هيثم نافل والي
الحوار المتمدن-العدد: 3281 - 2011 / 2 / 18 - 18:27
المحور:
الادب والفن
قصة قصيرة بعنوان – حلم حياته
بقلم : هيثم نافل والي
في فجر شتاء قارس البرودة ، وجدهُ أمام عتبة باب كنيسة في مدينة بغداد ، ملفوفٌ بقطعة قماش بيضاء ، يبدو حديث الولادة ، وموضوع في سلة مصنوعة من أوراق سعف النخيل الصفراء ، يرتجف ويبكي من الجوع والبرد ، دونَ انقطاع ، حمله الراهب يونان الموصلي ، إلى داخل الكنيسة وهو يتألم لمنظر الطفل المروع ، قبلهُ ووضعه أمام الموقد في الغرفة الجانية من قاعة الكنيسة ، وطلبَ من أحدهم ممن يعملون معه ، بإحضار زجاجة من الحليب الدافئ ، رضعها الطفل دونَ أن يأخذ نفساً للراحة ، نظرَ إلى وجه الراهب ، فأبتسم له كابتسامة طفل صيني ، لم يستطع يونان من تحمل هذا المنظر ، فذرفَ الدموع دونَ شعور ، فسقطت على وجه الطفل ، فضحك ومدَ يده نحوه ، ورفعَ له أصبعه الصغير الذي يشبه نواة التمر ، فحنى عليه وقبله ، وهو يخاطبه : أمكَ تحبك كثيراً ، فلا تغضبُ منها أبداً . ثم قالَ له
ماذا أسميك ؟
سأسميك رسول ، ما رأيك ؟ رسول كلمة رائعة ، فالرب بعث للبشر عدة رسل ، وأوصاهم بنشر العدل والحب على الأرض ، ها .... ماذا تقول ؟
- حرك رسول قدميه بخفه ، كرعشة عصفور مبلل .
- إذن اتفقنا . ولم تمضي ساعاتٌ قليلة حتى كانَ قد عمده ، وأرسله إلى دار الأيتام التابع للكنيسة ، الذي لا يبعد كثيراً عنها ، قدم لهم ، على أنه رسول يونان الموصلي .
شبَ رسول قوياً ، ذكياً ، مسالماً في أحضان دار الأيتام ، اعتادَ على عمله اليومي ، فعندَ الصباح ، يهمُ بالذهاب مباشرةً لأبيه يونان الراهب ، يساعدهُ بفتح عيدان البخور ، وكنس قاعة الكنيسة ، وبترتيب الأناجيل ووضعها في أماكنها الخاصة ، ويصلي معه ، ويقول بصمت داخل نفسه :
يا رب ، أنا لا أريدُ شيئاً ، ولكن ، لا تجعل أبي يتألم في كبره ، ولتكن حياة شيخوخته ، كلحظات غروب الشمس ، تنسحب وهي صامته ، أنه يسعلُ كثيراً هذهِ الأيام ، أنه عبدك يا رب جعلته ودوداً وطيباً ، فأعطه بمقدار ما يعطي ، وخذ منه بنفس القصد حينما يأخذ ، أمين .
ثمَ يرجع مودعاً ، إلى داره التي لا يعرفُ غيرها في الحياة ، بدأ منذُ الصغر وهو يفكر بأشياء تبدو له كبيرة وصعبة المنال ، لكن لا شيء في الحياة مستحيل ، ( هكذا كانَ يقول له أبيه ) ، فيقنع نفسه بالتمني ، ويسعد بأوقاته أثناء عمله الذي تعلمه في الدار ، النجارة ، وخاصة تلك التي يقوم بحفر الخشب فيها ليصنع منها صلبان جميلة مزخرفه ، وبأحجام متنوعة ، تهدى مجاناً ، لبعض الدور والمستشفيات الخاصة ، وفي إحدى الأيام طلبَ من أبيه أن يحضر له خارطة أفريقيا ، فأستغرب أبيه وقال ، ماذا ستصنع بها ؟
- سأقوم بنحتها .
- ولكن ، لماذا أفريقا ؟
- لأنني أريد زيارتها عندما أكبر وسأجمع من المال ما يكفي لرحلتي تلك .
- شيء جميل يا بني ، عندما يحلم الإنسان بشيء ويود تحقيقه ، وأن كانَ صعب المنال ، سأحضرُ لك ما طلبت غداً .
- شكراً يا أبي ، فأنا أحبك كثيراً .
نحتها وعلقها في الممر المودي إلى ورشة العمل في الدار ، لقد كانت رائعة ، فقد أستغرقَ نحتها خمسة سنوات ، بعد أن طعمها بأنواع كثيرة من الأخشاب والأحجار ، لتكون في نهاية المطاف لوحة جميلة جداً ، لا تقدر بثمن .
