|
أنشودة الحجر والزجاج في معرض ياسمينة حيدر
دعاء قنديل
الحوار المتمدن-العدد: 3272 - 2011 / 2 / 9 - 12:55
المحور:
الادب والفن
يبدو لنا من قبيل التسليم أن المنحوتة رديف موازٍ للجانب المرئي من العالم الوجودي بجانب اللوحة المسندية رغم كل التحولات التي مرت بها الفنون التشكيلية خلال القرن الماضي, وبالتأمل في حركة تاريخ الفن تتضح هذه التحولات في صلب فن النحت صعودا وهبوطا تبعا للتغيرات التي مرت بها المجتمعات من تحولات اقتصادية واجتماعية وسياسية، وكان لهذه التغيرات دور فعال في تناول وإرسال واستقبال فن النحت داخل تلك المجتمعات. كما تطورت خامات النحت بشكل سريع موازٍ للتطورات التي شهدها العصر الحديث فقد دخلت على الخامات الطبيعية التي عرفها الفنان منذ بدء الخليقة خامات مستحدثة ارتبطت بالمقومات الحضارية في المجتمع العالمي كظهور الخرسانة المسلحة واللدائن المختلفة كالبلاستيك والبلويستر والأيبوكسييات والفينيل والالومنيوم إلى غير ذلك من الخامات التي أصبح مظهرها وجوهرها الهاما في إنتاج أعمال النحت الحديثة، إلا أن الخامات الطبيعية احتفظت بكيانها ورونقها إلى يومنا هذا بل ستظل لها الصدارة دائما رغم كل هذه التحولات العبثية في فن ما بعد الحداثة، ومن الخامات الطبيعية التي حملت في طياتها سمات تعبيرية متفردة خامة الزجاج التي يرجع تاريخ استخدامها في التشكيل إلى عام 1500 قبل الميلاد ويعدّ الصناع الآسيويون أول من أرسى صناعة الزجاج ، ومنهم انتقلت الصناعة إلى مصر حيث ترجع أول آنية زجاجية إلى حكم تحتمس الثالث (1504-1450 قبل الميلاد). وقد ظلت صناعة الزجاج منتعشة في مصر حتى حوالي عام 1200 قبل الميلاد ثم توقفت فعليا لعدة قرون من الزمان. وفي القرن التاسع قبل الميلاد، ظهرت كل من سوريا والعراق كمراكز لصناعة الزجاج، وامتدت الصناعة عبر منطقة البحر المتوسط. وفي العصر الإغريقي، اضطلعت مصر بدور رئيس في تزويد القصور الملكية بالزجاج الفخم حيث كان يصنع في الإسكندرية وبما أن الزجاج خامة خصبة للتعبير فقد استخدمته فنانة شابة غزلت موهبتها وإصرارها وعشقها للابتكار ونسجتها على منوال الحداثة فهي عاشقة الزجاج الدكتورة ياسمينا حيدر الأستاذة بكلية الفنون الجميلة بجامعة الإسكندرية. فمنذ نعومة أظفارها عشقت الفن فقد نشأت في أسرة مصرية إسكندرية متفتحة، لها جذور إيطالية وتركية، تقدر التنوع والتفاهم واحترام الثقافات والفنون المختلفة، فقد كانت طفله لأم تدرس الموسيقى فأول ما ارتوى به وجدانها من الفن هو ذلك العالم المجرد الذي تتشابك خواصه بين الواقع والخيال هو عالم الأنغام الموسيقية ، فقد درست ياسمينا الموسيقي في سن مبكر بالكونسيرفاتوار في الإسكندرية الخاص لدراسة العزف الكلاسيكي على آلة البيانو كما أتقنت عدة لغات بالتوازي مع دراستها العامة ودراسة الموسيقى وعلى الرغم من تفوقها في العزف والأداء الموسيقي بشهادة أساتذتها إلا أنها سلكت طريقا مغايرا من طرق الفن, طريق الفن التشكيلي وخاصة مجال النحت الذي أكملت فيه دراستها الجامعية ثم دراستها العليا. وبعد حصولها على درجة الماجستير في الفنون الجميلة سافرت في بعثة إلى إيطاليا عام 2006 لاستكمال دراساتها العليا. وهناك أقامت أول عمل صرحي من الزجاج بالحجم الكبير داخل أحد المتاحف المفتوحة بجنوب إيطاليا، مستمدة فكرته من ورق شجرة البلوط المنتشرة في الجنوب الإيطالي. وهو عمل كبير تم نحته من كتلة واحدة من الزجاج يبلغ وزنها نصف طن تقريباً. وبعد عودتها إلى مصر قامت بتنفيذ أحد الأعمال النحتية الكبيرة وهو (إعصار) الذي نفذ بالخامة نفسها داخل مكتبة الإسكندرية والذي عرض في سمبوزيوم النحت الدولي للخامات الطبيعية 2010. وعلى الرغم من المعاناة والمكابدة التي تلاقيها كفنانه اتخذت مجال النحت مسلكا فقد أطلقت كيانها ألوانا وخطوطا وأنغاما مضيئة تنساب بسلاسة عبر مجسماتها الزجاجية التي احترفت تشكيلها مرتكنة إلى تلقائية موشوجة بالتنوع الثقافي والثراء الفكري والإبداعي حيث تكتسي منحوتاتها بدلالات جديدة وفقا للحوار الذي تحدثه مع المشاهد تبعا لفكرة العمل ومكانه منه مما يضفي عليه قوة في التعبير. لأن خامة الزجاج من أكثر المواد إثارة فهي تحمل عدة متناقضات متضافرة حيث تجمع بين القوة والرقة في آن واحد ، تتميز بالشفافية