نبيل قسيس
الحوار المتمدن-العدد: 3247 - 2011 / 1 / 15 - 09:45
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
لم يكن المشهد العربي ما قبل تاريخ محمد بوعزيزي يشير الى اي ضوء واعد في الافق او أي بارقة امل توعز بأن خيوط فجر هذه الجماهير الغافية قد بدأ يلوح, وان موعد استيقاظ النيام قد ان. لقد كان هناك يأسا داكنا وقنوطا مريرا يحيط بمستقبل تلك مئات الملايين من الشعوب العربية.
الهزء من ذلك الواقع المرير لم يكن حصرا على الطرفاء من اصحاب النكات التي تعبر عن هذا الواقع ولا بمثقفي الامة ولا كتابها وصحافييها ممن تبقى عندهم شيئ من الضمير يمنعهم من ان يبيعوا قلمهم للسلطان, لقد كانت هناك محطات فضائية ببرامجها الشهيره تهزء وتكرر الهزء بالوانه المختلفة من غفوه هذه الشعوب وهوان امرها وقزامة هامتها, حتى ان الجزيره وعلى لسان بعض نجومها قد تكرر ولأكثر من مرة اوصاف لاذعة بحق هذه الشعوب, فمن قطيع الى شعوب نائمة لاتحركها وخزه برد ولا لسعة نار, الى اخر تساؤل عند هبت ثورة تونس " أما هي الا ثورة جياع"
المتأمل لمسرح الاحداث العربي يشعر بكثير من نفاذ الصبر علما ان قراءة التاريخ تعلمنا بصرامه ان الاحداث العظام لاتأتي بليله وضحاها, وان حركة التاريخ تصب في بحر مصالح الشعوب.
كم اثارت قضايا الجموع من جدل طويل حول ان كانت تلك الجموع مجرد كتل عطالة او ان كمون يرقد في احشائها لاندري متى يعبر عن نفسه. كسيالة نواه الارض التي تبدو هادئة وادعه لاحراك على سطح قشرتها ولاتلبث أن تفاجئنا بزلزال او بركان او انشقاق في القشره يؤدي الى تكوين خريطة الارض من جديد.
هذا تماما ماحدث في تونس انه الكمون الذي فار الى السطح , الافا ينتحرون كل يوم وعشرات يفجرون انفسهم ليحصدوا اخرين معهم. فما الذي جعل انتحار البوعزيزي مفتاحا لفجر جديد. هل كانت تونس تختمر بهدوء وسكينة طوال تلك السنين, كل شيئ كان يشير الى ان الامور كانت اكثر من عادية, جهاز قمعي مثيل لغيره, سجون مسورة تبتلع الاحرار, وناس قد سرق الجري وراء الخبز منهم كل طاقة وكل عزيمة للتغيير, المشهد نفسه في كل مكان في العالم العربي.
نعم هناك خصائص تميز تونس, فالتنوير الذي قاده الديكتاتور الاول الحبيب بورقيبة اسس لمجتمع اكثر انفتاحا واكثر غربية في اهواءه. الحركات الاسلامية الاصولية هي بدورها اقل دموية ان لم نقل انها عديمة الدموية, بل اكثر انفتاحا من مثيلاتها عند جيرانها من العرب المسلمين. الجيش الوطني التونسي اكثر حيادا بل دلت الاحداث انه على الحياد تماما وقد حصر مهامه في ما يجب ان تكون عليه الجيوش. ولكن هذه الفوارق الضئيلة ماكان متوقع منها ان تؤدي الى فارق كبير بصيرورة الاحداث مابين تونس وجيرانها. فمصر وهي العريقة بحراك مثقفيها وقوى مجتمعها, والعريقة ايضا بطغيان مستبديها, وهي الاكثر عراقة بطوفان الجوع في شوراعها, لم تخلق الاحداث حتى العظيم منها طفرة كالتي احدثت في تونس.
هل شدة القمع هي من حرك نقمة جماهير تونس, حيث تصنف اجهزه امن تونس ونظام بن عابدين المستشرس من اجل البقاء في السلطة واحده من اسوء الاجهزه والانظمة بمقاييس المنظمات الحقوقية, لااعتقد ذلك ففي اماكن اخرى على قشرة العالم العربي تعدى القمع حدود القمع حتى كانا فائضا. ام ان هذا هو بيت القصيد فلم يكن هو الظلم الكاسح الذي يفيض باجواء الرعب القاتلة كما حدث في ارض العراق ولم تكن باجواء يمكن ان تصنف فقط بتأديبية كما كانت تماما في عهد مستبدها السابق الحبيب بورقيبة.
