|
مسرحية الدمى
يوسف محمد خراز
الحوار المتمدن-العدد: 3272 - 2011 / 2 / 9 - 12:06
المحور:
الادب والفن
كان هناك في غرفة العمليات، ينتظر شق من النور ينذره بلحظة الخروج من رحم امه التي طال انتظارها. لم تلبث ان انقضت لحظات على خروجه حتى خط عقدا مع القدر. عقد يعطيه الحق ان يكون جزء من" مسرحية الدمى" شرط ان لا يخرج عن نصوصها المكتوبة سلفا.
المسرحية التي تبدأ مع اول شهيق له وتنتهي بآخر زفير له، يلعب فيها دور الممثل و المشاهد في آن واحد، في مسرحية متكاملة الاطراف، لها ستار يرفع ويسدل، وكواليس تؤمّن كل ما يحتاج "الممثلين المشاهدين" اليه من شتى انواع الالبسة التنكرية والاحذية والاقنعة الزائفة، ومواد التجميل طبعا التي لا يمكن الاستغناء عنها، ومسرح لا يفرغ يؤدي عليه "الممثلين المشاهدين" ادوارهم ببراعة. هنالك ايضا تجهيزات الاضاءة ومقاعد للحضور وتذاكر يدفع "الممثلين المشاهدين" اثمانها، ليست للدخول ولكن للبقاء!
بلا كلل او ملل تستمر المسرحية في تأدية عروضها المتواصلة. لا يفهم دوره جيدا في البداية، ثم ما يلبث ان يتعلم بسرعة لم يكن يتوقعها هو نفسه. تمر سنين عديدة وهو يبدل الادوار والاردية والاقنعة المزيفة. يعجبه دورٌ في البداية ثم ما يلبث ان يمقته فينتقل الى دور اخر. لم يقنعه احدهم كفاية ليستقر عليه.
حتى اذا ما قارب الستين اكتفى من تأدية الادوار. نظر حوله و رأى "الممثلين المشاهدين" لا يزالون منسجمين مع ادوارهم ونصوصها سالفة الكتابة. حينها لاحت في مخيلته صور حياته التي قضاها على المسرح الذي ينظر الى زواياه المتداعية، يدخل الى دور ويخرج الى اخر، يتنكر بزي وقناع مزيفان، ويخلعهما ليلبس زيا وقناعا اخران.
يلمحه احد "الممثلين المشاهدين" فيتوقف وهلة، ثم يتجاهله ليعود الى دوره بسرعة. فالقوانين واضحة، يمنع الخروج عن النص في اي حال من الاحوال. ولكنا صديقنا لم يعد يبالي فالقوانين لم تعد تهمه الآن، يمشي الى الكواليس بخطوات ثقيلة، لتلوح في نظره مرآة يغطيها غبار الزمن... يقف امامها... يمعن النظر فيها... يحرك رأسه قليلا الى اليسار فاليمين ... يحاول ان يتذكر آخر مرة رآى نفسه عاريا بلا اقنعته الزائفة، لكنه لا يتذكر.
على بطء، ويداه ترجفان يزيل قناعه وزيه. يغمض عيناه ثم ينظر مرة اخرى الى المرآَة. الان تذكر، هذه هي المرة الاولى التي يرى نفسه فيها عاريا... يضع يداه على وجهه... تموج انامل اصابعه تجاعيد وجهه... يحدث نفسه قائلا :من هذا!؟ هل هذا انا!؟... يخرج بخطوات سريعة من الكواليس ليرتطم باحدهم على المسرح, لكنه يتجاهله، حينها تعتريه لحظة غضب، لا يتمالك نفسه... فيصرخ قائلا :لماذا !؟...لماذا!؟... لماذا!؟
تعمُّ المسرح لحظة صمت باردة. هذه المرة الاولى في حياته التي ينطق بكلمة خارجة عن النص. لحظات قليلة حتى عادوا جميعا ليكملوا تأدية ادوارهم، الا هو ينتابه شعور نادر لم يكن يحس به في السابق، لا يدري اهو خوف او شغف او كره او ندم، لحظات ويبدأ هذا الشعور بالتزايد... تتزايد عضلة قلبه نبضا ومسمات بشرته تعرقا وعضلات جسمه الهرم ارتجافا... يجثو على الارض... يغمض عيناه قليلا ثم يفتحهما.
الآن يعرف ما يريد. يريد ان يخرج من المسرحية التي سرقت منه كل هذي السنين... ينتصب ثم يندفع مهرولا عبر صفوف المقاعد... يبحث عن مخرج في آخر هذه الصفوف... يبدأ الاحساس بالتعب يثقل كاهله، كل تلك السنين على المسرح اهلكته وسلبته صحته و روحه و حريته، ولم يتبقى منها الا القليل... يزداد الثقل ويغلب الارهاق عليه، ولكنه لا يتوقف... يلمح نور يقترب من بعيد، كأن المخرج هناك يشعره بلحظة التحرر المرجوة... يكثف من وقع قدميه على الارض ... الا ان وعكة تغافله على حين غرة قبل ان يصل المخرج ببضعة اقدام ليقع جاثما على باب المخرج... يغلب عليه الاغماء لبرهة... يفتح جفناه محاولا ان يرى ما يقع خلف ذلك المخرج، حتى اذا ما جالت عيناه هناك, ارتسمت على شفاهه بسمة صفراء، مدركا ان خلف ذاك المخرج مسرحا آخر.
#يوسف_محمد_خراز (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
المزيد.....
-
مركز -بريماكوف- يشدد على ضرورة توسيع علاقات روسيا الثقافية م
...
-
“نزلها حالا بدون تشويش” تحديث تردد قناة ماجد للأطفال 2025 Ma
...
-
مسلسل ليلى الحلقة 14 مترجمة بجودة عالية قصة عشق
-
فنانة مصرية تصدم الجمهور بعد عمليات تجميل غيرت ملامحها
-
شاهد.. جولة في منزل شارلي شابلن في ذكرى وفاة عبقري السينما ا
...
-
منعها الاحتلال من السفر لليبيا.. فلسطينية تتوّج بجائزة صحفية
...
-
ليلة رأس السنة.. التلفزيون الروسي يعرض نسخة مرممة للفيلم الك
...
-
حكاية امرأة عصفت بها الحياة
-
زكريا تامر.. حداد سوري صهر الكلمات بنار الثورة
-
أكتبُ إليكِ -قصيدة نثر-
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|