|
كلوا تبن
نضال نعيسة
كاتب وإعلامي سوري ومقدم برامج سابق خارج سوريا(سوريا ممنوع من العمل)..
(Nedal Naisseh)
الحوار المتمدن-العدد: 3235 - 2011 / 1 / 3 - 12:02
المحور:
كتابات ساخرة
المنظومة الأخلاقية والقيمية لمن يسمون بالعرب تتداعى اليوم على نحو مريع ومرعب لتكشف عن الوجه الحقيقي والطبيعة المفزعة لهذه الثقافة التي لم تضع الإنسان وكرامته واحترامه، يوماً، على سلم أولوياتها فكل السياسات والإجراءات والقوانين والتراث تشير لذلك. وما كان أكثر المتشائمين والمناهضين للفكر القومي يتوقع هذه النهاية والصورة المحزنة الكئيبة لمن يطلق عليهم بالعرب وهم اليوم على عتبة الألفية الثالثة، فما سمي بالوطن العربي يتحلل بنيوياً، وأخلاقياً، ويتراجع ويتردى حضارياً على نحو غير مسبوق، وما نراه اليوم ليس سوى بداية الانهيار الكبير القادم على جميع المستويات، وفي كافة الميادين. فها هي حضارتهم وها هي أخلاقهم وها هو تراثهم "الحضاري" الذي صدعوا رؤوس العالم به ينهار على نحو مفجع وأليم، ويسفر عن الوجه الحضاري الحقيقي لهذه "الأمة" التي قامت على أنقاض أمم أخرى، وعلى جماجم وآلام شعوب وحضارات سالفة، طمست هويتها، وشطبت من الوجود وعتـّم عليها، تماماً، ونهائياً، واختفت من التداول، وهذه لعمري واحدة من أكبر جرائم التطهير الثقافي والعرقي في التاريخ لكن المنطق الصحراوي الأعوج وثقافته الهمجية يعتبرها فتوحات وانتصارات وإنجازات بشرية لم يسبقهم لها أحد من العالمين.
انعدمت ثقافة الحوار تماماً في هذه المنطقة وساد منطق القوة والقوي الذي يتحكم بالثروة والسلطة والمال والقرار غير المبالي أو الآبه بكل ما حوله من بشر وناس ومصالح متباينة وشائكة وواسعة لطبقات عريضة لا يتم الاعتراف بها عادة لأحد، ومن هنا كثرت الثورات، والانتفاضات والانشقاقات والتشرذمات والانفصالات والجماعات والفرق الشاكية الباكية المتناحرة مهضومة الحقوق والواجبات. ولم تعرف هذه المنطقة خلال تاريخها أي نوع من الحوار والنقاش الذي كان في أحسن أحواله عبارة عن إملاءات تأتي من فوق لتجد طريقها للتنفيذ بقوة السلاح.
ففي حوار "حضاري" جداً بين عضو ما يسمى بمجلس الشوري، في دولة خليجية كبرى وفاعلة، هو المدعو عبد الكريم العناد (وهؤلاء يكونون عادة من علية القوم ووجه السحارة)، ومحامي المعتقل وليد أبو الخير حول ظروف وملابسات اعتقال موكله ومدى قانونية ذلك، فانتهى الحوار بأن توجـّه "العضو" للمحامي بالقول "كل تبن"، بما يعكس وجهة نظر الطبقة الحاكمة صاحبة القرار وممثليها للمواطن والإنسان العادي بأنه ليس سوى مجرد "دابة" في قطيع مملوكي، أكرمكم الله، ما عليها سوى الصمت وممارسة أكل التبن، ولا دور آخر لها في الحياة سوى هذا الدور الحيواني البهيمي الغريزي، ولم ترتق بعد لمستوى التحاور أو التناطح مع ممثلي أولي الأمر، من ظلال الله على الأرض.
وفي الحقيقة يعتبر هذا الحوار حضارياً إلى حد ما، ومتطوراً، بالقياس مع ما نعرفه من الحوارات الأخرى بين المواطن العربي وأنظمته الشرسة والتي يعتبر فيها الرفس، واللبط، وشد الشعر، ونتف الشوارب، والدهس والسحق من التقاليد والأدبيات الحوارية "الراقية" والحضارية. وماذا يعني أن يقول مسؤول لمواطن "كل تبن"، في الوقت الذي يتجرع هذا المواطن يومياً عشرات المرارات، وبما هو أمر وأوسخ من مجرد "التبن" الذي يعبر فاكهة لذيذة إذا ما قيست بأنواع وساخات الأنظمة التي تلقمها لمواطنيها ليل نهار.
