جعفر المظفر
الحوار المتمدن-العدد: 3236 - 2011 / 1 / 4 - 22:11
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
الرسالة التي تلقيتها منكم قبل أيام عن نزاهة رجالات الحكم الملكي أعادتني لأيام زمان, حيث أن هناك صفات وسلوكيات بتنا نفتقدها حقا وأظن ان وجودها هو بوابة الدخول الى بناء مجتمع اخلاقي متوازن علينا أن نتطلع جميعا لبنائه, ولا بد لنا بدء ان نعترف ان من الصعب الوصول الى بناء مجتمع على هذه الشاكلة
ما لم يكن القائد اوالصفوة او الطليعة نماذج حقيقية لبناء قاعدته الاخلاقية الرصينة.
في تاريخ العراق الحديث, منذ استقلاله عن بريطانيا ودخوله في مرحلة الدولة ولحتى حكم صدام حسين, فان من الصعوبة بمكان العثور على وزير مرتش اومدير سارق أو موظف مختلس .. واليك بعض الامثلة :
لقد اضطر نوري السعيد وكان رئيسا مزمنا لوزراء العهد الملكي, وبطلب من وزير ماليته, ان يدفع ستة عشر دينارا عراقيا من جيبه الخاص ثمنا لفناجين القهوة التي اشتراها لضيوف مكتبه لسبب عدم وجود مخصصات مالية لتغطية هذا النوع من المصروفات, اما الملك فيصل الثاني فقد احال وزير المالية طلبه لزيادة مرتبه الشهري خمسين دينارا الى مجلس النواب الذي رفضه بدوره. وفي ذلك العهد الذي كنا قد اسميناه بالعهد البائد, وحينما يجري الحديث عن النزاهة والامانة والتجرد, ودون الخوض في أية تفاصيل أخرى, فان من الصعوبة كما قلت ان تعثر على شخصية دون ان تكون مثالا للنزاهة والتواضع, ولنا بعد ذلك ان نختلف مع ذلك العهد باتجاهات شتى فنتهمه, وقد نكون محقين, بكثير من التهم وخاصة السياسي منها, أما ان نتهم ذلك العهد ورجالاته بالانحراف الاخلاقي والاجتماعي فتلك وحق الله جناية ما بعدها جناية .
و في العهود الجمهورية المختلفة ولحد دولة القبيلة الصدامية فان البحث عن وزير مرتش هو كالبحث عن حبة من الدقيــق في كومة من القـــش, يكفينا ان نشير اولا الى الزعيم عبدالكريم قاسم سيدهم جميعا في رحاب النزاهة, ثم نعرج إلى المطلق من مؤيديه ومن خصومه من رموز تلك العهود الجمهورية المتعاقبة لكي نحدد بعد ذلك تاريخ بدء الكارثة ونعرف على يد من بدأت المأساة.
وحتى في بداية العهد البعثي الثاني(1968) وقبل إطلالة "الإنجاب التاريخي" لم يعرف عن احمد حسن البكر مثلا, مهما كان نوع الاختلاف معه وحِدٌتِه, انه وضع يده على خزينة الدولة, أو أعطى بعضا منها لابنه محمد, نعم .. لقد ساهم البكر في بناء دولة القمع ومهد الطريق لظهور القائد الكارثة, لكن على الصعيد المالي, ليس بمقدور أحد ان ينال حقا من نزاهة يده ونظافة جيبه.
والحديث عن عبد الخالق السامرائي الذي كان قد سمي ( ملا ) الحزب, لأمانته ونزاهته وتواضعه, يفتح بلا شك باب مراجعة التاريخ البعثي على مستوى هذه الموضوعة .. اي النزاهة, ليجعلنا مباشرة امام حقيقة اكيدة, وهي ان كثيرا من بعثي ذلك العهد الذي سبق ليلة الدخلة (1979), حينما ذبح صدام القطة في قاعة الخلد, كانوا ومهما كانت طبيعة الاختلافات السياسية او الايديولوجية معهم على مستوى عال من النزاهة كجزء من حالة عراقية جمعية لم تتعرف بعد على الفساد ولم تدخل في جنته. وضمن هذه الحالة ذاتها كان الشيوعيون نموذجا للمبدئية العالية والنزاهة التي لم تتلوث حقا, واعني بالمبدئية تلازم السلوك الشخصي النزيه مع المعتقد, دون ان اترك لبقية احكامي كما هو شأن البعض من الآخرين ان تتأثر كما قلت باخنلاف سياسي او عقائدي, فهذا موضوع وذاك موضوع آخر مختلف.
