|
قراءة في عشرات الحصى للقاصة بيداء كريم
كاظم الشويلي
الحوار المتمدن-العدد: 3261 - 2011 / 1 / 29 - 21:05
المحور:
الادب والفن
كاظم الشويلي قراءة في عشرات الحصى للقاصة بيداء كريم
لقد حرصت القاصة ( بيداء كريم ) أن تبدأ قصتها الموسومة ( عشرات الحصى في كبد مزقته أنياب الطاغية ) بكلمة ( ألم ) وكأنها تريد أن تدخلنا إلى أجواء وعالم من العذاب والخوف والفزع والترقب خصوصا وان العنوان يشير إلى هذه الأجواء القاسية : (ألمٌ في ذلك الزقاق ... ) . ومن ثم تسرد لنا القاصة بعد كلمة ألم - والتي تحمل مداليل واسعة - بأسلوبها الشيق الحكاية التي جرت في إحدى أزقة الكاظمية ، حيث تدور حول تشريد وإعدام أسرة لن يبق من أفرادها أحدا وتعتبر هذه الأسرة هي واحدة من ملايين الضحايا للنظام البائد حيث شرعت القاصة بوصف بطلة القصة ( خديجة ) وهي تنتظر عودة أبنائها ويتعبها الانتظار ولا يمر عليها سوى الليل الذي يقبلها لتنام و لا يعيد لها ذكرياتها سوى أريكتها ولا يسكت عن الثرثرة مذياعها ، وكأنها تنتظر منه أن يذيع إطلاق سراح أبنائها من سجن الطاغية . نطالع السرد الرائع : ( الحكاية جرت في زقاق من أزقة مدينة الكاظمية حيث عدد من الأبناء اعدموا والآخرون هربوا إلى المنفى، أو غُيبوا في سجل المفقودين الأبديّين، وختمت الدار بالشمع الأسود ولم يعد في المنزل من ضحك الأطفال ، وسعال الكبار او من ذلك الضجيج العائلي المحبب، وماتت العمة خديجة على حسرة أبنائها الذين اعدموا بطشاً وظلماً،ً ولم تر أي من أبنائها وهي تموت. مذ أدركتُ الحياة وتلمستُ خشونتها علمت ان عمتي خديجة إنسانة صعبة الوصف ، وهي تجلس جلسة القرفصاء عند عتبة الدار يوميا قبل هروب الضوء في ذلك الزقاق البعيد عن الحياة وعن الشمس ،فتجلس على بساطها الفقير بفوطتها التي تعبق خيوطها السوداء بطيبة معطرة بعطر النرجس .. وتغطي عينيها بنظارة طيبة سوداء كسواد القدر،فتحوك صبرها بصمتٍ موجع، وتفتش في انتظار أعرج عن عودة أبنائها الذين رحلوا ولم يعودوا، اختفاء مربك وتيه يشبه دوي الإعصار، وخوفا من أن تبوح بحزنها، فضلت الأنزواء والانتظار لئلا يُمزّق فتيل الامل.. أبناء وبنات في ريعان الشباب، فقدتهم الواحد تلو الآخر بتهمة خرساء مضحكة وكأنها نكتة تافهة تمر من لسان سفيه.. )
لقد كانت فكرة القصة ممتازة وتستحق ان تؤرشف وان تدون كشاهد على ظلم وهمجية النظام الذي احرق الأخضر واليابس وقد استخدمت القاصة ( بيداء كريم ) أسلوب سردي مميز سلس ينساب كما تنساب المياه الصافية وقد انهالت صور البؤس والعذاب بكثافة وكتبت وبطريقة سردية جميلة اقرب إلى الشعرية وقد شحنت القاصة ( بيداء ) أجواء القصة بالحزن والألم والترقب والتساؤلات عن مصير الضحايا الذين غيبتهم عصابات الجريمة المنظمة ، نطالع ونحن نكتوي بسوط القسوة : (... وبعد ضياع النهار بين الأزقة ، يأتي المساء محملاً بالوجع فيحط على جبهة عمتي ويقبلها قبلة عقيمة تسعفها لليوم الثاني ، ذلك المساء الذي يطرق كل الأبواب كمتشرد ضائع.. فتنهض متعبة الأفكار وقد تراقصت أمامها الكثير من الحكايات والتوقعات المجنونة ،لتحمل بساطها الممزق ، وتدخل الدار فتعانق أريكتها الخشبية المفضلة ،وتجالس مرافقها الذي يثرثر بفضاضة ،وهو صوت المذياع، تسمعه