مازن كم الماز
الحوار المتمدن-العدد: 3262 - 2011 / 1 / 30 - 06:12
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان
لا شك أنه توجد فعليا اليوم في مصر حكومتان , حكومة الجماهير المنتفضة التي تسيطر على الشوارع و حتى على مقار البوليس و أمن الدولة و حكومة مبارك التي تختبئ خلف دبابات و عربات و بنادق الجنود و العسكر و التي بالكاد تسيطر على المباني و القصور التي تحتمي بها , الحكومة الأولى تأخذ بتنظيم نفسها و تنظيم الأمن عبر لجان شعبية , هذا المشهد تكرر في كل الثورات السابقة , و سيتكرر في كل الثورات التالية , الذي يحدث أن قوى الثورة المضادة , سواء من داخل النظام أو من المعارضة السابقة , تعتبر أن الثورة قد انتهت بتحقيق بعض الإصلاحات السطحية , إما في بنية النظام القائم بالفعل أو في بنية علاقات الملكية و الإنتاج و السلطة القائمة , أن الثورة تنتهي , و يجب أن تنتهي كيلا تكون مدخلا إلى "الفوضى" , بمجرد تنصيب نخبة جديدة مكان القديمة , و الثورتين الروسية و الفرنسية ليستا استثناءا هنا , و أنه بنهاية الثورة يجب العودة إلى الحالة "الطبيعية" , حالة السمع و الطاعة , حالة الخنوع . من الأوصاف التي استخدمت لوصف الثورتين التونسية و المصرية , أنهما مدخل للحداثة السياسية , لا أدري لماذا علينا أن نقوم دائما بتورية و إخفاء الغاية الحقيقية للجماهير من أية ثورة بل من أي حراك جماهيري و هي الحرية خلف مصطلحات إيديولوجية أخرى تعني كل شيء إلا الحرية للجماهير , و أن تستبدل هذه الحرية دائما أو تذكر بمعية مصطلحات مؤدلجة تعبر عن مصالح نخب اجتماعية أو مثقفة أو بيروقراطية دولتية كالحداثة و الليبرالية و الشيوعية السلطوية و ما شئت , حتى أنني لم أعد أستطيع استخدام الأناركية أو الشيوعية التحررية إلا بمعنى وحيد أفترض أنه معناها الفعلي و هو حرية الناس البسطاء و الفقراء و المهمشين , الحداثة السياسية لا تعني الحرية , خاصة إذا كنا نقصد حرية الناس العاديين , بل خضوعهم بطريقة حداثوية و أمام قوى حداثوية , أي على طريقة المجتمعات الحديثة لا القديمة و على طريقة البنى السياسية القمعية الحديثة لا القديمة , إنها تريد إنشاء مجتمع قائم على التراتبية الهرمية يخضع فيه الأدنى للأعلى و تعمل فيه الأكثرية لصالح أقلية ما أي تماما كما كان الحال عليه في الماضي لكن ضمن شكل حديث عصري , أنا لا أجد فرقا جذريا بين أساليب العبودية القديمة و الحداثوية إلا في الشكل أي في التعريفات الجديدة للعبد و للسيد و للعلاقة بينهما , أنه بدلا من أن تخضع للطائفة و السلطان و رجل الدين أن تخضع لرجل الدولة الحديثة و بدلا من الإقطاعي هنا رأسمالي جديد و هذا كله طوعا و استسلاما واعيا أي اختزال البشر عمليا لمهابيل يخلطون العبودية بالحرية و لا يكترثون لحريتهم الفعلية بل لإيديولوجيا الدولة الحديثة و مفكريها الحداثيين قبل لقمة خبزهم و كرامتهم و حريتهم , هذه ليست الحرية إطلاقا , أما الديمقراطية البرجوازية فتعني ببساطة أنه عليك أن تختار بين عدة مرشحين من سيمارس التقشف ضدك كفقير أو كعامل و من سيغدق من الثروة التي تتراكم من نتاج عملك و عمل الفقراء أمثالك لصالح الأغنياء كما يجري في مراكز النظام الرأسمالي : رجل أبيض أم