منذر مصري
الحوار المتمدن-العدد: 976 - 2004 / 10 / 4 - 07:40
المحور:
الادب والفن
( أربع سائقين، وشاعر ومسافر طرابلسي )
ــــــــــــــ
1-السائق الأول: سوري، يقود سيارة الأجرة ( ستروين صفراء ) من اللاذقية إلى طرابلس. لم يكن مالكها، كنت أعلم ذلك دون سؤاله، لأن السيارة تعود ملكيتها إلى شركة تجارية معروفة تستوردها من إيران، وكان نوع هذه السيارة ( ستروين / كزنترا 1.8/ سيبا ) بالذات سبب دخول أحد الأخوة أصحاب الشركة السجن، بتهمة التلاعب بالمواصفات الفنية الخاصة بها، مما يؤثر على المبلغ الذي تدفعه الشركة كرسوم جمركية عليها، يخفضه طبعاً، وبالتالي يسمح بتخفيض التكلفة، ثم بربح أكبر!
كنت الراكب الوحيد الجالس بجانب السائق، مع أنه في العادة ، يجلس إثنان، ولكن نتيجة ظرف ما، يفضل السائقون عدم الانتظار لساعات في الكراج، فينطلقون بثلاثة ركاب أو اثنين، بدل خمسة، عدد الركاب الكامل، مهما صغُر حجم السيارة: ( هل يعطونك أجراً جيداً ؟ ) بدأت حديثي معه: ( ماشي الحال. ندبر حالنا )...:( ولكن كيف سيكون الحال، إذا خرج السوريون من لبنان؟ ألا تسمع الأخبار! ) :( لا علاقة لنا نحن بهذا.. لا أظن ستؤثر.. منذ سنين وخط طرابلس شغال، الطرابلسيون شعب طيب!! ) :( ولكن كما تعلم.. الأحوال تغيرت، كان هناك بالسابق ثلاث أربع سيارات تعمل على خط اللاذقية- طرابلس، الآن بالعشرات، وطرابلس الآن مملوءة بسوريين من الجسر وحلب واللاذقية وطرطوس وحمص أيضاً.. الذين يتخذونها محطة سفر من وإلى مختلف المناطق اللبنانية التي يعملون بها.. فإذا خرج السوريون.. سيقل عدد أولئك الناس، القادمين والذاهبين، وسيقل عدد الركاب.. !! ) :( الله يساعد.. والله لا يوجد شغل في سوريا.. ولو كان فيه شغل بيسد الرمق لهذه الألوف المؤلفة، ما حدا بيجي لهون؟؟ الغربة أينما كانت كربة ).
2-السائق الثاني: لبناني، طرابلسي يقيم في بيروت، سائق السرفيس الذي رضي أن يمضي بي من جسر شارل الحلو إلى الصنايع ب 1000ل ل فقط. وكان عجوزاً بعمر ال 75، صدقوا! هو من أخبرني بهذا، يضع سماعة في أذنه اليمنى، بواسطتها يسمع ما يطلبه منه الركاب.. أجابني: ( طوال عمري لا أتدخل بالسياسة.. شغلة حرامية، شو بيهم تمدد للحود أو ما تمدد، ما في شي راح يتغير. عاملينها قصة. يا خيي، خلي كل واحد يهتم بحالو وبولادو. أولادي كويسين، وزعت لهم اللي عندي، وتركت هالسيارة والبيت اللّي ساكنه. أحسن ما ينتظروني حتى موت. بييجوا لعندي وبلعب مع ولادهم، وبيروحوا. ساكن أنا وهالمرا اللي تجوزتها بعد ما ماتت أمهم... مستورة ) خطوط سير السرافيس في بيروت غير محددة، فالسائقون يمضون إلى حيث يطلب الركاب، متخذين الطرق التي يمكن أن يلتقطوهم عن أرصفتها. هذه المرة مضى السرفيس بي طريقاً طويلاً، فبعد أن وصلنا لنهاية الحمرا من الجهة الغربية، عاد بي إلى مفرق كلية الحقوق، قرب حديقة الصنايع، ولم نلتقط راكباً واحداًً طوال الطريق.
3- السائق الثالث: ركبت معه كسيارة أجرة ( تكسي )، لأني كنت قد تأخرت وعلي أن أسرع، من مفرق عضوم في اللطيف، إلى ساحة الشهداء، فمضى بي إلى أقاصي المدينة ثم أعادني، بعد أن فهم مقصدي، إلى مدخل الساحة، ولم يستطع أن يوصلني إلى المبنى الذي يقع به مقر جريدة النهار بسبب الحواجز الأمنية حول المجلس النيابي اللبناني. وربما لأنه عرف أني سوري، فقد كان شديد التكتم: ( لا علاقة لي لا بالتمديد ولا بغيره، سوري أو لبناني، مين ما حكم يحكم، ياخيي من زمان لبنان، فرانسا وأمريكا وسوريا، بيحطولوا رؤساءه. ومرة اسرائيل حطت رئيس، والله أعلم، مانا شغلة جديدة، ولحود متلو متل غيره. ماشي حالو. هيك أنا بفهم، أنا ما بيهمني غير شغلتي، عايش هيك، السياسة لها أهلها.. اللي معهم مصاري، ما نحن.. الشعب المعتر).
