|
ثورة تونس المجيدة.. وصناعة التاريخ
عبد الإله إصباح
الحوار المتمدن-العدد: 3258 - 2011 / 1 / 26 - 15:20
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
ما من شك أن الثورة التونسية المجيدة تشكل حالة فريدة في تاريخ الثورات التي عرفها العصر الحديث، من حيث طبيعتها وشروطها وتوقيتها. ومن المؤكد أنها ستكون إضافة نوعية في علم وسوسيولوجيا الثورة بما هي نقلة نوعية في التاريخ. ولعل ما يلفت الانتباه فيها، أنها تمت بدون أن يسبقها تأطير سياسي أو ايديولجي لتنظيم أو حزب من الأحزاب، ومع ذلك فإن مضمونها السياسي واضح لا غبار عليه، تؤكده الشعارات والمطالب التي ترفعها وتلح عليها. وقد حققت نفسها كثورة بمجرد أنها تبلورت في البداية على شكل انتفاضة، سرعان ما أخدت تمتد على صعيد القطر التونسي كله، وتضمن لنفسها استمرارا زمنيا فاجأ النظام الذي كان قائما وأربك جميع حساباته. فأن تحدث هذه الانتفاضة في ظل نظام بوليسي وحديدي اجتث كل عمل سياسي معارض، هو في حد ذاته ثورة. أما وأن تؤدي إلى إسقاطه وهروب رئيسه، وتستمر متوقدة، مطالبة برحيل جميع رموزه دون أن تستند على تنظيم سياسي، فذلك ما يشكل بحق تميزها ونوعيتها، ويجعلها ثورة شعبية حقيقية قام بها الشعب بنفسه دون أن ينوب عنه تنظيم أو نخبة. ولعل المتأمل في مجريات هذه الثورة المجيدة يستطيع أن يستخلص مجموعة من الدروس والعبر التي تساعد على تجديد تصورنا لمفهوم الثورة وإغنائه بالاستناد إلى تجربة نوعية وخلاقة. وأول هذه الدروس أن الثورة إذا ما توفرت شروطها ونضجت، فإنها لا محالة تحدث، وتشتعل بسرعة مفاجئة ومذهلة خارج أي توقعات، ويمكن أن تكون شرارتها مرتبطة بحادث لا يؤدي في سياق آخر إلى نتيجة مماثلة، أي قيام ثورة تحدث قطيعة في تاريخ بلد من البلدان. وهذا يعني أن الثورة التونسية توفرت شروط نضوجها وقيامها دون أن تثير الانتباه، وهذا هو السبب في كونها كانت مفاجئة وغير متوقعة. وإذا كانت شرارتها اندلعت إثر إقدام الشهيد محمد البوعزيزي على إحراق نفسه احتجاجا على المس بكرامته، فإن ا لا يعني أن قيامها خضع لمجرد صدفة. إنها حتما كانت ستندلع لأن ظروفها توفرت ونضجت، وكانت تبحث عن الشرارة فوجدتها في ذلك الحادث المأساوي المنطوي على بطولة حقيقية، وكان يمكن أن تجدها في غيره. ولقد تكرر ذلك الحادث المأساوي في بلدان أخرى عربية دون أن يؤدي إلى ثورة أو حتى إلى مجرد انتفاضة، وهذا يعني أن الثورة ليست وصفة جاهزة يمكن تطبيقها على أي بلد. إنها حدث نوعي ومفصلي في تاريخ الشعوب، لا تقوم إلا ضمن شروط وملابسات هي من التركيب والتعقيد الذي يجعل كل ثورة تختلف عن الثورات الأخرى بتميزها وفرادتها. والثورة التونسية هي ثورة من حيت أنها حدث غير مسبوق في تاريخ العرب، فلم يحدث أن تم إسقاط نظام عربي بهذه الطريقة النوعية المتمثلة في انتفاضة الجماهير ضد الديكتاتور، واستمرار الانتفاضة إلى غاية سقوطه وفراره. هي ثورة قد تشكل فاتحة عصر جديد في المنطقة العربية برمتها تماما كما كانت الثورة الفرنسية بالنسبة لقارة أوروبا. هي ثورة من حيث أنها تفتح أفاقا للتغيير جذرية، كانت تبدو إلى حين قريب مستحيلة وغير مفكر فيها على الإطلاق. وهي