أسود ( أي أوباما أم ماكين أو بوش ) , اسمه كاميرون أم براون , ينتمي ليمين الوسط أم ليسار الوسط , مما استوقفني أيضا في دعوة ما يسمي نفسه بالتيار الإسلامي الديمقراطي في سوريا ليوم غضب في 5 شباط العلاقة بين الدين و الحرية , أو بالأحرى , هل يمكن للدين أن يكون داعيا للحرية أو أن تكون رموزه رمزا للحرية , ألح علي هذا السؤال بعد مجزرة كنيسة القديسين في الاسكندرية عندما شاهدت الشباب القبطي يرفع الصلبان كعلامة على احتجاجه و ربما على حريته , ليست المشكلة في الصليب أو المسجد أو الأذان بذاته , لكن لم أستطع أن أمنع نفسي من ربط الصليب على الفور بجوردانو برونو و غيره ممن أحرق على ذات الصليب , و الأذان الذي يراد إسكاته في سويسرا و غيرها و الحجاب الذي يراد منعه بطريقة قمعية معادية للإنسان في فرنسا و غيرها كان هو الآخر عنوانا ليس فقط لتكفير الآخر بل و لقمع ملايين المسلمين العاديين على امتداد قرون , السؤال هل يمكن للصليب الذي أحرق عليه جوردانو برونو و لرموز الدين الإسلامي و غيره التي استخدمت طويلا كأداة وتبرير للقمع أن تكون عنوانا لحرية ما ؟ نعم , هذا ممكن بكل تأكيد , فدين المقموعين و المهمشين هو عنوان لحريتهم بالضرورة و خاصة إذا استخدم مبررا لاضطهادهم كما هو حال المسيحيين في الشرق و المسلمين في الغرب , لكن حالما يتحول إلى إيديولوجيا سلطة ما حتى يصبح على الفور أداة للقمع هو نفسه , يجب التأكيد أيضا أن الدين كأية إيديولوجيا جاهز و معد ذاتيا للعمل كأداة قمع و تهميش و قهر , لذلك فيسوع جبران و تولستوي يكره الكنيسة بوصفها مؤسسة قائمة على الدوغما و التكفير و قمع الحرية للمسيحيين قبل غيرهم , و هذا بالتأكيد حال المؤسسة الدينية الإسلامية أيضا و غيرها , أي أننا و الإسلاميين الديمقراطيين سنخوض نفس المعركة ضد الاستبداد في سوريا حتى يتحول الدين في خطابهم و ممارستهم من أداة و عنوان للحرية إلى أداة لتكفير لآخر و فرض السمع و الطاعة على المسلمين العاديين قبل غيرهم أي قبل الهراطقة من أمثالنا , أي عندما يصبحون سلطة فعلية و ليست كامنة أو مؤجلة و عندها سنتحول بنظرهم إلى مجرد هراطقة و يتحول المسلمين العاديين إلى أتباع يجب عليهم السمع و الطاعة , عندما يصبحون سجانين لسجن جديد يحشرون فيه كل المسلمين , و نحن من ضمنهم , الغريب جدا هو أنني كشيوعي تحرري أو كأناركي ( أو حسب الترجمة الستالينية البرجوازية : فوضوي ) لا يمكنني أبدا أن أؤمن باغتصاب حرية أي إنسان أو بقمعه مهما كان , لا يمكنني أن أفكر بالإنسان إلا بالارتباط بالحرية سواء أكان أصوليا دينيا أو علمانيا أو مهما يكن , و الأناركية أو الشيوعية التحررية هنا تعني أن نقطة الصفر في الحرية , نقطة الانطلاق نحو الحرية أو بداية حرية الإنسان , أو البشر , تبدأ فقط عندما يتملك هذا الإنسان وسائل إنتاجه و يسيطر على مصيره , هذه هي النقطة صفر للحرية الفعلية , التي يتفق الجميع على أنها مؤجلة إلى ما شاء الله و تحتاج إلى مراحل انتقالية طويلة تقارب الأزل , إنهم لا يتحدثون عن حرية البشر إلا بصيغة المستقبل البعيد جدا إن لم يكن الممتنع أو المستحيل , و لهذا لا يملك هؤلاء الأشخاص تفسيرا للثورات الشعبية إلا على أنها فوضى , سابقة لأوانها , بعشرات