أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية - ياسين الحاج صالح - مغتسلا بالنار، المغمورُ بطلا














المزيد.....

مغتسلا بالنار، المغمورُ بطلا


ياسين الحاج صالح

الحوار المتمدن-العدد: 3260 - 2011 / 1 / 28 - 18:07
المحور: الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية
    


بذاته، وليس بالمحصلات غير المحسوبة لعمله، كان إقدام محمد بو عزيزي على حرق نفسه فعل حرية فذّا. لقد انتهك الرجل محرما دينيا قارا. الشاب الناحل، ذو الست وعشرين سنة، لم يتقصّد ذلك، لكن لا ريب أنه يعرف أن "قتل النفس" محرّم في الإسلام. وحين لم يبال بهذا التحريم، كان يُغلَّب حكمه وانفعاله الشخصي على حكم ديني عتيق وراسخ عبر الأجيال. في هذا بادرته الشجاعة فعل حرية. ولا ينال من هذه الصفة الغياب المرجح، بل المؤكد، لدوافع مضادة للدين أو لأية دواع إيديولوجية محددة. بالعكس، كان من شأن وجود دوافع أو دواع كتلك أن يدرج تضحية بو عزيزي في مخطط عام، فيسلبها شيئا من فرادتها وشخصيتها. "بسبوس" (لقبه العائلي) لم ينو أن يكون "شهيدا" أو قدوة أو مثالا عاما. ولعله لذلك كانت دلالة تضحيات مماثلة لتضحية محمد التونسي في بلدان عربية أخرى مغايرة لدلالة احتراقه هو. موته هو مدشِّن، قيمته مطلقة، موت من مات منهم مُحاكٍ، يندرج في مخطط أوسع؛ ولعلهم أملوا أن تثير تضحياتهم مسلسلا احتجاجيا كهذا الذي أطلقه موت محمد.
وأن يختار الشاب الذي يبدو من صورته خجولا الموت حرقا، أن يختار النار التي هي، تعريفا، ما يمتنع اختياره أو الاستجارة به؛ التي هي أيضا العقاب الإلهي، المطلق، لأمرٌ يرفع مما تتضمنه تضحيته من شجاعة وطاقة تحررية. لكن لعله ما كان لمحمد أن يعاقب نفسه بالعقاب الإلهي إلا لأنه أراد أن يتطهر من تلوث عميق. لقد أهين، صُفِع على وجهه ورُكِل، طُعِن في صميم كيانه. "لبِسه" العار، وأكملُ التطهر من العار هو الاغتسال بالنار. ولعله في ذلك يصلح رمزا عربيا للتطهر من عار يعمّنا منذ جيلين.
ولم يكن فقدانه الخبز هو ما يهينه، ولا حتى الحرمان من العمل (بالمصادرة المتكررة لعربته)، أي منعه من أن يتحمل مسؤولية نفسه، وربما إعالة أمه؛ بل ما يتضمنه ذلك كله من أنه لا شأن له، ليس أحدا. هذا ما يهين الفقراء في الفقر. ليس الجوع، ليس الحرمان من الخبز أو العمل، بل ما يعنيه ذلك من أنه لا اعتبار لهم، لا فرق بين وجودهم وعدمهم، أنهم لا شيء. لذلك فإن تعابير مثل انتفاضة الخبز أو الجوع ليست في مكانها. إنها تصدر عن اعتقاد أن البطون أولى من النفوس، والخبز أهم من الكرامة. وهذه عقيدة نظمنا السياسية جميعا بالمناسبة، وإيديولوجييها المأجورين، وهي تضمر أن عامة الناس في بلداننا إن لم يكونوا حيوانات في حاجة إلى علف، فإنهم حيوانات تحتاج إلى عصا لتسييرها.
لم يكن موت محمد بو عزيزي انتحارا. لم يحفِّزه شعور بعبثية الحياة أو لا معناها، ولا حتى مشقتها وعسر نيلها أو نأي مبناها. إنه تأكيد جوهري للكرامة الإنسانية كأساس لحياة تسمو فوق العيش. ويحتمل أن صفعه من قبل امرأة زاد من حدة شعوره بالمهانة (من شأن هذه أن تكون نقطة طيبة في برنامج "توك شو" مفترض على قناة فوكس نيوز مثلا، يتداول الكلام فيها "خبراء في الشؤون العربية"، من أمثال فؤاد عجمي أو كنعان مكية). لكن ما كان لصفعةٍ على الوجه أن تكون أقل إهانة لو جاءت من رجل إلا قليلا. يتضاءل شأن جنس الصافع حين يأتي من ذلك المسخ العدواني البهيم الذي نسميه "السلطة". ليس لهذه جنس. لا نساؤها نساء ولا رجالها لا رجال. إنهم كائنات لا جنسية تتكاثر بالخوف والذل.
محروما من العمل، مهانا، كان احتراق بوعزيزي إدانة لترتيب سياسي اقتصادي، يسميه هو "زمان غدار"جريا على مألوف عربي عريق، لا يوفر له فرصة حياة كريمة، ويمنعه من توفيرها لنفسه. وهو في هذا ليس وحيدا. واحدٌ من مئات الألوف الذين أزاحت احتجاجاتهم الشجاعة طاغية لا معنى له. وبينما كان بو عزيزي الشاب المحترق صانع حرية فذا، كان بو عزيزي المهان، الفاقد العمل والأمل، شخصا جمعيا عاما، استطاع أن يغلب نظاما عُرِف عنه تماسكه وسطوته الأمنية وبطر أربابه.
لم تكن تضحية محمد التونسي فعل عنف. لم يقتل أحدا ولم يؤذ أحدا. لم يدمِّر شيئا. أراد أن يزول هو وحده. أن "يسافر" و"من غير رجوع"، هو "الضايع في طريق" لا يد له فيها، كما ورد في كلماته الأخيرة لأمه. ولقد آلمها هي وأشقاءه فقط. لكن إرادة تطهّره كانت أقوى من رابط الأسرة القوي. وفي هذا أيضا كان احتراقه فعل حرية. البطل ينفصل ولا يعود.
ذكرت الأنباء أنه حين سمع زين العابدين بن علي بحرق محمد بو عزيزي نفسه، علق بالقول: فليمت! بعد أسابيع قليلة، كان محمد رمزا لحياة تونس الجديدة، وبن علي رمز تونس القديمة، كل ما يريد له التونسيون أن يموت.



