|
الصفعة قصة قصيرة
محمد بقوح
الحوار المتمدن-العدد: 3233 - 2011 / 1 / 1 - 01:16
المحور:
الادب والفن
حين انتهيت من إعراب الجملة .. جملة النحس ، و قبل أن أضع النقطة الختامية ، تطبيقا لنصيحة معلمنا الملازمة له في كل حصة دراسية ، نزلت على الجانب الأيسر لوجهي صفعة قوية ، شتت توازن جسدي النحيل ، لتتلعثم قدماي الصغيرتان ، فأسقط كسكير ثمل على أرضية الفصل ، و وجوه التلاميذ واجمة لا تفهم ، دون أن أعلم بدوري لماذا و كيف وجدت تلك الصفعة اللعينة القاسية و المؤلمة جدا طريقها إلى وجهي .. ، أما الشيء الوحيد الذي ظل بريقه عالقا بين ثنايا ذهني ، هو تطاير الطبشورة البيضاء ، التي كانت تئن بين أناملي المبللة بالعرق الساخن ، في فضاء القسم ، لتصيب جبين تلميذ آخر ، كان يتابع فصول درس القواعد في مقعده في الصف الثاني . و بإشارة من المعلم .. تلك التي أصبحت عند التلاميذ معهودة مع مرور الوقت ، بحكم صدورها المتكرر كل يوم تقريبا ، يحضر بسرعة البرق أربعة تلاميذ كبار في السن ، يتميزون بقوة أجسادهم الضخمة ، لكن أيضا ببلادة فكرهم و كسلهم الذي لا حدود له . يجد هؤلاء كل المتعة و اللذة و النشاط في أداء مثل هذا الدور ، و خدمة معلمنا هذه الخدمة الغريبة و المجانية . كنا نسميه الحاج الطبل ، تعديلا لاسمه الحقيقي الذي هو الحاج الطيب ، و ذلك بسبب اقتناع كل التلاميذ ، الذين درسوا عنده بأنه بعيد جدا أن ينطبق عليه معنى هذا الاسم ، الذي اختاره له والداه حين ولد . و ليته لم يولد . بالإضافة إلى صفة حجم بطنه المنتفخة ، و التي تحيل إلى صورة الطبل ، المعروف عندنا بإيقاعه الرنان في مواسم احتفالية ، تجري بحينا المهمّش ، خاصة في الأعياد الدينية كعيد الأضحى . كانت بطنه تبدو و كأنها تتقدم جسده إلى الأمام ، ملفتة للنظر ، و كأن صاحبنا يحمل معه طبلا ملتصقا بجسده .
كان معلمنا الحاج الطبل ، أو بلغتنا المحلية الحاج كانكا ، قوي البنية ، لم تأكل منه السنون التي مضت و لو ذرة واحدة . يميل إلى السمرة الغامقة ، أما يداه المشعورتان فتشبهان جذعي شجرة هائلة ، و تشعرك النظرة الأولى لكفيه الغليظتين أنك أمام قطعة ياجور صخري ، و ليس لحم و دم بشري . لهذا ، و نتيجة لكل تلك الصفات و السمات ، كان معلمنا الحاج كانكا يشكل مصدر خوف و رعب مهول ، ليس فقط بالنسبة لتلامذة فصلنا ، بل داخل جميع جهات و أمكنة المدرسة ، و يمكنك التأكد من هذه الحقيقة ، حين يتحمل صاحبنا مسئولية الحراسة وقت الاستراحة ، كل التلاميذ يعرفون بل يحفظون عن ظهر قلب أيام حراسة الحاج الطبل ، و يحسبون له ألف حساب ، بحيث يشعرون في دواخلهم أنهم في وقت حراسته التي تقيّدهم ، أنهم لا يمرحون كما يريدون ، و يحد بشكل ظالم من حريتهم .