بعدَ أن أصبحَ عمرهُ ثلاثين عاماً ، التقى بأبيه كالعادة ، وكانَ الأخير في وعكة صحية ، فسأله :
متى ستسافر إلى أفريقيا ، وهو يسعل كالمصاب بالسل ؟!.
- لدي الآن نصف المال ، وعلي أن أجمع النصف الآخر .
- لكنك الآن في الثلاثين يا بني .
- أعلمُ ذلك يا أبي ، لكنني مازلت أعيش الحياة ، إذن سأبقى أحلم . وهو يقبل يده .
ماتَ الراهبُ يونان الموصلي عن عمر ناهز الثامنة والثمانون ، فيما كانَ ابنه يبلغ من العمر التاسعة والخمسون ، في حين حادثة الوفاة سببت له أثراً مؤلماً وبالغاً في حياته ، فهو لم يشعر بيد ترعاه ، كما كانت يده ، ولم يسمع كلمة حب ، كما كان يجدها من أبيه ، فقد عوضه عن حنان الأم المفقود ، قدر المستطاع ، وأصبح له مثلاً يقتدي به ، حتى باتَ يقلده دونَ شعور ، في الكثير من حركاته ، طريقته في الكلام ، مشيته الصامتة ، فقد كانَ يمشي وكأنه يزحف !، باتَ يقضي أوقات أكثر من ذي قبل في الكنيسة ، وكأنه يعوض الفراغ الذي خلفه أبيه . لكنهُ ظلَ يحلم ويجمع المال الذي سيسافر به لمشاهدة حلمة على أرض الواقع .
شاخَ رسول سريعاً ، صارَ عجوزاً وهو في الخامسة والستون ، نحيفاً ، كعصا ، فقرر السفر أخيراً ، لم يأخذ معه سوى نقوده ، ونظارته الكبيرة ذات الإطار الأسود ، التي بدونها يصبح كالأعمى ، فأقلَ القطار الذي ينقله إلى سبر أغوار حلم حياته ، لطالما سهرَ الليالي وهو يحاكي طيور أفريقيا ، ويتغنى بأسماء فيلها ، ليعبر القارات من أجلها .
بعدَ رحلة مهلكة لعجوز مثله ، وفي شتاء بارد جداً ، لم يتوقعه أن يكون هكذا في أحر قارات العالم ، وصلَ إلى عاصمة جنوب أفريقيا ، وجهه معفر من النعاس والتعب والغبار ، وشعره الذي بلون الرصاص ، منفوش ، وكأنه ليفه استعملت كثيراً في التدليك ، أول قدم وضعها على أرض محطة القطار هي اليمنى ، بينما مازالت قدمهُ اليسرى على عتبة باب القطار ، عندها أستقبله مباشرةً ، شاب أفريقي ، شبه عاري ، ومنظره يدلُ على أنه شحاذ ، قالَ بصوت جهوري مسموع :
أعطني يا أبي يدك ، سأساعدك في النزول ، رفع بصره ، ليرى رجلاً كالفيل ، لكنه جائعٌ جداً ، لأنه رآه وهو يرتعش رغم ضخامته ، سلمَ يده بكل ثقة وأمانة ، لكنه تفاجأ ، عندما رفع الشاب علية
سكينة جيب صغيرة ، يكسوها الصدأ ، لا يمكن لها حتى أن تجرح طيراً ، فقالَ له آمراً :
أعطني ما تملك يا هذا ، أنك لا تحتاج إلى النقود وأنت بهذا العمر ، فكم ستعيش بعدَ الآن ؟ هيا ، أعطني مالك وإلا قتلك ؟!.
- أبتسمَ له ، ومدَ يده في جيبه ليخرج ما جمعه من مال طوال خمسة وستونَ عاماً ، وقدمها له وهو يقول ، خذه يا أبني لأنك فعلاً بحاجة لها أكثر مني . لم يصدق الشاب الأفريقي نفسه ، فأنه سيحصل على نقود كثيرة وبهذه السرعة وبدون أي إصابات وجروح ودماء وندب وآثار !.
أخذَ النقود كلها ، وهم بالفرار وهو مذهول من المفاجأة ، لكن رسول أستوقفه وقال : لحظة من فضلك ، أني أراك ترتجف من البرد ، ستموت لو بقيت هكذا عرياناً ، خذ هذا ..... فنزع عنه معطفه ، وهو يبتسم كشمس الصبح ، وهو يرى حلم حياته ينساب ويتسرب من غربال عريض الفتحات . ليسأل المارة برجاء أبوي : أرجوكم ، بالله عليكم ، قولوا لي ، أينَ هي أقرب كنائسكم ؟.
#هيثم_نافل_والي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