جعفر المظفر
الحوار المتمدن-العدد: 3276 - 2011 / 2 / 13 - 18:11
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
, أشاع الموقف الأمريكي من قضية مصر ووقوفه إلى جانب شعبها بدلا من دكتاتورها الحليف تناقضا في الرؤيا وعسرا في هضم الأفكار. وحيث تحرك ذلك الموقف من خلال مطالبة مبارك بالاستقالة والاستجابة للمطالب العادلة للشعب المصري, وما رافق ذلك من إمكانات أن يمتد ذلك الموقف ليشمل كل النظم العربية المتهرئة, والتي بات تغييرها مسألة مطلوبة ومستدعاة من قبل تطورات لم تعد تقبل بالخطوات السطحية الترقيعية.
وحيث أن هذه الأنظمة ظلت حليفة أساسية لأمريكا من خلال انسجامها مع المعادلات الأساسية للمصالح الإستراتيجية الأمريكية في المنطقة فصار الظن أن استمرارها هو المطلوب الأمريكي وليس خلافه. وحيث لا توجد هناك أية فرصة للاعتقاد بان المصالح الإستراتيجية الأمريكية التي تنتج السياسات الخارجية الأمريكية قد تغيرت فجأة. وأيضا لا توجد دقيقة للاعتقاد بأن الدول, وخاصة الكبرى منها, قد تعيش, كما الأفراد, صحوة للضمير, فتغير في الصباح سياسات كانت قد نامت عليها ليلا.
وحيث أن الثقافة العربية تميل إلى التيئيس من إمكانية أن تبدل أمريكا موقفها من قضايا الشعوب, فتنتقل إلى تأييد هذه الأخيرة بدلا من تأييد الحكام الظالمين المتعسفين. فإن خض الأفكار الموروثة ورج الاعتقادات المترسبة وصولا إلى حل هذه الأحجية سوف يساعدنا على الاقتراب من السياسة الأمريكية بطريقة أفضل, حتى لو كنا مبغضين لها ومتخاصمين معها.
وأجزم أننا في العراق, محتاجون, أكثر من غيرنا, إلى هذا الفهم وإلى هذا الاقتراب لإنقاذ العراق من ورطته الحالية بأقل الخسائر الممكنة, وبطريقة تبتعد عن الروح الشعاراتية والهتافاتية, وبقراءات تأخذ بالاعتبار التطورات التي حدثت في عالم اليوم, وبدء من خلال قراءة الحدث المصري التاريخي بشكل خاص.
وليس هناك شك بأن الموقف العراقي الحالي المتدهور هو نتاجا لسياسة أمريكية يعتقد البعض أنها جاءت نتيجة لأخطاء متراكمة لإدارة بوش, بينما يعتقد البعض الآخر أنها كانت مطلوبة لتحقيق أهداف أمريكية بروئ متناقضة مع آمال العراقيين وحقوقهم الوطنية المشروعة في حياة حرة كريمة وفي وطن موحد ناهض.
لكن مهما كانت الاختلافات في الرؤيا وتشخيص الموقف فإن الوصول إلى الخلاص إنما يتيسر من خلال القدرة على تحييد الموقف الأمريكي أو تحييزه.., فلقد مضى زمن الهتافات الثورية التي أشبعتنا خسائر وانكسارات وجاء زمن حساب العوامل الموضوعية بصيغ سياسية عقلانية تبدأ من ضرورة التنبه إلى عدم إسقاط معطيات مرحلة على أخرى وكذلك سحب رؤى وحلول مرحلة على ثانية, وقبل ذلك الإقرار أن الجزء الرئيسي من مآسينا هو من صنع أيدينا وأن أدلجة الصراع مرة أخرى بعقائد وأفكار تتناقض مع هم المرحلة الأساسي سوف يضيع الهَمّين معا كما ضيعنا أول مرة.
بدء يجب التنبه والتنبيه إلى أن أدب تعويم التجارب هو أدب منبوذ, وغالبا ما يؤدي إلى أضرار خطيرة, فالعموميات المتشابهة لا يمكن أن تلغي أخطار الخصوصيات المتفارقة. لكن التخويف بالخصوصيات قد يبلغ درجة من شأنها أن تعطل كل اقتراب واستفادة من تجارب الآخرين, ويجعل الخاص المحلي نقيضا للعام الإنساني. ولذلك يجب الأخذ بالتوازن واحترام تأثيراته دائما, وعدم تعطيل عامل بآخر, أو تضخيم أحدهما إلى درجة تقزيم الآخر أو إلغائه. وفي معادلة التوازن التي نبحث عنها يصبح احترام الخاص مطلوبا مثلما يصبح احترام العام أساسيا.
ولهذا يمكن القول أن ميدان التحرير في بغداد يختلف عن أخيه في القاهرة في خصوصياته المتأسسة على تفاصيل الحالة, لكنه يقترب منه إلى حدود التطابق على مستوى المبادئ العامة: هناك رفض للظلم بكل أشكاله, والسرقة بكل مستوياتها, والقمع بكل درجاته, والتخلف بكل مناخاته, والدجل بكل أرديته, والكذب بكل مرجعياته.