مها بلغ التعجب من مدى, ومهما تفلسفنا في شرح الاسباب والفروقات كبيرها وصغيرها, فأن ماحدث في تونس هو انعطاف حاد في مجرى التاريخ ليس التونسي فحسب بل العربي برمته.
فعندما ثارت الجموع في ايران لم يكن احدا ليتصور ان ذالك النظام الشاهاني الالفي سيسقط باسهل من سقوط ورقة خريف, ولكن بعد ماحدث كل هذا ادخل المحللون الاستراتجيون عامل الدين في حساباتهم ورجحوه على حساب كثير من العوامل الاخرى التي تشدقت نظريات اقتصادية سياسية علمية في التنظير لها وتوثيقها وتنصيصها, واصبحت ثوره الملالي بعدها بعبعا لاخافة الصغار النائمة في احضان مستعبديها. فحتى البارحة ومن على منبر الجزيره حاول احد الاعلاميين التونسيين ممن باعوا قلمهم وضميرهم لجلادهم , ان يخيف قومه بأن البديل عن الطاغية قد يكون طاغية اخر يلبس عمامة ويمتشق سوطا.
وعندما سقط نظام صدام حسين الدموي على يد جحافل الجيش الامريكي, كانت الفرحة التي لم تكتمل فهذا سقوط اعتى طاغية لم يكن على يد شعبه فكانت تبعات السقوط مره المذاق بفم الشعوب المتعطشة لان ترى جلاديها يساقون كالانعام الى المحاكم ومن ثم السجون او حبال المشانق او يسحلون على ايدي شعوبهم الحانقة فيردد الجميع بيتا جميلا للشاعر السياب "عربد الثأر فانهضي ياضحايا واطرحي عنك باردات الصفاح"
الدعوه الى التغيير الى الاصلاح والى انهاء الاستبداد حلم تحول الى غصة في حلوق الاحرار الذين خذلوا من شعبوهم اولا والذين سحقوا من جلاديهم ثانيا, تلك الجماهير التي تحولت الى اداة في يد جلاديها لسحق قديسيها واولياءها, مافتئت تردد دون فقه عبارات قد تعبت انظمة الاستبداد نفسها من تردديها. وانتشرت عدوى الخوف من التغيير حتى عند كثير من مثقفي الامة, فما اكثر ماتردد على المسامع وما أكثر ماقرأ من تحذيرات حول ان اي محاولة للتغيير لن يكون ثمنها اقل من الثمن الذي دفعه العراق, لابل اكثر من هذا اصبح ذلك الثمن الذي دفعه الشعب العراقي مقابل تحرره من عبودية صدام مصدرا للشتماته من كارهي شعوبهم وناسهم, وكارهي الحرية.
لقد تحولت نشوة سقوط نظام الاستعباد الى خيبة امل مريرة, فلطالما حلمنا جميعا ان نستيقط صباحا لنقرا او نسمع اخبار نهوض شعب العراق العريق في تحديه للجبابرة, فيكون عبرة لنا جميعا ان اردنا الحياة فيستجيب القدر.
لم تجري امور العراق بما نحب ويحب كل عاشق للحرية ومستذوق لحلاوة العيش الكريم, بل جرت الامور كما تحب العبيد وتشتهي, فطعم الحرية مر المذاق كعلقم الهزيمة, لاشيئ نستطيع الفخر به فمن قص نير الاسترقاق من جيادنا هو سيد اخر--- فما كانت هكذا تؤكل الكتف.
وتحول حلم التحرر وبناء عالم حقوق الانسان الى هم وهاجس نتوق اليه ونقلق من لقياه, فنحن لانعرف كيف سيكون حالنا عنده , أنتحرر من مستبد ليأتينا مستبد اخريستبدل تشريعات الثورة بتشريعات السماء, ام نتحرر لنستبدله بجيش احتلال وفوضى وحروب اهلية.
اليوم نستعيد جرأتنا على نرسم ابتسامة سخرية من كل من سخر منا ومن احلامنا, ونستعيد صوتنا العالي ونقول لقد حقق شعب تونس المعادلة المعضلة ---- وهكذا تؤكل الكتف
#نبيل_قسيس (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