ينجحوا في الترويج لوجهات نظرهم، فقد كانت تلك الانتفاضات تعبيراً حضارياً ومدنياً عن حركة احتجاج سلمي استندت إلى اللاعنف. لقد حسم رحيل بن علي "مضطراً"، المعركة لصالح الشعب وجنّب تونس المزيد من المآسي والدماء، وهكذا فرضت الاحتجاجات السلمية حضورها وإرادتها في أرقى ممارسة للحق من خلال اللاعنف، وفي التعبير عن الرأي بالسلم، ومواجهة الرصاص بصدور عارية، وفي المحصلة انتصر هذا الخيار على الخيار العنفي الذي ظلّ النظام متمسكاً به حتى لحظات احتضاره الأخيرة وهو ما ينتظر أن يكون سابقة في عدد من الانتفاضات الشعبية الأخرى، في مصر وفي غيرها، فهو السبيل الأمثل لفرض الإرادة الشعبية وإجبار الأنظمة على التسليم بمطالب الجماهير العادلة، خصوصاً إذا تحوّلت حركتهم إلى سيل عارم لا يمكن الوقوف بوجهه، وعلى مرّ التاريخ يضطر الحكام في نهاية المطاف إلى التراجع والانسحاب ويهزمون أمام الإرادة الشعبية العادلة.
* كيف يمكن محاكمة الرئيس التونسي المخلوع، لاسيما من خلال الانتهاكات التي حصلت في مجال حقوق الإنسان في تونس؟ ما أدعو إليه هو تأمين العدالة الانتقالية ويتطلب ذلك إدانة المرتكبين ومساءلتهم وانزال العقاب الذي يستحقونه بهم، وإن كنت أميل الى التسامح وحصر دائرة المتهمين بالادارات العليا، لاسيما بالرئيس وحاشيته الأساسية، لكن ذلك لا يعني نسيان ما تم ارتكابه، بل لا بدّ أن يكون ذلك في الذاكرة الجمعية باستمرار لمنع تكراره ولكي يكون عبرة للأجيال القادمة، ولكن في إطار من التسامح وطلب الغفران، خصوصاً بعد اعتراف المرتكبين واعتذارهم من الشعب، ولعل تجربة جنوب أفريقيا والمغرب وهما تجربتان قريبتان مفيدتان على هذا الصعيد، لأنني أخشى من اندلاع العنف والكيدية والثأر والانتقام، وهذا سيعني تجديد دائرة الفعل ورد الفعل ودورة العنف والعنف المضاد وهكذا. كما يتطلب الأمر جبر الضرر وتعويض الضحايا أو عوائلهم مادياً ومعنوياً وإصلاح النظام القانوني بأكمله وتشريع ما يفيد بذلك، خصوصاً بعد تأمين استقلال القضاء وإدانة المرتكبين، الذين أصدروا الأوامر أو مارسوا التعذيب أو برروه أو سكتوا عنه، وبالطبع فإن رئيس الدولة يتحمل المسؤوليات الأساسية لانتهاكات حقوق الانسان على مدى العقدين ونيّف الماضيين. وكما أشرت فإن هدف الإدانة هو إعادة تثقيف المجتمع بالجرائم المرتكبة للحيلولة دون الوقوع في شبكها لاحقاً. كما ينبغي توجيه اللوم الى الدول الغربية لاسيما فرنسا التي ظلت حتى اللحظة الأخيرة تريد حماية نظام بن علي، وعلى الرغم من ثمت مفارقة إتسمت بها سرعة الأحداث ففرنسا والولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي وجدت في الإطاحة بالنظام التونسي فرصتها للتنصّل من التزامات سابقة لدعم نظام استبدادي وتقديمه كنظام متمدن يؤمّن أهم مستلزمات حقوق الإنسان مثل الغذاء والتعليم والصحة كما جاء في رد قاسي للرئيس الفرنسي جاك شيراك على احتجاجات لدعمه نظام بن علي العام 2003. ووجدت واشنطن وباريس الفرصة سانحة للدعوة إلى قيم الديمقراطية والحرية واحترام إرادة الشعوب، وهو جوهر ما تضمنته رسالة الرئيس الأمريكي أوباما، لكنها في الوقت نفسه تخشى من مخاطر جدية على الوجود والمصالح الأمريكية والأوروبية الغربية في المنطقة، الأمر الذي سيعتمد على إمكاناتها في إطفاء الحرائق من جهة، وفي استتباب الأمن وعودة الحياة الطبيعية من جهة أخرى. ومثل هذا الأمر ينطبق على مصر لدرجة كبيرة، بحكم ثقلها المادي والبشري، ودورها على صعيد المنطقة والعالم وهو ما يعكس تردد إدارة أوباما بشأن عملية التغيير، وخلال الأيام العشرة الماضية، كانت تقدّم خطوة وتؤخّر أخرى لكي تحسب مصالحها الدولية والإقليمية. ولكي يحقق التغيير مساره المنشود فلا بدّ من إنجاز مصالحة وطنية وأخذ الأمور بالتسامح وتأمين احترام حقوق الانسان ومنع أية عودة الى الماضي أو استغلاله لتأليب المجتمع وقواه بعضه على بعض.
