أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - فارس كمال نظمي - العراق ... المجتمع الرهينة !















المزيد.....


العراق ... المجتمع الرهينة !


فارس كمال نظمي
(Faris Kamal Nadhmi)


الحوار المتمدن-العدد: 3220 - 2010 / 12 / 19 - 15:37
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


ليس للرهينة إلا أن تؤجل كينونتها وتظل أسيرةً لفعلٍ مخططٍ لها سلفاً. قد تفكر وتنفعل وتحتج وتتمنى وتريد وتحلم، لكنها تظل تابعةً في سلوكها، عن وعي أو لا وعي، عن قصد أو قسر، طويلاً أو قصيراً، لإرادة خاطفها أو محتجزها أو حارسها أو سجانها أو قاتلها. وللرهينة جسد أخرس فاقد لزمنه الخاص، لأن حركته ومعناه وقيمته غدتْ مفاهيم محنطة في تابوت إسمه "الحدث" يصنعه الآخر الذي هو ليس رهينة.

مفهوم "الارتهان" يتجاذبه قطبان مختلفان، أحدهما فلسفي والآخر اجتماعي. ففلسفياً كلنا رهائن لأحداث وظواهر تتموضع قبلنا وحتى بعدنا في الزمان والمكان. ألسنا أصداءً تريد الاستقلال عن أصوات سبقتها أو أعقبتها؟ أليس الوجودُ سجنَنا الحيوي الذي ترقص فيه حرياتنا؟ أما اجتماعياً، فالبشر أفراداً كانوا أم مجتمعات، يسلكون بطريقتين: إما "رهائن" تابعون، أو "خاطفون" صانعون للمصائر.

يوصف المجتمع العراقي بالمجتمع المأزوم والمُحبَط والمُستَلَب، وكلها توصيفات ذات دلالات تحليلية وتفسيرية مفيدة. إلا أن الوقائع السياسية المتراكمة في العراق منذ عقود، تستلزم مزج تلك التوصيفات في دائرة مفاهيمية أدق تغطي مساحة أشمل من الأداء السلوكي الاجتماعي للفرد العراقي، لتجعل منه مزيجاً من كل ذلك، مضافاً له واقع اختطاف ذلك الفرد أو احتجازه خارج ذاته الاجتماعية التي يتمناها؛ إنه "المجتمع الرهينة" على مدى نصف قرن مضى، وما يزال كذلك إلى حين!

العوامل الموضوعية التي ارتهنت العراقيين في مصائرهم، باتت بديهيات يعرفها الجميع، أولها الحروب والحصارات والاستبداد والاحتلال والفساد السياسي والتطرف الديني الدموي والتهجير الطائفي وسادية حكومات الجوار، وليس آخرها الفقر والحرمان والبطالة والفساد ونهب المال العام واللامعيارية المجتمعية والفوضى المرورية ومتاريس القمامة وانهيار الخدمات ومحاصرة الجمال بحراب "الفضيلة" الرثة. ولذلك سيقتصر تحليلنا الحالي على المستوى النفسي الذاتي لحالة الارتهان هذه، إذ أن إطلالة سريعة وشاملة على السلوك السياسي للعراقيين اليوم، يمكن أن تكشف عن أبرز ملامح "سيكولوجية الرهينة" التي تماهوا بها، والتي قد تقدم إجابات عن السؤال المجتمعي الواسع الانتشار: ((لماذا نحن العراقيون سلبيون وخانعون إلى هذا الحد؟ نعرف أدق تفاصيل مأساتنا واسبابها، ومع ذلك لا نتحرك جمعياً لوقفها أو على الأقل الحد منها!)).

فالفرد العراقي اليوم تفكيره أزماتي البنية، يرى في الحرية وهماً وفي الوهم حريةً. يشعر بعجزه عن المشاركة السياسية الفاعلة في أحداث بلاده. لا يستطيع أن يغادر عقدة كونه "رهينة" لقوى كاسحة حتى في حال الغياب الموضوعي لتلك القوى. إنه يبحث عن خاطف له يلوذ به، ويتصرف لاشعورياً كما لو إن قوة غير إرادته تحدد له مساراته. يفتش عن سلطة يُخضِعُ نفسه لها لتخطف عقله وقراره حتى لو كانت سلطة مُتَخَيّلة لا وجود لها إلا في إدراكاته الذاتية الخاطئة. وحتى حينما يغادر العراقي بلاده مهاجراً أو مهجراً أو زائراً أو سائحاً أو دارساً، يظل أميناً لكونه رهينةً لشيء ما في تلك الأصقاع البعيدة التي نظمت أنساقها الاجتماعية على أساس التحرر من هاجس "الخاطف" أو "السجان".

