|
السلالات السعيدة
ناصرقوطي
الحوار المتمدن-العدد: 3221 - 2010 / 12 / 20 - 09:33
المحور:
الادب والفن
قراءة في قصة ( السلالات السعيدة )
للقاص قصي الخفاجي
ناصرقوطي
... مجرد كلب آخر*
من ضمن عدد من الكلاب .
ماذا..
يوجد غير هذا ؟ وما العمل ؟
البقية ركضت ـ
وراء الأرانب ـ
الأعرج فقط باق ـ
على ثلاث أرجل ( يحك من
الأمام ومن الخلف )
يخاتل ويأكل .
يدفن عظمة عفنة .
(* وليمز في باترسن )
ترى ماذا يريد القاص أن يخبرنا بتداعيات جمله الخبرية الطويلة ، وهو يقودنا عبر رحلة تنضح بالمرارة ونحن نتابع سيرة بطله المأساوية ..؟ فلننعم النظر بما قد تنطوي عليه من دلالات وشفرات ربما لم يعنها الكاتب . يقول رولان بارت ( نحن ندرك تحت الشفرة التأويلية مختلف المصطلحات ـ الشكلية ـ التي من خلا لها يمكن تمييز اللغز والتحدث عنه وصياغته وإيقاف مساره ...الخ) . في مدخل القصة يفاجئنا القاص بجملة مجنحة ( والريح الثقيلة كانت ذئبية جهمة تتـناوح في ذلك الخريف الكئيب ... حين ظلت عواءاتها تصهل عبر المساء المغّبر ) وهكذا مهد لنا منذ البدء ليدخلنا إلى عالم مشحون ومتوتر يكاد يخنقنا .. ريح ثقيلة ذئبية جهمة ، خريف كئيب ، عواءات تصهل ، مساء مغبر . أي صورة لتوقع حدوث الكارثة ـ الحرب ـ ومن خلال استخدامه لواو العطف في بداية جملة الاستهلال( و..الريح) كأنه يريد أن يخبرنا بأن ثمة كلاما كثيرا قد قيل سلفا وأن هناك أحداثا أكبر جسامة وروعا ، ووقعا على النفس قد حدثت ليعود ثانية ويكشف لنا بدء وقوع الكارثة بكلمات قليلة ( غارت طائرة حرب إيرانية وأحرقت سفينة تجارية قديمة راسية في شط العرب ) . وبانتقالة ثالثة يتحول ليصف لنا الشخصية المحورية دون أن يكسر أفق التوقع عن المتلقي حتى نهاية القصة ـ الإقفال ـ وموت البطل بتواتر شحنات تتصاعد دراميا وتتـنامى بسلسلة من تنقلات ـ زمكانية ـ تفعل بشكل ضاغط باتجاه النهاية . في السطر الخامس نتعرف على الشخصية المحورية ( عباس الجوراني ) وهو يشعل طباخه ليبيع الشاي للسابلة والمراجعين قرب المصرف الرئيس الذي يطل على شط العرب تحت قاعدة تمثال الشاعر بدر شاكر السياب . حتى يفاجأ ذات يوم بكلبة بيضاء جميلة ( كانت ممتلئة الجسد ، تتدلى أثداؤها مكتنزة ، منتفخة أسفل بطنها المترهل ) . وقد وضعت خمسة جراء تحت قاعدة التمثال ، ومن خلال السرد نكتشف ان البطل كان معلما ً وتخلى عن سلك التعليم بضروف غامضة وأدمن على تعاطي الكحول رغم ثقافته وقدرته على التحدث باللغة الانكليزية بطلاقة كما سنعرف لاحقا ً . وبمرور أيام قلائل من حدوث الحرب تموت الكلبة الأم ليترك ( الجوراني ) في موقف لايحسد عليه وهو ينظر إلى الجراء الخمسة تتضور جوعا ً ، وفي منتصف كانون الثاني من عام 1981 يخبرنا الراوي بحدة المعارك بين الطرفين المتحاربين وانشغال المجتمع الدولي بها ، يفاجأ بفصيل عمل صحفي من الأجانب ، ومن خلال حواره معهم يخبرهم بلغة انكليزية سلسة عن تمثال الشاعر الذي يجهلونه وكيف تأثر في مطلع شبابه بالمدرسة الرومانسية الانكليزية متمثلة بالشاعر " جون كيتس " وكيف تنبه خلال تطوره الشعري إلى شاعرين عظيمين هما : ت . س . اليوت والشاعرة ايدث ستويل ، ثم تطرق إلى الأبعاد الخطيرة للحرب وكيف أن أمريكا تتبنى ستراتيجيات بعيدة المدى وتنمي بذور الصراع في