بعجزٍ لربما يحمل لها خبراً ساراً عن إعفاء طابور من السجناء ،ولربما يكون من بينهم أبناؤها الذين أشتاقت الى ضمهم بشدة. وبعد عناء متعب ،تفترش سجادة الصلاة لتتوجه الى من يمكنه أن يطعمها صبراً جميلا ، غريبة العمة خديجة ،وهي لا تملك سوى سجادة ومسبحة ورغيف من الخبز المفتت وقدح من الشاي القاتم ولفافة تبغا ممزقة، وهي ترتدي لباساً يحاكي الليل والقدر في لونه ، وصحبة يائسة مع مذياع أخرق ،أما النوم فكان عدواً من نار يلهب أجفانها المثقلة بدموعٍ صامتة صمت الفراغ، حين يأتي الليل بصحبة طويلة تفوق ساعات العد الطبيعي وكأن الزمن كله في ليل ،لتبدأ رحلتها مع الألم الذي يتربع في أحشائها، وألم الكبد الذي ينهشها يومياً وكأن حيواناً مفترساً ينقض على كبدها لينهشه قطعة قطعة، ومع ذلك تصرّ على ان تجالس أفكارها المتشابكة، التفتيش عن قشة وسط تل من النفايات ،إنه البحث غير المجدي في اللامكان، إنه لهوسٌ أرعن أن تعيش على أملٍ مخادع،مراوغ، يحب لعب لعبة الغميضة معك. ) . لقد كانت القاصة بارعة ومقتدرة في تصوير شخصية العمة (خديجة) وتصوير معاناتها الجسدية والنفسية و إضفاء أجواء الألم والعذاب على مناخات القصة ،ووصف التداعيات التي طورت الأحداث ، مما جعل هذه القصة تحرز شروط القصة القصيرة وبجدارة ، نتابع السطور الأخيرة لنهاية المأساة :
(شيئاً فشيئاً اشتد الألم عليها ،بعد مرور أيام وشهور وسنين اضطرت بعدها إلى الذهاب والبحث عن من يسعفها ،توجهت إلى الطبيب الذي ذهل حين فحصها ،ليقرر فوراً إجراء عملية لكبدها الذي يكاد ينفجر، فقبلت لإحساسها بلا جدوى الرفض.وأجريت لها العملية فأخرج الطبيب من كبدها حصىً بعدد"62 " كانت نابتة في جسدها الهزيل. وبمرور الأيام لم تستطع تحمل الألم الثقيل ،فرحلت مع خيوطها البيضاء،مخلفة أبناء رحلوا إلى طريق تحرسه القضبان والكلاب، بعدما صدمت ذات مساء بمجيء كلاب زيتونية لتخبرها ضرورة أن تدفع ثمن الرصاص، رصاص هشم جسد ابنائها وبنتيها ،ولم تأخذ معها غير حفنة تراب. ومذياع وسجادة ،بجانب قبر! هكذا رحلت عمتي خديجة بصمت كما عاشت بصمت ) ولقد تمكنت القاصة من أن تنتزع الحزن والألم والوجع من لدى المتلقين ، وان تحرك مشاعر التعاطف مع بطلة القصة وان تجعل هذه القصة شاهد على ممارسات عبثية بشعة للسلطة البائدة . فتحية للقاصة المبدعة بيداء كريم ..
#كاظم_الشويلي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قراءة نقدية في الأيام العشرة للقاص راضي المترفي
-
البراعة السردية للقاص رياض الاسدي
-
ما بين السخرية والمرارة في بيبسي للقاصة بان الخيالي
-
بقعة ضوء على الرؤوس المتطايرة للقاص حمودي الكناني
-
الزيلفون
-
الخيالات الصادقة للقاص أنمار رحمة الله
-
نظرة سريعة لإبداعات القاص جعفر المكصوصي
-
الوجوه البيضاء للقاص خزعل المفرجي
-
أحلام القاص عبد الفتاح المطّلبي
-
لمحة نقدية لقصص المبدعة سنية عبد عون رشو
-
القاص جيكور ... عندما يتحفنا بروائعه
-
الشاعرة رغد صدام ...وعلى الدنيا السلام
-
قُتل الإنسان ما أكفره ....
-
تايتانيك عراقية ...
-
شتاء جهنم ..... قصة قصيرة
-
اقراط سوسن ..... قصة قصيرة
-
أين أنت ...... يا نجمة الصباح
المزيد.....
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|