* تهاوي بعض الأنظمة العربية ورحيل البعض الأخر هل سيغير من وضع الخارطة والعلاقة مع إسرائيل وأمنها القومي؟ لعل سقوط بعض الأنظمة أو ضعضعة بعضها الآخر سيغيّر من الخارطة السياسية في المنطقة، بل على المستوى العالمي، فإذا كان بلداً صغيراً مثل تونس قد لقي اهتماماً اسرائيلياً بفعل التغييرات التي قد توثر على النظام الدولي فما بالك ببلد مثل مصر مثلاً؟ وليس من قبيل الصدفة أن يصرّح نائب رئيس وزراء الكيان الصهيوني سيلفان شالوم التونسي الأصل بقوله: "أخشى ما أخشاه أننا نقف حالياً أمام مرحلة جديدة وبالغة الخطورة في العالم العربي، فإن سقوط النظام التونسي القائم، قد لا يؤثر حالياً بشكل كبير على الأمن القومي الإسرائيلي، لكن يمكن الافتراض أن هذا التطور سيشكل سابقة قد تتكرر في دول يؤثر استقرار نظامها علينا بشكل مباشر". كما أكّد على أنه في حال تمّ استبدال الأنظمة في الدول التي تحيط بـ"إسرائيل" بأنظمة ديمقراطية فإن هذا يحمل في طياته خطراً كبيراً على الأمن القومي الإسرائيلي، على اعتبار أنه يفترض أن تعتمد الأنظمة الجديدة أجندة تشكل بحد ذاتها مسًّا بالمصالح القومية الإسرائيلية وتلك إحدى مفارقات الحدث التونسي. لقد انشغلت الإدارة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا وألمانيا والاتحاد الأوروبي عموماً، بل والعالم أجمع خلال الأيام الماضية بما يجري بمصر بعد تونس، وللأسف فإن أقل ردود الفعل هي ردود الفعل العربية، التي ظلّت حذرة ومواربة، في حين كان رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو قد لفت الانتباه الى قلق اسرائيل إزاء اختلال توازن القوى، وهو ما ركّزت عليه الصحافة الإسرائيلية، ذلك أن تغيير الأنظمة في الدول التي تحيط بـ"إسرائيل" قد يحمل في طياته خطراً كبيراً على الأمن القومي الإسرائيلي، كما تروّج الى ذلك اسرائيل نفسها، وموضوعياً فقد تعتمد الأنظمة الجديدة أجندات جديدة تشكل بحد ذاتها إعادة نظر بالسياسات القائمة، وتلك إحدى احتمالات الغضب المصري، بما فيها اتفاقيات كامب ديفيد والصلح المنفرد الموقعة في العام 1978-1979. * لعب الاعلام الالكتروني دورا مهما في تعبئة الشارع واختصار الوقت واشعال الغضب الشعبي ، ماتعليقكم حول دور الاعلام والاتصال في هذه التحولات؟ لم يعد مبالغاً القول أن العالم أصبح قرية صغيرة بفعل ثورة الاتصالات والمواصلات وتكنولوجيا المعلومات والطفرة الرقمية (الديجيتل)، وإذا كان للعولمة وجه متوحش، فلها وجه إيجابي يكمن في عولمة الاعلام والثقافة وحقوق الانسان، وقد نجح الاعلام الالكتروني في تهيئة المسلتزمات لإشعال الغضب المحتبس في الصدور، ولا يمكن أن ننسى بأن الميديا لها دور كبير في إدارة الأزمات والحروب عبر استخدام مصطلحات وأطروحات يتم تكرارها على الشعوب حتى تصبح مألوفة لدى الجماهير وذلك بدراسة سيكولوجية وتأثير ضخ المعلومات عليها وعلى النخب الحاكمة وغير الحاكمة. وقد لعب الاعلام الغربي دوراً كبيراً لتحوير وتقليب كلمة مقاومة الى "إرهاب" وظلّ حتى اليوم يرفض إقرار تعريف خاص للإرهاب