المنطقة ، حتى تنمو علاقة حميمية بين صحفي انكليزي شاب هو "جونز بيرنز " مع الجوراني الذي يفاجأ ذات يوم بوقوف سيارة فاخرة يترجل منها ثلاثة صحفيين أجانب بصحبة سيدة فارعة الطول يتبعهم بيرنز فيطلبون منه نقل الجراء إلى بلادهم فيغمره الفرح . وتتوالى أحداث القصة مع تصعيد الحرب والتحاق الجوراني بخدمة الاحتياط وتعرضه للإصابة بشظايا تؤدي إلى بتر ساقه وعودته على البصرة ، محطما ، خالي الوفاض ليسكن مع رجل عجوز يعمل حارسا ً في عمارة مهجورة قرب تمثال السياب . وبعد مرور أيام وقد تدهورت حالته الصحية اثر استفحال الكانكرينا في فخذه وتعاطيه الكحول دون طعام ( فاجأه الحارس بلهاثه متهلل الأسارير ، قال : لقد انتهت الحرب ) . أجل لقد انتهت حرب الجوراني مع العالم ونضبت أحلامه وخارت قواه ، وهو الآن يتدثر ببطانية قذرة يزحف أحيانا على عجيزته حين يهده الجوع بحثا عن كسرة خبز ، حتى تصل رسالة مقتضبة من الصحفي جون بيرنز ..( تحية لكم ولوطنكم ، إني أهنئكم بمناسبة انتهاء الحرب ، أما بالنسبة للجراء فقد وصلت اسكتلندا بسلام وكبرت ، وعاشت في بلادنا سعيدة .. الذكور الأربعة تزوجوا من أربع كلبات اسكتلنديات ، أما الأنثى " ستويل " فقد تزوجت كلبا من فصيلة الولف في أدنبرة صاروا كلهم أجداداً ، وأمامكم الصور تبدو فيها الكلاب مع أحفادها في السلالة الثالثة ... المستر جون بيرنز / أدنبرة / 1./9/ 1988 يتطلع الجوراني إلى صور الكلاب ويهمس قبل ان يسلم الروح .. ( المجد لتلك السلالات في البلاد البعيدة ، سلالات الكلاب السعيدة ، وسحقاً لك أيها الإنسان التعس عباس الجوراني ) . هذه الخاتمة المفزعة ـ الشفرة الحادة ـ التي طرحها القاص اثر معادلة محيرة ، وقد تركنا إزاء مسألة خطيرة ..؟ ! ترى هل كان الكلب أكثر أهمية من الإنسان بوجهة نظر الغرب ، وهل راود بطل القصة حلم دفين وتمنى لو انه أصبح بديلا عن أحد تلك الكلاب ، وتغير مصيره كليا في بلاد الجليد ، وان حضارة من أعرق الحضارات تنتج مسوخ حكومات لتهين أبناءها . فأي معادلة صادمة إذا كان الجوراني قد فكر لحظة موته بأن يكون كلبا ً ، سؤال سيظل غامضا ً وقد يطرحه إنسان ما هارب من جحيم وطنه وهو يطلب اللجوء عند حدود أحد بلدان الغرب ويحلم بسقف يقيه غائلة الأيام ويضمن له عيشا ً شريفا ً . حتى موت الكلبة الأم هل هو موت لأمة برمتها وتشرد أبنائها في غربة عواصم العالم ، ولماذا لم يمت عباس الجوراني أثناء الحرب أو في أي مكان آخر خلال تشرده ومات وهو يلقي نظراته الأخيرة على صور الكلاب وهي نظيفة ومزهوة ، فهل ثمة مقارنة عقدها الجوراني ، هل أصابته خيبة أمل وانتهى بطلاق أبدي بين مايصل إليه كائن بشري مثقف مع كلب ، حتى يموت معزولا في مكان قذر لايلتفت إليه أحد وقد غدا فزاعة بشرية بساق واحدة ، مشردا بين الأرصفة بعد ان سحقته الظروف وقادته الى حتفه ( في الحديقة الظليلة ، في بقعة منعزلة رتب له الحارس كوخا من الخشب أقام فيه ممدد الجسد ، حيث الشاحنات العسكرية تمر بين فترات متباعدة على الكورنيش الخالي والصمت يتغلغل في غصون الأشجار المبثوثة هنا وهناك وخيط الريح يتلوى على طول الضفاف المغبرة ) أي مكان هذا وأية صورة صادقة تنضح بالألم والخذلان في بلاد تعد الأغنى بمواردها الطبيعية وطاقاتها البشرية الهائلة ، لولا رعونة