والعتمة معا، كما أن ألوانها ليست في سطحها فقط كغيرها من خامات النحت، بل في كيان الزجاج الداخلي. ينفرد الزجاج بأبعاد تشكيلية تختلف عن أي خامة أخري وذلك لما يحمل من درجات السطوع والنقاء والشفافية. يقول هربرت ريد "أن علاقة الفنان بالخامة ليست علاقة إدراكية بحتة وإنما هي علاقة تعبيرية هذا التعبير لا يمكن أن يخرج إلى الوجود إلا في صيغة مشاعر ملموسة ومحسوسة ". ياسمينة حيدر استطاعت إن تعبر بإحساسها على الزجاج فانداحت عبر شفافيته مشاعرها الفياضة وحبها للفن ،وتقول الدكتورة ياسمينة حول استخدام الزجاج كخامة في النحت "قمت بعمل مسح شامل لاستخدامات هذه المادة في مصر فوجدت أن بعض الفنانين يستخدمونها في حدود تقنيات الصهر والصب وبعضهم الآخر يستخدمها في جانب من الفنون التشكيلية القائمة على تقنيات الصهر وهى غير منتشرة، وبنظرة أوسع في العالم وجدت في أمريكا أن الفنانين يتبعون تقنيات تشكيل الزجاج الساخن من خلال عمليات النفخ التي تتيح للفنان إنتاج أعمال صغيرة الحجم ويصعب عليهم إمكانية تطويع المادة لتنفيذ أعمال ميدانية وصرحية كبيرة الحجم. أما في أوروبا فوجدت أن لديهم المشكلة نفسها وهى العجز عن إنتاج أعمال نحتية كبيرة الحجم باستثناء بعض الدول كإيطاليا وفرنسا وتأتى في مقدمتها جمهورية التشيك التي تعدّ الدولة الأكثر تميزا في إنتاج الزجاج الساخن والبارد واستطاعـوا من خلال تسخير التكنولوجيا والعلم أن ينتجوا أشكالا ذات أحجام كبيرة جدا ولكن عن طريق الصب. وبالتأمل في أعمالها النحتية ندرك على الفور أنها أصابت الطريق الذي يسلكه معظم الفنانين الأصلاء لتطويع المسار الحياتي للمواءمة بين مقتضيات العيش الكريم والمتطلبات الملحة لمواهبهم و فنهم الأثير. وفي معرضها الأخير أتيليه الإسكندرية عرضت الفنانة ياسمينة حيدر مجموعة من المنحوتات التي أكدت ثراء مبدعتها الفكري والفني، فنجد أن لكل منحوتة كيانا مختلفا وخصوصية شديدة على الرغم من وحدة الخامة والتكنيك حيث عزلت ياسمينة العتمة بالضوء والصلابة بالرقة في أعمال تواشج فيها الحجر مع الزجاج فنجدها تعايش الخامتين إما بان تقوم بتفريغ جزء من الحجر وتصب خامة الزجاج المنصهرة بداخله حسب رؤيتها التشكيلية أو أنها تصنع مجسمات زجاجية بطريقة النحت المباشر أحيانا وتوائم معها ما يناسبها من الأحجار الجرانيتية, كما نرى في عملها (فلوكة) استخدمت فيه الزجاج المائل للون الأخضر في شكل ألواح زجاج متراصة وملتحمة مكونة كتلة زجاجية ثم نحتت منها قاربا به استطالة فبدا في مظهر رشيق ثم صنعت أمواجه المنسابة والمتدفقة من صخر الجرانيت الأسود وفي عمل آخر لها وهو "وجوه" نرى خصائص هذه الخامة المبهجة في تلك الوجوه الرقيقة الناعسة المنبعث منها الضوء الخفي رغم عدم اكتمال بعضها وقد استخدمت في صنع هذا العمل طريقة الصب كما نلمح أيضا التناغم الواضح بين الأوجه الثلاثة في طريقة العرض وكأنها موسيقى بصرية تتمايل بين الصخب والسكون وبين الرقة والصلابة وبين الانخفاض والارتفاع, كلها في عمل واحد صاغتها بإتقان كما تصنوغ أنغامها ببراعة على آلة البيانو حيث تؤكد على أن العلاقة بين كل من الموسيقى والفن التشكيلي تحوي فيما بينها نوعاً من التعايش والانسجام .
#دعاء_قنديل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الفن وأيقونة الجسد
-
صاروخان وفنه المشاغب
-
البلاغة التشكيلية وأجرومية اللغة في القرن العشرين
-
تجليات الفن المعاصر - في بينالي الإسكندرية الدولي الرابع لكت
...
المزيد.....
-
كازاخستان.. الحكومة تأمر بإجراء تحقيق وتشدد الرقابة على الحا
...
-
مركز -بريماكوف- يشدد على ضرورة توسيع علاقات روسيا الثقافية م
...
-
“نزلها حالا بدون تشويش” تحديث تردد قناة ماجد للأطفال 2025 Ma
...
-
مسلسل ليلى الحلقة 14 مترجمة بجودة عالية قصة عشق
-
فنانة مصرية تصدم الجمهور بعد عمليات تجميل غيرت ملامحها
-
شاهد.. جولة في منزل شارلي شابلن في ذكرى وفاة عبقري السينما ا
...
-
منعها الاحتلال من السفر لليبيا.. فلسطينية تتوّج بجائزة صحفية
...
-
ليلة رأس السنة.. التلفزيون الروسي يعرض نسخة مرممة للفيلم الك
...
-
حكاية امرأة عصفت بها الحياة
-
زكريا تامر.. حداد سوري صهر الكلمات بنار الثورة
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|