#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- في تونس ثورة... مفتوحة الآفاق
- من نزاعات الهوية إلى الاحتجاج الاجتماعي
- مناقشة لكتاب -السلفي اليتيم- لحازم الأمين
- الماهية والكراهية: الأديب الفصيح ضد -الرعاعة الأمة-
- خاووس
- يتغير السودان، المهم ألا يتغير النظام
- المرض بالإسلام...
- عرض نقدي لكتاب جلبير الأشقر: العرب والمحرقة النازية، حرب الم ...
- ويكيليكس والدول
- الحلول بخير في مصر، والمشكلات أيضا!
- في الكاريزما وصناعتها وأطوارها وتوابعها الإيديولوجية
- هذا الفصام الكردي المستمر...
- عدمية فيض المعنى: نظرات في أصول العنف الإسلامي
- من العداء للغرب (والتمركز حوله) إلى إصلاح العالم
- إيران وتركيا وتحولاتهما الامبراطورية
- حوار هادئ في قضايا راهنة
- الطائفية كمحصلة لأزمة الهيمنة الوطنية
- هل من معنى عام لتقييد المظاهر والرموز الدينية في سورية؟
- من التحرر السياسي إلى الانبعاث الثقافي والأخلاقي
- تطور معكوس: الطبيعة والماضي يسيطران... والخارج أيضا


المزيد.....




- الجزء الثاني: « تلفزيون للبيع»
- عز الدين أباسيدي// لعبة الفساد وفساد اللعبة... ألم يبق هنا و ...
- في ذكرى تأسيس اتحاد الشباب الشيوعي التونسي: 38 شمعة… تنير در ...
- حزب الفقراء، في الذكرى 34 لانطلاقته
- تركيا تعزل عمدة مدينتين مواليتين للأكراد بتهمة صلتهما بحزب ا ...
- تيسير خالد : سلطات الاحتلال لم تمارس الاعتقال الإداري بحق ال ...
- الديمقراطيون لا يمتلكون الأجوبة للعمال
- هولندا: اليمين المتطرف يدين مذكرتي المحكمة الجنائية لاعتقال ...
- الاتحاد الأوروبي بين مطرقة نقص العمالة وسندان اليمين المتطرف ...
- السيناتور بيرني ساندرز:اتهامات الجنائية الدولية لنتنياهو وغا ...


المزيد.....

- سلام عادل- سيرة مناضل - الجزء الاول / ثمينة ناجي يوسف & نزار خالد
- سلام عادل -سیرة مناضل- / ثمینة یوسف
- سلام عادل- سيرة مناضل / ثمينة ناجي يوسف
- قناديل مندائية / فائز الحيدر
- قناديل شيوعية عراقية / الجزءالثاني / خالد حسين سلطان
- الحرب الأهلية الإسبانية والمصير الغامض للمتطوعين الفلسطينيين ... / نعيم ناصر
- حياة شرارة الثائرة الصامتة / خالد حسين سلطان
- ملف صور الشهداء الجزء الاول 250 صورة لشهداء الحركة اليساري ... / خالد حسين سلطان
- قناديل شيوعية عراقية / الجزء الاول / خالد حسين سلطان
- نظرات حول مفهوم مابعد الامبريالية - هارى ماكدوف / سعيد العليمى


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية - ياسين الحاج صالح - مغتسلا بالنار، المغمورُ بطلا