السنين أو بمئات السنين إن لم يكن بآلاف السنين ربما , كنت قبل انفجار الثورة التونسية و بعدها المصرية أكتب ردا على كتاب الدكتور عبد الإله بلقزيز عن الدولة و المجتمع الذي صدر عام 2008 في لبنان و الذي كرسه لدحض الفوضوية أو الحرية المطلقة , لا أدري إن كان الدكتور الذي يتابع اليوم كيف يستخدم الطغاة في الشرق أطروحاته و أفكاره كإنجيل أو قرآن في محاولات إخماد الثورة و تبرير جرائمهم ضد الجماهير المنتفضين , لا أدري إن كان هذا يعجب الدكتور بلقزيز ما دامت فوضى حرية الجماهير المطلقة ما زالت تقع تحت مدى رصاص القتلة و الجلادين لكن الأهم اليوم ليس أن يغير الدكتور بلقزيز رأيه بل أن يدرك الفقراء و الشبان الثائرون حقيقة دعاية النظام , رغم أنه من الممكن بالفعل أن تترافق كل ثورة مع مثل هذه الأعمال لكن المؤكد إلى حد كبير هو أن بلطجية النظام , في مصر و من قبل في تونس , هم المسؤولين عن أعمال البلطجة هذه , و أن عدم تدخل أجهزة النظام خاصة الجيش هي محاولة لتخويف الناس و فرض معادلة الانصياع للنظام القائم مقابل الحفاظ على حياتهم , إن المجزرة التي بدأت و التي قد تتصاعد في الساعات القادمة ضد الجماهير المصرية الثائرة لا يشارك فيها النظام الرأسمالي العالمي و العربي الرسمي فقط بل و كل من يصمت من النخبة على هذه المجزرة و إذا كانت قيمة الإنسان في عالم الأغنياء هذا تقاس بقيمة ثروته , رفيق الحريري و بعض أعضاء نخبة رأس المال السياسي و الإقطاع السياسي بكفة و 150 ألف لبناني و فلسطيني بكفة , و إذا لا يوجد أي مكان لآلاف الضحايا من الفقراء و الشباب التونسي و المصري و لا أي ثمن أو اعتبار في عدالة كلينتون و ساركوزي و بابا الفاتيكان و شيخ الأزهر فيجب على من تسمى بمنظمات حقوق الإنسان التي لم تتلف ضميرها بعد النظرة النخبوية للملايين من البشر العاديين أن تحضر أوراقها و قضيتها لمحاسبة بن علي و مبارك و جلاوزتهما و غيرهما من القتلة القادمين , من اللافت للنظر أيضا هذا اليسار الرسمي أو تحديدا قيادات الأحزاب الشيوعية الرسمية في سياق هذه الثورات الشعبية , أذكر لقاء أحمد إبراهيم من حركة التجديد التونسية ( الحزب الشيوعي سابقا ) مع محمد الغنوشي رئيس وزراء بن علي الذي ابتدأه غاضبا و أنهاه بأن أصبح جزءا من حكومة تضمه إلى جانب بقايا نظام بن علي , أي داء عضال أصاب هذه الأحزاب الرسمية و خاصة قياداتها لتكون بهذا الجبن و التردد و اللا مبالاة تجاه الناس العاديين , رفعت السعيد ليس إلا صورة يسارية لمبارك , إنه نفس الديكتاتور المتمسك بالسلطة حتى النهاية و لو على أشلاء جسد اليسار نفسه ( في حالة مبارك الشعب المصري كله لو اضطر الأمر ) , يخيل لي أن السبب الوحيد وراء استمرار هذه القيادات و مثل هذه التنظيمات هو أنه ما يزال هناك شيوعيين بحاجة لقيادة ما أكثر من أي سبب آخر , لا يوجد عمليا سبب آخر لاستمرار قسم كبير من اليسار العربي الذي أصبح عمليا بلا طعم و لا رائحة , شكلا بلا مضمون , جزءا من كل المساومات المتتالية مع كل قوى الاستبداد و الطغيان و الاستغلال المحلية و الإقليمية و العالمية , لفهم فكر و وعي جزء من هذه القيادة التاريخية لليسار العربي إليكم هذا المثال : في مراجعته لتجربة اليسار العربي