بعد لحظات وجيزة ، أحسست بجسدي الصغير مهزوزا في الهواء .. التلاميذ الأربعة الأقوياء ينتظرون بزهو إشارة المعلم النهائية لحملي . ثمة يد كقضبان الفولاذ آخذة في شنقي . تصورت نفسي في إحدى غرف الجحيم . يحيط بي لهيب كما لو كان غلافا جويا سميكا ، اعتقدت في وقت من الأوقات أنه لهيب النار . قلت في نفسي كنت مطيعا لوالدي ، فلماذا رمي بي إلى جهنم ؟ في هذه اللحظة ، استقبلت أذناي صوتا ممزوجا بأصوات أخرى لا أعرفها .. - قف .. يا حمار .. قف .. حاول جسدي المنهار أن ينتصب ، و بكثير من الجهد و الصعوبة ، نجحت في الوقوف ، غير أنني لم أتبين ملامح وجه معلمنا الحاج الطبل ، الواقف أمامي كجبل صخري ، بالرغم من محاولاتي المتكررة لفهم و إدراك ما الذي وقع لي .. بعد حين ، بدت لي ما يشبه نجمات أو فراشات ملونة و ذات طبيعة نورية ، تتطاير أمام عيني ، فحاولت جاهدا أن أميز تلك الأشياء الموجودة في محيطي ، و كذا وجوه التلاميذ الأربعة بقربي ، بملامحها القاسية ، تتأملني بعيون جارحة .. حينذاك تحسست مكان الصفعة بكفي اليسرى ، فوجدته واجما ، و جامدا .. و كأنه جزء من قطعة ثلج دافئة ، شعرت معها بأزيز كثيف يتعالى صوته ، الممزوج بضجيج ما يشبه آلات مصنع ، تنبعث من داخل رأسي أو أذني - لست أدري - في الجهة الموالية لمكان الصفعة .. عندما هممت للعودة إلى مقعدي ، خطوت خطوات متجها نحو الباب ، معتقدا أنني ماض إلى مكاني ، حيث أقعد في صفي ، فوصل إلى سمعي صوت معلمنا الصارخ و المرعب و المزمجر ، كصوت الرعد : - إه ه .. إلى أين يا بغل .. إننا هنا .. و لم ننته بعد .. توقفت فجأة ، ثم عدت خائفا مضطربا إلى مكان سقوطي ، أمام السبورة السوداء كسواد هذا اليوم ، أنظر حينا إلى وجوه التلاميذ الأربعة ، الذين ينتظرون متلهفين ، و حينا آخر أدقق النظر متأملا الجملة .. جملة النحس على السبورة .. و أتأمل شريط الإعراب الذي أنجزته ، لعلني أقتنص الخطأ الذي اقترفته ، و أنا أعربها .. قال صوته المكفهر : - أعد الإعراب .. اكتب .. ماذا تنتظر .. و انتبه .. ؟ قلت في نفسي : ( اللعنة على اليوم الذي أدخلني فيه أبي إلى هذه المدرسة ) .
#محمد_بقوح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ضرورة الفلسفة
-
عنف السلطة .. و الطبقة التعليمية المغربية ( جهة سوس ماسة درع
...
-
الأرصفة ( 4 )
-
الأرصفة ( 3 )
-
الأرصفة ( 2 )
-
علاقة المقهى بثقافة الإنسان العربي
-
الأرصفة ( 1 )
-
إشكالية التعليم .. و قيم العلم بالمغرب
-
علاقة الثقافي بالسياسي في التجربة العربية - وجهة نظر نقدية
-
عودة الأنوار - قصة قصيرة
-
الحوار المتمدن كمعلمة عقلانية للفكر الحر
-
حجارة السماء
-
جدلية الفكر و قيم الإنحطاط
-
الخفاش الأنيق - قصة قصيرة
-
تيمة الجنون في رواية مدن الملح - نص التيه نموذجا - ( بحث )
-
الكرسي الأعرج
-
قصيدة يسكنها بحر
-
هذا المساء ينقب عن وجهه في الشمس
-
صهيل السبت الأسود
-
غربة الفلسفة من منظور جيل دولوز
المزيد.....
-
ثبتها الآن.. تردد قناة كراميش للأطفال 2024 على القمر الصناعي
...
-
جيمس كاميرون يشتري حقوق كتاب تشارلز بيليغريمو لتصوير فيلم عن
...
-
كأنها خرجت من أفلام الخيال العلمي.. ألق نظرة على مباني العصر
...
-
شاهد.. مشاركون دوليون يشيدون بالنسخة الثالثة من -أيام الجزير
...
-
وسط حفل موسيقي.. عضوان بفرقة غنائية يتشاجران فجأة على المسرح
...
-
مجددًا.. اعتقال مغني الراب شون كومز في مانهاتن والتهم الجديد
...
-
أفلام أجنبي طول اليوم .. ثبت جميع ترددات قنوات الأفلام وقضيه
...
-
وعود الساسة كوميديا سوداء.. احذر سرقة أسنانك في -جورجيا البا
...
-
عيون عربية تشاهد -الحسناء النائمة- في عرض مباشر من مسرح -الب
...
-
موقف غير لائق في ملهى ليلي يحرج شاكيرا ويدفعها لمغادرة المسر
...
المزيد.....
-
توظيف التراث في مسرحيات السيد حافظ
/ وحيدة بلقفصي - إيمان عبد لاوي
-
مذكرات السيد حافظ الجزء الرابع بين عبقرية الإبداع وتهمي
...
/ د. ياسر جابر الجمال
-
الحبكة الفنية و الدرامية في المسرحية العربية " الخادمة وال
...
/ إيـــمـــان جــبــــــارى
-
ظروف استثنائية
/ عبد الباقي يوسف
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
سيمياء بناء الشخصية في رواية ليالي دبي "شاي بالياسمين" لل
...
/ رانيا سحنون - بسمة زريق
-
البنية الدراميــة في مســرح الطفل مسرحية الأميرة حب الرمان
...
/ زوليخة بساعد - هاجر عبدي
-
التحليل السردي في رواية " شط الإسكندرية يا شط الهوى
/ نسرين بوشناقة - آمنة خناش
-
تعال معي نطور فن الكره رواية كاملة
/ كاظم حسن سعيد
-
خصوصية الكتابة الروائية لدى السيد حافظ مسافرون بلا هوي
...
/ أمينة بوسيف - سعاد بن حميدة
المزيد.....
|