لكن خصوصيات الحالة ستكون, أي تلك التي تتعلق بالموقف الأمريكي, أن العراق هو غير مصر, فالوضع العراقي الحالي المتدهور كما يعتقد البعض هو في كثير من تفاصيله نتاجا لعقلية أمريكية اقتضت أن يكون العراق على هو ما عليه الآن وصولا لتحقيق أهداف إستراتيجية داخل العراق وفي منطقته الإقليمية, وذلك يفترض أن أمريكا ستعتبر نفسها مسئولة عن هذا الوضع و"عرابة" له ولهذا فهي ستقف بالتالي ضد كل من يقف ضده.
لكننا, مع كل ما يمكن أن تضمه القائمة من نقاط للاتفاق, سنتفق أيضا على أخرى من المهم لها أن تضاف, فبدونها سوف يبقى التوصيف ناقصا وكذلك القرار.
وأول هذه النقاط أن الأهداف الأمريكية الأساسية وراء الاحتلال ربما تكون قد تحققت جميعها.....
أسلحة الدمار الشامل ما عاد لها وجود حتى في حالة الاتفاق على وجودها قبل الاحتلال. صدام الدكتاتور الذي أريد لصورته أن تغذي قيم الغزو بإتجاه أخلاقي قد شبع موتا. النفط لن تكون هناك نية, وقد لا تكون هناك مصلحة وطنية, لتسويقه بشكل يتقاطع مع المصالح الأمريكية. الإرهاب الذي زعم أنه كان دافعا للغزو كان زاد بعد الاحتلال وإن محاربته باتت تقتضي حلولا أخرى تبدأ من إعادة بناء المجتمع العراقي بشكل نهضوي وليس بشكل طائفي متخلف وبلا قيم. والخطر العراقي الذي يتهدد إسرائيل - إن كان هناك خطر حقيقي قد هددها في السابق -, لم يعد قائما. ولا يمكن بعد الآن أن يكون العراقي أكثر فلسطينية من الفلسطيني الذي قطع شوطا طويلا على طريق السلام مع إسرائيل. والشعارات الأيديولوجية التي كانت تتغنى بالوحدة العربية أو بالاشتراكية أو بالشيوعية قد تراجعت كثيرا بعد أن هدأ الجموح الثوري وثقلت موازين السياسة.
في الخلاصة, إننا الآن نعيش عصرا عراقيا تختلف معطياته عن معطيات الذي قبله, أي ذلك الذي سبق الغزو وإستوجبه, ولم تعد فيه دوافع الاحتلال باقية ولا الخوف الأمريكي من العراق مستمرة, ولا دوافع الثورات هي ذاتها, كما كانت عليه سابقا, أي أيدلوجية شاملة تبدأ من التناقض والصدام مع الإستراتيجيات الدولية المركزية, مما يعني أن خطاب الثورة العقائدي قد تغير وكذلك آلياتها وعناصرها ووسائلها.
بل إنني أرى أن المعطيات الحالية ربما آن لها أن تستبدل الخوف الأمريكي من العراق إلى الخوف عليه. وهذا ما سيضع التحالفات والإقترابات على طريق مختلف, فما أوجب السابق منها لم يعد قائما, وما إستجد من ظروف ربما يغير من كلاهما: خارطة الطريق وخارطة التحالفات.
وخارطة الطريق العراقية الجديدة تقتضي إنقاذ أهله من الجوع والفقر والفاقة والجهل والتسلط, فلقد وصل الأمر إلى نهايات مغلقة حيث لم تعد بنية النظام الحالي قادرة على أن تجد لها منفذا للعبور, فلقد استهلك النظام خطابه السياسي ونفذت ذخيرته وما عاد بإمكانه أن يكون مقنعا, وأظن أن مصلحة أمريكا أن لا يذهب الأمر إلى أبعد من ذلك, وربما صار من صالحها أن ترى النهضة العراقية الجديدة لازمة ومتناغمة مع التطورات السياسية التي أبدلت رؤى بأخرى لم تعد متصادمة لا مع السياسات ولا مع الإستراتيجيات. وربما صار ضروريا لأمريكا أن تهيأ المسرح العراقي لمتغيرات تتوافق مع دخولها في عصر جماهيري افتتحته بعد انحيازها لشعب مصر على حساب حليفها مبارك. وربما أن أمريكا قد استبدلت حساباتها العراقية بحسابات تقول أن العالم كله قد تغير فلماذا لا يتغير العراق أيضا, خاصة وإن معطيات الوضع الحالي باتت تعمل الآن في خدمة أعدائها الإقليمين مما سيقلب معادلات المصالح رأسا على عقب ويرتب وجود تحالفات مع شارع عراقي حفظ الدرس جيدا, واستعد لتطبيق ما تعلمه.
لذلك ربما وجب أن تكون هناك خارطة تحالفات جديدة, بين أمريكا وشعب العراق.
ولم لا يكون ذلك ممكنا, وقد حدث مثله في مصر التي سوق مبارك فكرة أن وجود نظامه لازم لضرورات حفظ السلام الإقليمي وحماية مصر من أخطار الإسلاميين.
لكن أمريكا, وإن كانت لاعبا أساسيا في الساحة العراقية, غير أنها ليست لاعبها الوحيد. فالشعب العراقي هو اللاعب الذي بإمكانه أن يقنع بقية اللاعبين مشاركته في رالي الحرية.
#جعفر_المظفر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