و اللبناني و العالمي ( كتاب الفكر العربي و تحولات العصر – دار الفارابي ) احتاج كريم مروة و محاوره عبد الإله بلقزيز لأقل من سطر ليحكموا بفشل تجارب التسيير الذاتي و المجالس الشعبية و بضرورة دولة ما مختلفة بالضرورة عن الدولة الستالينية السابقة أي أنها لن تتدخل في العملية الإنتاجية لكنها مع ذلك ضرورية بكل جبروتها و أجهزتها لاستمرار المجتمع كما قالا , لا لاستمرار النظام الطبقي و نظام العبودية السياسي القائم , إنها إذن باختصار الدولة الليبرالية الجديدة بالتحديد و ليس لها أي معنى آخر , شيء أخير , هو جزء من تجربتي الخاصة مع اليسار لكني أعتقد أنها مرتبطة بشدة بالصراع القائم اليوم , لعل الحادثة التي دفعتني لأصبح شيوعيا تحرريا أو أناركيا كانت في إطار بحثي أولا عن تفسير لسيطرة البيروقراطية على مجتمعاتنا اليوم و عن طريق التحول الضروري نحو علاقات اجتماعية تعني حرية الناس العاديين ( التي اقتنعت تماما أنها ثورية ) و من ثم عن صورة لمجتمع ما بعد الثورة , المجتمع الشيوعي المسير ذاتيا من جانب المنتجين دون بيروقراطية أو سلطة فوقية أو علاقات استغلال , من الكتب الممتازة في هذا الخصوص كتاب لكروبوتكين بعنوان الاستيلاء على الخبز و آخر لكاستورياديس عن مجتمع مسير ذاتيا يقوم على مجالس عمالية و شعبية تتحد طوعا و دون أن تنتج بيروقراطية ما فوق المنتجين و كلاهما موجودين على الانترنيت و أرجو أن أنهي ترجمتهما قريبا , و كتاب لاقتصادي أناركي أمريكي اسمه مايكل ألبرت اسمه الحياة بعد الرأسمالية , في الكتاب اقترح ألبرت اقتصادا أناركيا سماه الاقتصاد التشاركي Participatory Economics أو الباركون اختصارا و هناك الكثير من المعلومات عنه على موقع زد نت الأمريكي التقدمي , في هذا الكتاب حاول ألبرت أن يرسم صورة لاقتصاد قائم على التضامن و العمل المشترك , من جملة ما اقترحه ألبرت أن يجري توزيع الأعمال اليدوية المملة على جميع البشر بالتساوي بغض النظر أيا كان مستواهم العلمي أو مهنتهم الرسمية , أذكر جيدا ذلك الحديث الذي دار بيني و بين شخص يساري "جدا" , أخبرته في سياق حديثنا عن اقتراح ألبرت هذا فثار في وجهي على الفور و بشكل عفوي قائلا : لماذا ؟ ألا يحتاج مجتمعك هذا لحكام ؟ ألا يحتاجون لقادة ؟ لماذا علي أن أعمل مثل هذه الأعمال بينما يوجد الآلاف بل الملايين ليقوموا بها بينما لا يوجد إلا قلة مثلي ليقودوهم ؟ سأعفيكم من ردود أصدقائي الليبراليين جدا أيضا على اقتراح ألبرت هذا , في تلك اللحظة بالذات أدركت حدود أي خطاب و تفكير نخبوي , يساري أو يميني , ليبرالي أم ستاليني , أدركت أن هذه النخب لا تفكر جديا بتحرير الناس و تذكرت على الفور شعار الأممية الأولى الذي ما زال شعار الأناركيين و شعار الماركسيين التحرريين من أن تحرير العمال , و المهمشين عموما لن يكون إلا بأيديهم , منذ ذلك اليوم وجدتني و قد كفرت بكل قمع و استبداد , كل استغلال و طغيان , و أصبحت فقط مؤمنا بالأناركية , مؤمنا فقط بحرية الإنسان , تلك التي يقاتل الشباب اليوم في شوارع سيدي بو زيد و صفاقس و القاهرة و الاسكندرية و السويس و يضحون بأرواحهم في سبيلها .....
#مازن_كم_الماز (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