4- الشاعر: سوري يحيا ويعمل في بيروت منذ أكثر من عقدين من السنين. طبع كتباً وأقام معارض في بيروت، وتزوج من بيروتية، وصارت لكنته بيروتية، ورغم ذاك، بقي في عرف أغلب من أعرفه في بيروت سورياً، سورياً مريباُ لا يؤتمن لهم. ولم ينفع تأكيدي لهم، بأني أعرفه قبل أن يأتي لبيروت، وأنه لم يسبق وعرف عنه أي ما يبعث على الريبة. ورغم أن لا أحد منهم أظهر اعتراضاً على كلامي إلا أن لا أحد أيضاً قال لي أنه صديقه. مع أنه بكلامه وبقصصه، صديق حميم للجميع! مما دفعني يوماً أن أقول له: ( ماذا تفعل هنا.. عد لدبسانا ( قريته ).. أحسن لك ). ولأنه يعتب علي دائماً لعدم قيامي بزيارته، ويبدي رغبة صادقة لضيافتي كلما التقيت به في بيروت، فقد حرصت هذه المرة أن أقدم له نسخة من كتابي الجديد، هو الذي كتب عن جميع كتبي وكتب أختي باعتبارنا أولاد بلده، بادرني:( لم أفهم.. أي غباء دفعهم للتمديد، إنه ليس في مصلحة أحد، وخاصة مصلحتهم. اللبنانيين صاروا مجانين..ومعهم حق. سوريا تستطيع فرض أي رئيس جديد، سوري مثل إميل لحود وزيادة! كيف لم يفهموا أنهم إذا استطاعوا فرض التمديد للحود الآن فإنهم بعد ثلاث سنوات، ليس فقط لن يستطيعوا فرض رئيس، بل لن يكون لهم دور في انتخاب أي رئيس، أو ربما سيأتي رئيس يحمل شعار رفض العلاقة المميزة مع سوريا، كردة فعل.. يا رجل.. لقد أحرجوا كل أنصارهم.. وكلها حجج واهية.. لم أفهم !! )
4- السائق الرابع: وهو من مضى بي من الحمرا قرب مقهى الويمبي، إلى جسر شارل الحلو، وقد رضي بأجرة سرفيس مضاعفة، أي 2000ل.ل. ما أن صعدت وجلست على المقعد الأمامي بجانبه، حتى قال: ( والله قللتها ( يقصد الأجرة 2000ل.ل ) أجبت: ( يكفي يا زلمة.. ياما رايح إلى هناك ب 1000! ).. التقطنا على الطريق راكباً كبيراً بالسن عرض مباشرة 2000ل.ل على شرط أن يأخذه مباشرة للعاملية، معتذراً مني بكل تهذيب. رحت أتحدث عن اللافتات وعن التمديد، كنت أفعل هذا قصداً، لأني كنت أريد أن أعرف ماذا يفكر ويشعر به الناس العاديون غير المثقفين والسياسيين، أبناء الكرامة والشعب العنيد ..: ( راح أقول لك شيئاً، ربما تعرفه ولا تصدقه، وربما لا تعرفه... إسرائيل ورا كل شي ) سألته: ( ورا التمديد.. تقصد ؟! ) ( التمديد وغيره ) أجاب: ( لإسرائيل ياخيي ألعن مما نظن. ما شغلتها إلا التآمر علينا. اليهود بدهن يخربوها على الأخير الأخير. لحد الآن ما شفنا شي، بكرا بتشوف، خود مني هالكلام، أنا بعرفهم.. ): ( كيف بتعرفهم.. ؟؟ ): ( بعرفهم.. خنازير.. وبعدين يا خيي.. نحن كمان قلوبنا صفرا على بعضنا، نحن لا نحب بعضنا.. وناطرين على بعضنا.. الله يستر ).
5- المسافر: شاب طرابلسي في بداية العشرينات من العمر، يسأل في كراج طرابلس اللاذقية عن شخص من اللاذقية من بيت رمضان، صديق عمل معه سابقاً بالحدادة الفرنجية، يسكن حي قنينص في اللاذقية. عرف أحد الركاب ذلك الشخص من بيت رمضان ، وعرف أيضاً موقع بيته بالتحديد. انطلقت السيارة بركابها السوريين الأربعة وبطرابلسيها الطيب الذي راح يتكلم طوال الوقت: ( أنا عمقول لكم، يوم اللي بيخرج آخر جندي سوري، بيدخل أول جندي اسرائيلي.. اسرائيل ناطرة هالشيء.. والله لولا السوريين.. لصار لبنان قطعة من اسرائيل. ما ضروري هي تحكمو، بيكفي تعين رئيس على كيفها.. وبعدين بتعلقها بين اللبنانيين متل ما علقتها من زمان.. وهالمرة ما بتنهيها حتى يفنى كل واحد لبناني من الوجود، أو يهج من لبنان وتوطن الفلسطينيين وتحتل لبنان على كيفها.. ولولا السوريين.. ) قال له أحد الركاب ممازحاً: ( حاجة تجاملنا يا حبيب.. ماحدا طالب منك شهادة حسن سلوك.. أهلين فيك بسوريا.. نحن أهل.. فيه باللادقية وطرابلس أقارب متل ما في اللادقية وحمص أقارب.. ويمكن أكتر.. أنا أمي طرابلسية وأبوي لادقاني.. والاستاذ ( مشيراً إلي ) أبوه طرابلسي وأمه لادقانية ! ) عرفني من سفرة سابقة.. عندما وصلنا تمنيت للشاب الذي لم يبخل علينا بكل أنواع ضيافة السفر، من موز وعصير بالعلب وبسكويت محشي، قضاء أيام سعيدة في اللاذقية، فقال: ( إذا كان كل أهل اللادقية طيبين متل الشباب اللي كانوا معنا بالسيارة، فسأعمل اللي براسي وأخطب بنت لادقانية ! ).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
#منذر_مصري (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