تحيلنا هذه الرؤية إلى حقيقةٍ أشد اختزالاً ووضوحاً في الشخصية العراقية: نزعتها الماسوشية لاستعذاب الألم عبر طقوس التكفير عن الذنوب فردياً وجمعياً، ولتوجيه اللوم إلى الذات (إحنا العراقيين مو خوش أوادم) لتسويغ المظالم وإسباغ العدل عليها ما دامت "غير قابلة" للرد والمواجهة. فالضحية هي "المذنبة" لأنها لم تتخذ ما يكفي من الاحتياطات لتمنع جلادها من أن يصبح جلاداً! وبتحديد أكثر: العراقي يعرف الحرية عقلياً لكنه يريد أن يظل سلوكياً رهينةً لقوة ما تعفيه من مسؤولية وجسامة المبادرة الذاتية لمواجهة وجود اجتماعي مكتظ بالأزمات والحرمانات اعتاد أن يتحاشاه خضوعاً وخوفاً من قسوة قوى متنفذة تنيب عنه في كل مرة. فهناك دوماً من كان يفكر عنا نحن العراقيين، ويقرر عنا، ويوقع بأسمائنا بدلاً منا: البعثيون، ثم المحتلون الأمريكان، ثم المتأسلمون سياسياً وأدعياء الوصاية الالهية على عقول الناس.

نجحت سلطة البعث (1968-2003)م في ترويض العراقيين، فقط لأنها نجحت في زرع فوبيا الرقيب الداخلي في ذواتهم الجريحة، وسلبتهم اعتقادهم بفاعليتهم، فجعلت من الجميع رهائنَ لإملاءات وشكوك نفسية داخلية أكثر من كونهم رهائن لخاطفين حقيقيين. فكم من مرة كان الخاطف يغفو باطمئنان تاركاً الباب مفتوحاً لرهينته بعد أن جعلها تتوهم أن كل الأبواب المفتوحة موصدةٌ أو أن فرارها مصيره الفشل والعقاب الحتميينِ آخر المطاف، فصارت الرهينةَ والحارسَ معاً!

وبعد أن وجد اللاهوت السياسي أن الطريق بات سالكاً إلى السلطة بعد الاحتلال الأمريكي في نيسان 2003م بحكم الآليات الديمقراطية الشكلية التي جرى إقرارها تحت ضغط إيجاد بدائل نقيضة للدكتاتورية السابقة، عاود المتأسلمون الاستفادةَ من ستراتيجية "المجتمع الرهينة" وترجمتها إلى أصوات مؤيدة لهم توضع "طوعاً" في صناديق الانتخابات. فأصبح الرقيب الداخلي هذه المرة يستمد طاقته وديمومته ليس من سطوة الحزب أو القائد الذي أقنع الجميع بأنه قد بث أبصاره ومسامعه حتى في جدران غرف النوم، بل من قدسية سلطة اللاهوت التي "لن تغفر" للناخب امتناعه عن التصويت لها بعد أن جرى ترجمة هذه السلطة إجرائياً إلى قوائم وأسماء ورموز تلعب دور "الوسيط المقدس" بين الإنسان وربه.

ولذلك لا عجب أبداً أننا رأينا ملايين العراقيين يلعنون مرشحي قوائم معينة ويصفونهم بالفساد وعدم الجدارة، ثم يهرعون لانتخابهم تحت وطأة مشاعر الذنب وخوفاً من "عقاب" الآخرة. فالرهينة العراقية لم تغادر عقلها ولا بصيرتها، لكنها عاجزة بعد أن تستعيد فردانيتها السلوكية، إذ ما تزال تديم ارتهانها بنفسها مستغرقةً في سيكولوجية التسليم لسلطة الآخر النائب عنها، بوصفه "المؤهل" للتحكم بمصيرها سواء في الدنيا أو في ما بعد الحياة.

إن الخروج إلى فضاء الحرية النفسية الشاملة لا بد أن يأتي معمداً بآلام الخروج من ظلمة الرحم الآمن في محدوديته إلى ضياء العالم اللانهائي في احتمالاته وقضاياه وتحدياته. تدلنا التجارب البشرية عبر التأريخ أن تحول الوعي بالحرية إلى سلوك حر فعلي ليس أمراً بسيطاً أو حتمياً أو مباشراً، إذ تبقى المسافة الاجتماعية بين المعتقد والفعل مكتظة بعدد لا يحصى من متغيرات التأجيل والكف والإحباط. لكن إدراك الرهينة لعبوديتها، ووعيها برذائل خاطفها، يمثلان الخطوة الأولى الضرورية لانتصارها النفسي القادم على تفكيرها الأزماتي. إن فعل الحرية هو أعقد أنواع السلوك البشري قاطبةً، لأن درب التحرر الداخلي العميق يتطلب أولاً التخلص من اي أوهام صنعها التأريخ الاجتماعي للإنسان، أوهامٍ ترتدي لباس الحرية لكنها تمارس دور السجان نحو معتنقيها.