من قاد البلاد إلى الحروب والرهانات الخاسرة . فهذا الكشف الذي قدمه لنا القاص هو صورة صادقة لجزء من معاناة الفرد العراقي ، ولنذكر على سبيل المثال لاالحصر بعض مبدعينا الذين ضاقت بهم سبل العيش وقضوا على الأرصفة أو في أماكن موحشة مهجورة ، لاتصلح حتى مأوى للكلاب الضالة ، فالشاعر عبد الحسن الشذر والشاعر عقيل علي والفنان هادي السيد والشاعر عبد اللطيف الراشد والشاعر والمترجم جان دمو وزهير المالكي وسليم السراج الذي انتهى إلى الجنون ، فكل هؤلاء وغيرهم الكثير قد لاقوا نفس مصير بطل القصة ( عباس الجوراني ) بل عانوا أكثر منه وماتوا تحت مرأى من المؤسسات الثقافية تلاحقهم الحروب وتشتت أحلامهم وتميتهم الأنظمة الشمولية . ولازالت معاناة المبدع والمثقف في ظل الحقبة الجديدة سارية المفعول وهو يلوك أذيال الخيبة والعوز . ان هذه السطور ليست دراسة نقدية بقدر ماهي استشفاف لنهاية واحدة من نهايات أبطال القاص المبدع " قصي الخفاجي " الذين يلاقون ذات المصير المظلم في أغلب قصصه ، وقد عودنا في كتاباته الجريئة الأولى مثل قصة ( ليلة الطعن بالخناجر ) و ( مستوطنة الكلاب ) و ( وقت سري ) و ( لميعة الشرمة ) . تلك القصص التي نشرها في أهم الصحف والمجلات الأدبية في العراق أثناء حكم الدكتاتورية ، يعري الواقع الفاسد بجرأة ليست لها نظير ، في حقبة صعبة ومريرة كادت تقضي برياحها العاصفة وتنسف كل شيء أمامها ، وهو الذي عانى من سجون النظام وعرف التشرد على الساحل الليبي وفي أزقة دمشق .
#ناصرقوطي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
فتيات الملح
-
خضرقد
-
غرباء
-
أعماق
-
الحائك
-
ايقاع الأمكنة
-
قصة
-
المحنة
-
عين النخلة
-
وهم الطائر
-
قصة قصيرة
-
قراءة في مجموعة - خمار دزديمونة - للقاص فاروق السامر
-
رواية شلومو الكردي (وأنا والزمن)دراسة نقدية
المزيد.....
-
صورة شقيق الرئيس السوري ووزير الثقافة بضيافة شخصية بارزة في
...
-
ألوان وأصوات ونكهات.. رحلة ساحرة إلى قلب الثقافة العربية في
...
-
تحدث عنها كيسنجر وكارتر في مذكراتهما.. لوحة هزت حافظ الأسد و
...
-
السرد الاصطناعي يهدد مستقبل البشر الرواة في قطاع الكتب الصوت
...
-
“تشكيليات فصول أصيلة 2024” معرض في أصيلة ضمن الدورة الربيعية
...
-
-مسألة وقت-.. فيلم وثائقي عن سعي إيدي فيدر للمساعدة بعلاج مر
...
-
رايان غوسلينغ ينضم لبطولة فيلم -حرب النجوم- الجديد المقرر عر
...
-
بعد ساعات من حضوره عزاء.. وفاة سليمان عيد تفجع الوسط الفني ا
...
-
انهيار فنان مصري خلال جنازة سليمان عيد
-
زمن النهاية.. كيف يتنبأ العلم التجريبي بانهيار المجتمعات؟
المزيد.....
-
فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج
...
/ محمد نجيب السعد
-
أوراق عائلة عراقية
/ عقيل الخضري
-
إعدام عبد الله عاشور
/ عقيل الخضري
-
عشاء حمص الأخير
/ د. خالد زغريت
-
أحلام تانيا
/ ترجمة إحسان الملائكة
-
تحت الركام
/ الشهبي أحمد
-
رواية: -النباتية-. لهان كانغ - الفصل الأول - ت: من اليابانية
...
/ أكد الجبوري
-
نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر
...
/ د. سناء الشعلان
-
أدركها النسيان
/ سناء شعلان
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
المزيد.....
|