وقد قلت في مقالة سابقة إن مشكلتنا يا صديقي العزيز ( إننا نحب ونحجي ونكره ونحجي ), فحينما نحب نكون ( مع من نحب ) بالمطلق, وحينما نكره نكون ( ضد من نكره ) بالمطلق, واذا ما انتقلنا فسننتقل من النقيض الى النقيض دون أي استراحة بين النقيضين
نعم .. الاغلبية من رجال الخضراء هم سراق ولصوص, وفي حين يمكن القول ان هؤلاء يسرقون من العراق فان صدام لم يكن بحاجة لأن يسرق من العراق لأنه سرق العراق كله, وهل يسرق الإنسان من نفسه .. ؟!!, وان من الغريب أن ننتهي إلى مناقشة الامور على مستوى تفضيل من هو اقل انحرافا من الآخر .. أهل المنطقة الخضراء أم اهل الصحراء . ان الفرق الوحيد بين العهدين, ان السرقة في عهد صدام كانت منظمة ومرتبة بشكل جيد, ويمكنك القول عنها انها كانت سرقة متحضرة, فالرئيس يضع خزانة الدولة اولا نهاية كل شهر في جيبه فيحجز منها حصته وحصة اولاده وقبيلته, وما سيوزعه لشراء الظمائر في الداخل والخارج, ثم يحيل ما تبقى من الميزانية إلى البنك المركزي, ولكن كأمانات مودعة تمنحه حق السحب في اية لحظة, وبإمكاني أن أذكرك بقصة خال الحكومة خير الله طلفاح مع حكمت العزاوي الذي كان محافظا للبنك المركزي في سنوات الحرب مع ايران حيث طلب طلفاح تحويل مبلغ مليون دينار عراقي الى حسابه في الخارج بعد تحويلها الى دولار بسعر الصرف الرسمي, اي ثلاثة دولارت وعشري الدولار في حين ان دينار طلفاح الذي اودعه حينذاك لم يكن يعادل سوى قيمة ضئيلة جدا من الدولار, وحينما إتصل العزاوي برئيسه طالبا المشورة فقد نهره هذا الأخير باجابة ظلت متداولة على لسان العراقيين لفترة طويلة
( إصرف لُ .. قابل هيٌ كَياتك لو كَياتو ) , واذا لم تكن قد عرفت خاتمة القصة آنذاك فان من واجبي ان اخبرك بها, فلقد تم أبعاد العزاوي عن مركزه كمحافظ للنك المركزي, وظل الرجل يستحصل رزقه من تدوير أمواله المتواضعة في سوق الأسهم, إلى أن تبين لصدام ان العزاوي قد حفظ الدرس جيدا فجاء به نائبا لرئيس الوزراء ووزيرا للمالية.
من جهتي استطيع بسهولة ان أفسر وأصنف السرقة في كلا العهدين , الخضراوي والعوجاوي, سترى انني أرى ان هناك سببا مشتركا وجامعا بين العهدين رغم الاختلاف بصيغ التنفيذ, فما أراه.. ان السرقة في كلا العهدين هي جزء لا يتجزأ من بنية النظام, أي ان السارق هنا يدخل من الباب وليس من الشباك, ويسرق في عز الظهيرة وليس بغطاء الظلمة الحالكة, وذلك ما يجعل القضاء على السارق والسرقة رهنا بتغيير بنية النظام ذاته, وليس بمعالجات طرزانية استعراضية هدفها ذر الرماد في العيون كما كان يفعل صدام حينما يعدم سارقا او يسجنه, أو كما يفعل أولياء امورنا الآن حينما تضيق عليهم الامور فيكون السارق قد طوخها اكثر من اللازم بحيث ان فعلته قد بدأت تجلب الأذى لحزبه وقائده.
واعود لقصة العلاقة ما بين الفساد والبنية التحتية للنظام لأقول ان الفساد في دولة صدام كان جزء لا يتجزأ من مفهوم دولة القبيلة والقائد الفرد والولاءات المطلقة القائمة اما على السيف أو على شراء الضمائر, أما في دولة ما بعد صدام فإن الفساد هو جزء من بنية نظام المحاصصة الطائفية والسياسية وحيث تتراجع قيم الوطنية الحقة ولا تعود هناك إلا مساحة ما بعد الخط الأحمر.. حيث الحرام هو الحلال.
لكن الفرق بين الدولتين يبقى واضحا.
الفساد في زمن صدام كان عموديا, فأهل القبيلة هم الذين يسرقون وغيرهم قد يشنق أو يسجن للتأكيد على نزاهة القائد.
في زمن صدام كان هناك حد أحسن من حد.
أما في العهد الخضراوي فإن الفساد صار أفقيا, والمرض أصبح وباء.
وما فيش حد, من أهل الخضراء, أحسن من حد.
#جعفر_المظفر (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