|
رهان الديمقراطية في العالم العربي بين الأمس و اليوم
إدريس جنداري
كاتب و باحث أكاديمي
(Driss Jandari)
الحوار المتمدن-العدد: 3269 - 2011 / 2 / 6 - 12:49
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
يرجع الاهتمام بمسألة الديمقراطية و الدولة الحديثة في الفكر العربي؛ إلى مرحلة القرن التاسع عشر؛ من خلال الكتابات النهضوية العربية؛ التي اهتمت بالموضوع؛ في علاقة بالمستجدات التي فرضتها التجربة السياسية الغربية الحديثة. فقد وعى المفكرون النهضويون – سلفيون و ليبراليون- أن مكمن الداء يوجد في الممارسة السياسية؛ التي رسخت قيم الاستبداد؛ و حكمت على الشعوب العربية بالتخلف و الجهل؛ و هذا ما انعكس سلبيا على الواقع العربي؛ و فتح المجال أمام القوى الامبريالية؛ لفرض الهيمنة على العالم العربي؛ بمشرقه و مغربه. هكذا آمن مفكرو النهضة العربية أن النضال الوطني ضد الاستعمار؛ لا يجب أن ينفصل عن مهمة بناء و تحصين الذات؛ لأن مواجهة التحديات الخارجية تتطلب قوة و تماسكا داخليا؛ يجب أن يكون في مستوى التحديات المفروضة؛ و إلا اتخذت هذه المواجهة؛ طابعا فانطازيا غريبا؛ لا يدخل المعارك إلا ليخسرها . من هنا كان مشروع بناء الدولة العربية الحديثة؛ يسير جنبا إلى جنب مع مشروع تحرير الوطن من الاستعمار؛ و إذا كان هدف التحرر و الاستقلال قد تحقق –نسبيا- فإن مشروع الدولة الحديثة؛ ما يزال يراوح مكانه إلى حدود الآن؛ لأن التحقق النسبي للمشروع الأول غطى على المشروع الثاني؛ بادعاء التدرج في تحقيق الأهداف. لقد طرح مفكرو النهضة العربية مسالة الديمقراطية و الدولة الحديثة من خلال مستويين أساسيين : - أولا: من خلال محاربة الاستبداد؛ كفكر و كممارسة سياسية؛ و قد أبدى النهضويون في هذا المجال نضجا كبيرا؛ يتجاوز قدرات المرحلة؛ و لعل عودة خاطفة إلى كتاب (الإسلام وأصول الحكم) لعلي عبد الرازق؛ لتشي بالكثير من الاجتهاد؛ الذي نفتقده الآن؛ كجيل جديد -للأسف الكبير- يوجه الشيخ علي عبد الرازق في كتابه سهام نقده إلى دعاة الخلافة من فقهاء البلاط ؛ ويجادلهم بالنص الديني الواضح ليثبت لهم أن الخلافة شأن مدني لا دخل للدين فيه؛ وهو في ذلك يقول : " والحق أن الدين الإسلامي بريء من الخلافة التي يتعارفها المسلمون ؛ وبريء من كل ما هيأوا حولها من رغبة ورهبة ومن عز وقوة ؛ و الخلافة ليست في شيء من الخطط الدينية؛ كلا ولا القضاء ولا غيرهما من وظائف الحكم ومراكز الدولة. وإنما تلك كلها خطط سياسية صرفة ؛ لا شأن للدين بها؛ فهو لم يعرفها ولم ينكرها؛ ولا أمر بها ولا نهى عنها ؛ وإنما تركها لنا لنرجع فيها إلى أحكام العقل ؛ وتجارب الأمم ؛ وقواعد السياسة . (1) و هو في نقده لنموذج الخلافة؛ يسعى إلى محاربة كل أشكال الاستبداد التي يتم تبريرها باسم الدين؛ و في الآن ذاته؛ فهو يفتح الباب واسعا أمام نظام الدولة المدنية الحديثة؛ التي تقوم على الديمقراطية و المؤسسات. - ثانيا: من خلال الانخراط المباشر في الدعوة إلى ترسيخ قيم الديمقراطية و الدولة الحديثة؛ و ذلك من خلال التبشير بنموذج الدولة الأوربية؛ التي اخترقت الوعي السياسي النهضوي؛ و نجد ذلك واضحا؛ في كتابات رفاعة الطهطاوي؛ و الصفار و خير الدين التونسي و محمد بن الحسن الحجوي ؛ و غيرهم كثير من النهضويين . و الجامع بين هؤلاء هو معايشتهم للتجربة السياسية الأوربية؛ إما بشكل مباشر (الطهطاوي)؛ أو بشكل غير مباشر (محمد بن الحسن الحجوي) . لكن في كلا الحالتين؛ وصل التأثر مداه و أعلن عن نفسه بوضوح في كتابات هؤلاء النهضويين؛ الذين كانوا على وعي كبير بمسألة الديمقراطية و الدولة الحديثة؛ في نجاح طموحات النهضة العربية . لكن مسالة الديمقراطية و الدولة الحديثة؛ من المنظورين معا؛ لم تحقق المبتغى و المطلوب؛ الذي يمكنه أن يمهد الطريق أمام إقامة هياكل الدولة العربية الحديثة؛ و ترسيخ قيم الديمقراطية؛ باعتبارها الأساس المتين للدولة. و يرجع هذا الفشل – من منظور الأستاذ عبد الإله بلقزيز- إلى ثلاثة عوامل أساسية: - أولا : أن صلة هذا الجيل النهضوي بالفكر الليبرالي الحديث؛ كانت ما تزال تخطو خطوها الأول؛ و لم تترسخ الرسوخ الكامل؛ الذي بإمكانه أن ينجب لحظة فكرية-سياسية لاحقة؛ مع لطفي السيد و طه حسين و سلامة موسى؛ أو محمد بن الحسن الوزاني. - ثانيا : أن هؤلاء النهضويين؛ عاشوا في فترة؛ لم يكن النظام الديمقراطي الغربي نفسه؛ قد شهد نضوجه الكامل؛ بحيث يصير نظاما عموميا للتمثيل و المشاركة. - ثالثا: أن الإصلاحية العربية؛ كانت مدعوة إلى إيجاد صلات قرابة؛ بين هذه المنظومة الديمقراطية الحديثة؛ و بين المنظومة السياسية الشرعية. (2) و كنتيجة مباشرة لتوافر هذه العوامل المعرقلة؛ و لعجز المرحلة على استيعاب الفكرة الإصلاحية؛ بطموحاتها السياسية الكبيرة؛ تحقق كنتيجة مباشرة؛ الانتقال إلى ترسيخ نموذج الدولة الشمولية؛ إما من خلال الاستفادة من التراث السياسي القديم (بنية الشيخ و المريد) (3) أو من خلال الانفتاح على النموذج الشمولي الاشتراكي؛ الذي يقوم على نظام الحزب الواحد . و في كلا الحالتين؛ خسرت الدولة العربية الحديثة رهان تحقيق الديمقراطية؛ و ترسيخ أسس دولة المؤسسات؛ و كنتيجة مباشرة لهذا الفشل؛ كان إجهاض حلم الدولة العربية الحديثة؛ يؤسس لإجهاض حلم الأمة العربية القوية؛ التي تقوم على أساس دول الديمقراطية و المؤسسات . لقد تم استبدال الديمقراطية التي هي أساس الدولة الحديثة؛ بالثورة التي اتخذت –في الأغلب- طابعا يسارويا؛ يعتبر أن الديمقراطية ترف فكري و سياسي؛ و هي ألعوبة الغرب للسيطرة على العالم العربي؛ و لذلك فهي ليست بهذه الأهمية؛ التي تجعلنا نلهث خلفها !!! لكن الحقيقة التي كانت ثاوية خلف هذا التحليل المتهافت؛ هي أن غياب الديمقراطية؛ يفتح المجال أمام (الثوار) لجني ثمار ثورتهم لوقت أطول؛ في غياب التداول السلمي على السلطة؛ الذي يمكنه وحده أن يضخ دماء جديدة في شرايين الدولة؛ و يجنبها خطر التصلب. و هكذا استمر شعار الثورة بديلا للديمقراطية؛ حتى أصبحت هذه الثورة تأكل أبناءها؛ مهددة استقرار الكثير من الدول العربية؛ التي أصبحت مهددة في كل يوم؛ إما بالبلقنة و إما بالانفصال إلى دويلات/قبائل غير قابلة للحياة . إن ما أصبح يتضح يوما بعد الآخر؛ هو أن فشلنا في ترسيخ القيم السياسية الحديثة؛ من ديمقراطية و حرية و تعددية... هذا الفشل أصبح يهددنا بمصير مجهول؛ على المدى القريب بله المتوسط و البعيد؛ و ذلك لأن إستراتيجية الاستعمار الجديد؛ تقوم على أساس استغلال هذه الثغرات؛ لفرض الوصاية علينا؛ باسم القانون الدولي. و لعل ما جرى في العراق؛ و ما جرى في السودان؛ و ما جرى في تونس و ما يجري الآن في مصر؛ ليؤكد بما لا يدع مجالا للشك؛ بأن تحقيق استقرار و نهضة عالمنا العربي؛ تمر بالضرورة عبر إصلاحات سياسية حقيقية و جوهرية؛ تفتح المجال أمام التعددية الحزبية الحقيقية؛ و تسمح لجميع الأعراق و المذاهب و التيارات ... بالمشاركة الفاعلة في صناعة القرار السياسي؛ بشكل ديمقراطي واضح و شفاف. و من شأن هذه الإصلاحات السياسية؛ أن تحد من القلاقل الداخلية؛ التي تفتح المجال أمام التدخلات الأجنبية؛ التي تفرض خيارات؛ تخدم في الأخير أجندتها الخاصة. إذا كنا على وعي تام بالمسؤولية التي نتحملها؛ شعوبا