الدولي يفرّق بينه وبين حق الشعوب العادل والمشروع في مقاومة الاحتلال. وإذا كانت حرب الخليج الثانية بعد غزو القوات العراقية للكويت 1990-1991 قد قادتها محطة الـ CNN، فإن الحرب على أفغانستان في 2001 كانت تحت تأثير قناة الجزيرة الفضائية، التي كان لها السبق في ذلك، أما الحرب على العراق 2003 واحتلاله فلم يكن بعيداً عن الاعلام، كما كان للاعلام الدور الكبير في نقل ما حصل في نيويورك وواشنطن في أحداث 11 أيلول (سبتمبر) الإرهابية الإجرامية، وفي تهيئة الأذهان ضد الإسلام كخطر داهم بعد انهيار الأنظمة الشيوعية على المستوى الدولي. كان الاعلام الالكتروني وسيلة مجدية ونافعة لإشعال الانتفاضات حيث استطاعت الشعوب العربية نقل ما لديها بومضة عين كالذي حصل في تونس، من أجل ذلك عمدت السلطات المصرية الى قطع الانترنت أوائل أيام الانتفاضة ظنًّا منها المقدرة على طمس الحقائق وعدم نشر أخبار يوم الغضب ثم أغلقت قناة الجزيرة الفضائية وهددت قنوات أخرى، لكن الجماهير ابتدعت أساليب أخرى، فالحقيقة في ظل العولمة مثل الشمس لا يمكن حجبها بغربال، بكل ما في ضوئها من صدمات للعين، مثلما لها من فوائد ومنافع. * كيف تقيمون الوضع في مصر خلال هذه الفترة و ماذا تتوقعون سياسيا و امنيا في المرحلة القادمة ؟ أعتقد أن مصر، أمام خيارين قاسيين فإمّا الانفلات، خصوصاً بأعمال السلب والنهب ومداهمة البيوت والأملاك العامة والخاصة التي بدأت بعض ملامحها، وإمّا تسليم السلطة إلى الجيش الذي يمكن أن يسهم بدوره في المرحلة الانتقالية. وإذا كان الجيش التونسي قد تدخّل لحسم الأمر والضغط للاستجابة للمطالبة الشعبية، فإن الجيش المصري سعى أيضاً لتهدئة الخواطر، لاسيما بعد غياب الأجهزة الأمنية، وإذا كانت تونس قد أنجزت مهمتها الأولى، فإن ملامح تجربة متميزة ما تزال تتشكل في مصر بكل ثقلها، ولكن القلق يصاحبها، لاسيما باحتدام الصراع الداخلي وعدم تبلور قيادة للمعارضة لفرض رأيها، بما تمثله من توافق للمرحلة الانتقالية، ولذلك أخشى أن تُجهض الحركة الاحتجاجية أو تُختطف أو يتنازعها صراعات ثانوية تشغلها عن مهامها الأساسية. صحيح أن بن علي هو غير حسني مبارك. الأول حسم أمره "مضطراً"، أما الثاني فقد أقال الوزارة وشكّل وزارة جديدة وعيّن عمر سليمان نائباً له وهو شخصية عسكرية تقول عنها المعارضة المصرية أنها محترمة، ولكنها ليست كافية لتحقيق الانفراج وحل عقدة الحكم، وإذا كان الحكم يُدار من ثلاث عسكريين، الرئيس مبارك ونائبه الجنرال عمر سليمان ورئيس الوزراء الجنرال أحمد شفيق، لكن الجماهير ظلّت تصرّ على رحيل النظام. هكذا فرضت الاحتجاجات السلمية حضورها وإرادتها في أرقى ممارسة للحق من خلال اللاعنف، وفي التعبير عن الرأي بالسلم، ومواجهة الرصاص بصدور عارية. وإذا كان سلاح الجمهور هو الإحتجاج ورفع الصوت والمواجهة باللاعنف، فإن ذلك يلقى دعماً دولياً كبيراً وتضامناً عالمياً من جميع القوى المحبّة للسلام والمؤيدة لحقوق الشعوب وحرياتها الديمقراطية، وهذا يحتاج الى تعبئة الرأي العام العالمي وقوى وشبكات المجتمع