وإذا ما أخذ مصطلح " أكل التبن" كتعبير عن الحال المزرية والوضع البائس والسياسة المتبعة مع إنسان هذه المنطقة من العالم، فما أكثر من "يأكلون التبن" اليوم في عالم العربان، من الملايين الصامتة والمصمتة والمهمشة والمعزولة التي لا تمتلك حرية التعبير والقول والتعبير ولا تملك أية حقوق في الحياة سوى الطاعة والامتثال. لا بل في ظل سياسات التجويع المبرمج والإفقار الممنهج والتشليح والإذلال قد يصبح "التبن" نعمة ورفاهية في حال توفره، والخوف كل الخوف أن يصبح أكل "شيء" آخر هو الهدية القادمة من أنظمة الدمار لشعوبها "العزيزة على قلبها"، وإن كان الأمر مرجحاً وغير مستبعد البتة في ظل المعطيات المتوفرة، بحيث يترحم الناس على أيام وزمان "أكل التبن" باعتباره مرحلة ذهبية ومضيئة في تاريخ ومسيرة هذه الشعوب والمنطقة. ومن يشكي ويبكي اليوم من سوء المعاملة جراء سياسة "كلوا تبن"، قد يجد نفسه وهو بتحسر ويحن على أيام "أكل التبن" السالفة. فليأكل الجميع التبن اليوم باعتباره السياسة الوحيدة والرشيدة التي تمارسها هذه الأنظمة، والوصفة الوحيدة والإنجاز الحضاري الأكبر الذي استطاعت توفيره لشعوبها.
التبن هو الحل
#نضال_نعيسة (هاشتاغ)
Nedal_Naisseh#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الإعلام السوري تحت المجهر: تعقيب على مقال أبي حسن
-
تعقيب على مقال الدكتورة إنعام الور
-
لماذا لا تلغى اللغة العربية من المناهج التربوية؟
-
صلاح الدين الأيوبي كمجرم حرب
-
أيهما أولى بالنقد: المسيحية أم الإسلام؟
-
الفقهاء والدعاء بالمقلوب
-
لماذا لا يستجيب الله لدعائهم؟
-
لماذا لا توضع الدول العربية تحت إدارة دولية؟
-
لماذا لا أريد الذهاب للجنة؟
-
من يقود الحروب الصليبية اليوم؟
-
العشاء الأخير: القرضاوي أمام المحاكم القطرية
-
لا عَرَقَ في العراق
-
جلد النساء: وحشية ثقافة الصحراء
-
فضائية الحوار: الحلم المشروع والخطوة الضرورية
-
غزوات وهابية جديدة
-
الله يسوّد وجوهكم
-
رسالة إلى السادة قادة مجلس التعاون لدول الخليج الفارسي
-
العرب بين الويكيليكس وأوراق الكلينيكس
-
هل يفلح إعلان دمشق في بدونة سوريا؟
-
كيف يفكر البدو؟ الإسلام السياسي في الميزان
المزيد.....
-
عن فلسفة النبوغ الشعري وأسباب التردي.. كيف نعرف أصناف الشعرا
...
-
-أجواء كانت مشحونة بالحيوية-.. صعود وهبوط السينما في المغرب
...
-
الكوفية: حكاية قماش نسجت الهوية الفلسطينية منذ الثورة الكبرى
...
-
رحيل الكوميدي المصري عادل الفار بعد صراع مع المرض
-
-ثقوب-.. الفكرة وحدها لا تكفي لصنع فيلم سينمائي
-
-قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
-
مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
المزيد.....
-
فوقوا بقى .. الخرافات بالهبل والعبيط
/ سامى لبيب
-
وَيُسَمُّوْنَهَا «كورُونا»، وَيُسَمُّوْنَهُ «كورُونا» (3-4)
...
/ غياث المرزوق
-
التقنية والحداثة من منظور مدرسة فرانكفو رت
/ محمد فشفاشي
-
سَلَامُ ليَـــــالِيك
/ مزوار محمد سعيد
-
سور الأزبكية : مقامة أدبية
/ ماجد هاشم كيلاني
-
مقامات الكيلاني
/ ماجد هاشم كيلاني
-
االمجد للأرانب : إشارات الإغراء بالثقافة العربية والإرهاب
/ سامي عبدالعال
-
تخاريف
/ أيمن زهري
-
البنطلون لأ
/ خالد ابوعليو
-
مشاركة المرأة العراقية في سوق العمل
/ نبيل جعفر عبد الرضا و مروة عبد الرحيم
المزيد.....
|