و أنظمة سياسية و نخبا فكرية؛ فإن مسؤوليتنا مزدوجة إذن؛ بقدر ما تخص ضرورة الوعي بالمخططات الاستعمارية الجديدة التي تستهدفنا؛ تخص كذلك ضرورة الوعي بما يعيشه راهننا العربي من أشكال التردي السياسي؛ الناتج عن غياب دولة المؤسسات؛ القادرة لوحدها على إخراجنا من الورطة التي تتسع كل يوم أكثر. و ذلك لأن الديمقراطية؛ تقوم على أساس التداول السلمي على السلطة؛ و الفصل بين السلطات؛ و تمتيع المواطنين بحقوق مدنية كاملة في حكم أنفسهم بأنفسهم؛ عبر ممثليهم المنتخبين بشفافية و مصداقية إن النضال الحقيقي في العالم العربي اليوم؛ يجب ألا يفصل بين تحديات الداخل و الخارج؛ لأنهما معا على نفس الخطورة؛ فبقدر مسؤوليتنا في تحصين سيادتنا الوطنية؛ تكون مسؤوليتنا أكبر في دعم و ترسيخ هذه السيادة؛ عبر النضال المستميت في سبيل بناء الدولة الحديثة و ترسيخ الديمقراطية الحقيقية. الهوامش: 1- علي عبد الرازق – الإسلام وأصول الحكم – نشر الهيئة المصرية العامة للكتاب. 2- عبد الإله بلقزيز- أسئلة الفكر العربي المعاصر- سلسلة المعرفة للجميع- ع: 21 – أكتوبر 2001 - ص: 168 . 3- أنظر: عبد الله حمودي – الشيخ و المريد - سلسلة : المعرفة الاجتماعية - تاريخ النشر3 200.
#إدريس_جنداري (هاشتاغ)
Driss_Jandari#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مبدأ تقرير المصير بين روح القانون الدولي و التوظيف السياسي (
...
-
مبدأ تقرير المصير: بين روح القانون الدولي و التوظيف السياسي
...
-
مبدأ تقرير المصير بين روح القانون الدولي و التوظيف السياسي
-
النيوكولونيالية و إعادة صياغة خرائط المنطقة العربية
-
الأطروحة الانفصالية في الصحراء المغربية- الأجندة الجزائرية ا
...
-
التزوير الإعلامي الإسباني .. حين تنتهك حرمة السلطة الرابعة
-
أحداث العيون - الأجندة الجزائرية – الإسبانية المفضوحة
-
الصحراء (الغربية)- شرعية الانتماء المغربي من خلال الوثائق ال
...
-
قضية الصحراء الغربية*بين شرعية الانتماء المغربي والتحديات ال
...
-
البوليساريو: نهاية إيديولوجية .. نهاية مشروع
-
أطروحة البوليساريو الجذور الاستعمارية و الإيديولوجية لفكرة ا
...
-
الانفتاح المغربي في مقابل العدوانية الإسبانية - في الحاجة إل
...
-
قضية احتلال سبتة و مليلية- في الحاجة إلى الدعم العربي للمغرب
...
-
سبتة و مليلية .. مدينتان مغربيتان جغرافيا و إسبانيتان سياديا
...
-
الاستفزازات الإسبانية للمغرب .. الاستعمار يكشف عن أنيابه
-
قطعوا الشجرة لكنهم لم يكشفوا عن الغابة
-
متغيرات شرق-أوسطية في خدمة خيار الحرب
-
لجنة التحقيق الدولية بديلا للجنة التحقيق الإسرائيلية - الورط
...
-
الفرانكفونية: إيديولوجية استعمارية في عهد ما بعد الكولونيالي
...
-
الفرانكفونية: إيديولوجية استعمارية في عهد ما بعد الكولونيالي
...
المزيد.....
-
-عيد الدني-.. فيروز تبلغ عامها الـ90
-
خبيرة في لغة الجسد تكشف حقيقة علاقة ترامب وماسك
-
الكوفية الفلسطينية: حكاية رمز، وتاريخ شعب
-
71 قتيلا -موالين لإيران- بقصف على تدمر السورية نُسب لإسرائيل
...
-
20 ألف كيلومتر بالدراجة يقطعها الألماني إفريتس من أجل المناخ
...
-
الدفاع الروسية تعلن تحرير بلدة جديدة في دونيتسك والقضاء على
...
-
الكرملين يعلق على تصريح البنتاغون حول تبادل الضربات النووية
...
-
روسيا.. اكتشاف جينات في فول الصويا يتم تنشيطها لتقليل خسائر
...
-
هيئة بريطانية: حادث على بعد 74 ميلا جنوب غربي عدن
-
عشرات القتلى والجرحى بينهم أطفال في قصف إسرائيلي على قطاع غز
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|