ولأن التأريخ النوعي للبشرية كان على الدوام يصنعه هذا الصنف من الوعي الاجتماعي المعارض لواقعي العبودية والظلم، فإن السنوات القادمة في العراق ستشهد تناقصاً مؤكداً في أعداد الملاييين الخاضعة لسيكولوجية التسليم، لصالح ظهور ملايين أخرى ستكتشف تدريجياً وبالتجربة الملموسة بطلانَ ولا أحقية فكرة "الرهينة". إن مصدر هذا التفاؤل هو امتلاك الشخصية العراقية لخصائص متحدية أخرى يمكن أن توازنَ تقمصها الحالي لدور الرهينة، من بينها نزعتها العلمانية المجتمعية، وانفتاحها على الخبرات الحياتية المستجدة، وقدرتها على التكيف الايجابي، وميولها العدالوية، ونظرتها البراجماتية لشؤون الدين والدنيا، ونزعتها للتشكيك بالحاكم.

السوسيولوجيا في العراق كانت على الدوام أكثر تريثاً وأشد تأصيلاً من حصان السياسة الجامح. ولذا، يتوهم من يعتقد إنه أصبح يمثل هذا المجتمع حقاً لأنه حصد أصواتاً أكثر من غيره في انتخابات واحدة أو اثنتين بضغط الإلحاح اللاهوتي أو الابتزاز الطائفي التعصبي. إن هذا النوع من السياسيين "الخاطفين" عليه منذ الآن أن يتشاءم وأن يترك التفاؤل لمثقفي التنوير الفاقدين لغريزة السلطة والمالكين لدافع الإصلاح. فالحراك السياسي الموضوعي بات يتفاعل هناك.. في أعماق شخصية الفرد العراقي، حيث تقبع تلك الرهينة التي بدأت تطرح أسئلة التشكيك بكل شيء... أسئلة الحرية!



#فارس_كمال_نظمي (هاشتاغ)       Faris_Kamal_Nadhmi#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تحليل الشخصية المسيحية العراقية
- المحرومون في العراق: دراسة في سيكولوجية الظلم: (صدور كتاب لف ...
- جدل (الإهانة) و(الكبرياء) في الحياة العراقية
- النزعة الماسوشية في العقلية العراقية
- هل ابتدأ عصرُ الاحتجاجات الجمعية في العراق..؟!
- سيكولوجية قطع الكهرباء عن الروح العراقية
- الشيوعيون والصدريون ... وخيار الكتلة التأريخية !
- الفساد الأكاديمي في الجامعة العراقية
- الهوية البغدادية .... ماذا تبقّى منها؟!
- أزمة الضمير المهني لدى الفرد العراقي
- العراق الافتراضي
- النزعة العلمانية في الشخصية العراقية
- عُُصاب التفاوض السياسي
- سيكولوجية العمامة واليشماغ !
- تحليل الشخصية الشيوعية العراقية
- مقالات ودراسات في الشخصية العراقية: (صدور كتاب لفارس كمال نظ ...
- سيكولوجية المنطقة الخضراء (تحليل لشخصية السياسي العراقي المُ ...
- الحوار المتمدن ... وجدلية ((الإرادة - الحلم ))
- الحب الرومانسي بين الفلسفة وعلم النفس: (صدور كتاب لفارس كمال ...
- الطفل العراقي .. ورأسمالية الحروب .. وسيكولوجية الثورة


المزيد.....




- لحّن إحدى أغانيه الأيقونية.. محمد عبده يرثي ناصر الصالح بحفل ...
- فرنسا: بايرو يعلن أنه سيلجأ للمادة 49.3 من الدستور لتمرير مش ...
- مباشر: عمليات عسكرية إسرائيلية جديدة في الضفة الغربية وأربعة ...
- مشاهد منسوبة لأحمد الشرع في سجون العراق.. هذه حقيقة الفيديو ...
- هل تتحول العلاقة بين ترامب والسيسي إلى -فاترة- بسبب غزة؟ - ن ...
- تبادل الاتهامات بين روسيا وأوكرانيا بشأن قصف مدرسة في كورسك ...
- إسرائيل تُعيّن إيال زامير خلفا لهاليفي.. ماذا نعرف حتى الآن ...
- فيدان: ندعم بيان القاهرة حول مواجهة مشروع تهجير الشعب الفلسط ...
- مراسلتنا: المستوطنون حرقوا مسجدا بالضفة الغربية ومطالب فلسطي ...
- الشـرع يصل إلى الرياض في أول زيارة خارجية


المزيد.....

- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي
- الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا ... / قاسم المحبشي
- الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا ... / غازي الصوراني
- حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس / محمد الهلالي
- حقوق الإنسان من منظور نقدي / محمد الهلالي وخديجة رياضي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - فارس كمال نظمي - العراق ... المجتمع الرهينة !