المدني، التي لها ثقلها، لاسيما على المستوى الدولي. وكعادة الأنظمة الفردية فقد اعتمد النظامان التونسي والمصري على الدعم الخارجي، إعتقاداً منهما أن تقديم التنازلات لصالح القوى الخارجية سيحميهما من ردّ الفعل الشعبي، دون الالتفات إلى مشاكل الشعب وهمومه وآلامه، التي تمّ التعامل معها باستخفاف ولامبالاة وعدم الشعور بالمسؤولية، الأمر الذي فاقم الأوضاع سوءًا، وهو ما أدّى إلى عزلة النظامين وساعد بالتالي على الإطاحة بالأول واستمرار التظاهرات ضد الثاني، بتلك الطريقة المدنية الحضارية السلمية المثيرة، التي تجري محاولات لتشويهها، خصوصاً عبر صدامات داخلية وأعمال عنف وبلطجة. * كيف ترى الأفق المستقبلي للبلدان العربية بعد ظهور بوادر الوعي والانتفاضات والوقوف بوجه السلطات الجائرة وتجاوز مظلة الخوف والخضوع ؟ إذا تعمّق الوعي فسيكون شلالاً هادراً لا يمكن صدّه، وإذا اضمحل أو ضعف عامل الخوف، فيمكن للجماهير أن تصنع المعجزات، ولا يمكنني الاّ التهليل لفوز إرادتها وإصرارها الذي سيتحوّل بعد قناعتها الى قوة مادية يصعب اقتلاعها، لاسيما لشعورها بنبل القضية التي تسعى لها وجلالة شأن قدرها، حيث تبدي استعدادها للتضحيات وعدالة حقوقها التي تستميت من أجل نيلها، وذلك وحده ما يجعلها جديرة بمثل هذا الاستحقاق.
#عبد_الحسين_شعبان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
العولمة: ربّ ضارة نافعة!
-
خطاب القوة والتطرف معكوساً
-
منولوج جو بايدن!
-
خطاب ما بعد الكولونيالية: مراوغات الواقع
-
ما بعد الانتخابات العراقية: استحقاقات وتحديات المستقبل !
-
الغضب المصري بعد الانتفاضة التونسية
-
قراءة تأويلية عن حضارة وادي الرافدين لكتاب متميّز
-
ماذا بعد استهداف مسيحيي العراق؟
-
صورة تونس النمطية: مقايضة السياسة بالاقتصاد!
-
مفارقات انتفاضة الياسمين ودلالاتها!!
-
حقوق الانسان في الوطن العربي:المنظمة العربية لحقوق الانسان ف
...
-
الأمن الغذائي .. الحق في الطعام!
-
بغداد قندهار: أيّ مقايضة؟
-
ساحل العاج دولة برئيسين
-
حرب باردة في خليج ساخن
-
الاستفتاء السوداني: بين الديناميكية والسكونية !
-
بعد 50 عاماً مصير -حق- تقرير المصير
-
العمل العربي المشترك: أي دور للمجتمع المدني؟
-
استفتاء أم استثناء؟
-
الحداثة وما بعدها !
المزيد.....
-
رجل وزوجته يهاجمان شرطية داخل مدرسة ويطرحانها أرضًا أمام ابن
...
-
وزير الخارجية المصري يؤكد لنظيره الإيراني أهمية دعم اللبناني
...
-
الكويت.. سحب الجنسية من أكثر من 1600 شخص
-
وزير خارجية هنغاريا: راضون عن إمدادات الطاقة الروسية ولن نتخ
...
-
-بينها قاعدة تبعد 150 كلم وتستهدف للمرة الأولى-..-حزب الله-
...
-
كتاب طبول الحرب: -المغرب جار مزعج والجزائر تهدد إسبانيا والغ
...
-
فيروز: -جارة القمر- تحتفل بذكرى ميلادها التسعين
-
نظرة خلف الجدران ـ أدوات منزلية لا يتخلى عنها الألمان
-
طائرة مساعدات روسية رابعة إلى بيروت
-
أطفال غزة.. موت وتشرد وحرمان من الحقوق
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|