كأي ثورة، مهددة بالردة عليها من قبل الرجعيين والانتهازيين، وإمكانية تنظيم ثورة مضادة لها من قبل الامبريالية، فباستثناء بيئتها التونسية الحاضنة لها لحد الآن، فإن المحيط الإقليمي والدولي للأنظمة معاكس لها تماما. ونجاحها في مقاومة عوامل الارتداد هذه، سيكون معجزة حقيقية تعبر عن عبقرية الشعب التونسي العظيم. وهي مطالبة لكي تضمن نجاحها أن تحافظ على مكاسب الحداثة الموروثة عن الحقبة البورقيبية المتمثلة في مدونة الأسرة التي تشكل حالة متقدمة فيما يخص حقوق المرأة ومكانتها في المجتمع. كما أنها مطالبة بترسيخ مناخ العلمانية الموروث هو الآخر عن الحقبة ذاتها، كمناخ ثقافي جعل الدين في المجتمع التونسي يحتل حيزه المناسب دون أن يتجاوز ذلك إلى حالة من التزمت والتعصب على غرار العديد من البلدان العربية. ولعل إحدى حيل التاريخ ومكره أن بورقيبة استطاع أن ينتقم من بن علي من خلال هذا المناخ الثقافي بالذات المرتبط بنشوء طبقة وسطى متعلمة ومثقفة، ما من شك أن سياسة بورقيبة ساهمت في نشوئها، حتى لو افترضنا عدم قصده ذلك، وهي طبقة بحكم مستواها الثقافي، تمتلك حسا ديمقراطيا مناهضا للاستبداد، وهو الحس الذي يفسر هذا التضامن التلقائي بين أفرادها، وهذه التعبئة على أساس شعارات ذات خلفية مدنية وديمقراطية شكلت اللحمة الجامعة لهذه الثورة، وضمن نجاحها على الأقل في الإطاحة بنظام استبدادي سيج نفسه بمجموعة من الأجهزة الأمنية والقمعية. أي نعم، نحن أمام ثورة مجيدة تصنع التاريخ، لأنها تشرعه على آمال عريضة وعظيمة بعد يأس مستحكم، و تفتحه على مسلسل من التغييرات الثورية جديدة ومبتكرة تماما.
#عبد_الإله_إصباح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
محمد عابد الجابري.. ومسألة العلمانية
-
علاقة التلازم بين الديمقراطية والعلمانية
-
تمفصلات الحقوقي والسياسي في مسألة العلمانية
المزيد.....
-
منشور يشعل فوضى في منتجع تزلّج إيطالي.. ماذا كتب فيه؟
-
-أم صوفيا-.. سلمى أبو ضيف تنجب طفلتها الأولى
-
رداً على تصريحات ترامب بشأن -تهجير- أهل غزة، دعوات إلى التظا
...
-
اللجنة المحلية للحزب في الديوانية: ندين الاعتداء على المحتجي
...
-
حادث مطار ريغان يربط موسكو وواشنطن في مباحثات إنسانية
-
غزة.. انتشال 520 جثة من تحت الأنقاض منذ وقف إطلاق النار
-
الدفاع الروسية تعلن تحرير 6 بلدات في كورسك ودونيتسك وخاركوف
...
-
وقفة صامتة أمام السفارة الأمريكية في تل أبيب للمطالبة بالإفر
...
-
بيسكوف: التعليق على تكهنات حول -قوات كوريا الشمالية في كورسك
...
-
فنلندا.. منع طالب من زيارة محطة نووية بسبب جنسيته الروسية
المزيد.....
-
الخروج للنهار (كتاب الموتى)
/ شريف الصيفي
-
قراءة في الحال والأداء الوطني خلال العدوان الإسرائيلي وحرب ا
...
/ صلاح محمد عبد العاطي
-
لبنان: أزمة غذاء في ظل الحرب والاستغلال الرأسمالي
/ غسان مكارم
-
إرادة الشعوب ستسقط مشروع الشرق الأوسط الجديد الصهيو- أمريكي-
...
/ محمد حسن خليل
-
المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024
/ غازي الصوراني
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
المزيد.....
|