|
الإصغاء إلى نداء الغابة وخطاب الطبيعة في القصة الليبية
وديع العبيدي
الحوار المتمدن-العدد: 3215 - 2010 / 12 / 14 - 00:10
المحور:
الادب والفن
وديع العبيدي الإصغاء إلى نداء الغابة وخطاب الطبيعة في القصة الليبية
(قراءة في مجموعة “غناء الصراصير”)
الصادرة عن دار البيان ببنغازي 2003
تصدر قصص المجموعة عن نوستاليجا مُضخَّمة.. تعمد إلى إلغاء العالم.. ونفيه خارج حدود قرية صغيرة في الجبل الأخضر.. اسماها الإيطاليون “ماميللى”.. ويُسمِّيها أهلها اليوم “عمر المختار”.. و”غناء الصراصير” هي المجموعة الثانية التي تنهل على نفس الشاكلة.. بعد مجموعته الأولى “الخيول البيض”.. ولا غرابة بعد هذا أن ترتبط لفظة “الصراصير” وما تُثيره من وَقْعٍ ذميم.. بمفردة من مفردات العالم الخارجي.. عالم الهندي العامل في الشركة الأجنبية المُستقدَمة على حافّة القرية.. واتخاذها عنواناً للمجموعة يكشف عن دالَّتين:
1ـ رفع مستوى إدانة العالم (الخارجي) من بين السطور إلى العنوان.. ومن المسكوت إلى الاحتجاج المُعلَن.
2ـ مواصلة نهجه الذي خطَّه في المجموعة الأولى.. المبني على الحفاوة بعالم الحيوان وتفاصيل حياته اليومية.. مما قد يتكشَّف عن رؤية فلسفية ما.. لا تكتفي بالانطواء على عالم القرية ونفي العالم الخارجي.. وإنما الاستمرار في فرز عالم القرية بالاحتفاء بعالم الحيوان.. وتهميش الكائن الإنساني المُتسبِّب في جَرِّ الكوارث والويلات على أُمّة الأرض.. وهو انحياز للطبيعة البعيدة عن تأثير الإنسان على المستوى الثاني.
قد يبدو هذا الاستنتاج مُبكِّراً في فكر (أحمد يوسف عقيلة).. ولكنه يبقى إحدى قراءات أو دلالات أدبه التي لا تنقصها الصراحة.. مهما أمكن التمويه عليها أو تبريرها.. وقد سبق أن أشرنا في قراءة (الخيول البيض) إلى بطولة الحيوان للقصص.. وأشرنا تحديداً إلى اشتراك الكلب في معظم القصص.. ولكنه اتخذ الخيول التي وردت مرة واحدة بشكل أساس وغيرها على الهامش عنواناً لاعتبارات على الأكثر دبلوماسية وذوقية.. سيما في كتاب أول.. والصراصير هي الأخرى وردت في قصة واحدة.. ولكنها تصدَّرت العنوان على حساب النمل أو الكلب أيضاً.. وإذا كانت الخيول عنواناً احتفائياً مُوحياً بالأمل والتفاؤل.. فالصراصير تُقدِّم رسالة مُغايرة وعلى الضدِّ منها.. وإذا عرفنا أنَّ بين كتُب الكاتب عناوين أخرى على غرار (حكايات ضِفْدَزاد ـ عناكب الزوايا العُليا ـ الحرباء) أدركْنا أنَّ فلسفة الكاتب تنمو بشكل هرمي متوازٍ.. وتزداد تكشُّفاً كلما ارتفعت نحو الأعلى وتعمَّقت رواسيها.. وهي إنما تصدر عن رؤية مُتجذِّرة مُعمَّقة.. وليس مصادفة ذهنية أو تقاطعات لغوية.
(..عندما أكون في الغابة أعود إلى طفولتي الأولى.. حيث أكتشف الأشياء لأوَّل مرَّة.. أراها.. أشمُّها.. ألمسها.. أتماهَى في المكان.. وأحسُّ أنَّ بإمكاني إدراك المعنى الخفي للأشياء).
(تلك كانت مُتعتي.. أجلس على صخرة.. أراقب الظِّلال المترنِّحة.. تمشي كل مساء إلى السفح المقابل.. حيث يتلاقى الصنوبر مع الخرُّوب.. ويتمدَّدان سويّاً فوق العرعر والبطوم).
(الطفل الذي في أعماقي يبتهج.. ينتشي.. أتسلَّق الأشجار.. أستكشِف الأعشاش.. أتحسَّس العصافير.. يسري في جسدي دفء الريش وملاسته.. أرتاد الكهوف.. التي تُشكِّل لي دائماً سحراً لا يُقاوَم).
(فكَّرتُ في أن أكتب شيئاً.. لكنني فضَّلتُ الرسم.. بدأتُ التخطيط بالفحم.. لم يكن لدي تصوُّر سابق عن الشكل الذي ينبغي رسمه.. لكنني بدأت برسم أفعى).
تنطوي الكتابة لدى (أحمد يوسف عقيلة) على لعبة كبيرة.. لعبة تُوحي بالبراءة والعفوية.. لغته بسيطة حدّ التماهي مع ذات القارئ مهما كان مستواه.. وهو إذ يجرُّك إلى داخل النَّصّ من غير أن تدري.. لا يضعك أمام قضية شائكة تفكِّر في التنصُّل منها.. بل قد يُغريك لمشاركته اللهو البريء.. سيما أنَّ ذلك لا يُعرِّضك لمجازفة أو خسارة مقصودة.. الكتابة لديه هي حالة تقمُّص.. والقاصّ الجيِّد هو الذي يستطيع تقمُّص القصة وشخوصها بنجاح.. مثله مثل الممثِّل على المسرح.. بغير ذلك تولَد القصة مُفكَّكة والحوار مُفتَعَلاً.. ومدى نجاح القصة يتمثَّل في مقدرتها على إقناع القارئ/المستمع بصدقيّة الخطاب.. القاصّ الجيِّد هو الراوي الجيِّد.. والراوي الجيِّد هو الذي يُسيطر على مُستمعيه.. ويملك عليهم حواسَّهم.. ويصبح بينهم وبين أنفسهم.. أقرب منهم إليهم.. حتى يبدو القارئ/المستمع الحقيقي مثل المُريد في حلقة متصوِّفة.. يوجد في الفكرة مُنقطِعاً عن الراهن.. حتى ينقطع الذِّكْر.. وتمُرّ حالة صمت أو صوت مختلف يُعيده للأرضين.. و(أحمد يوسف) يتقمَّص.. ولكنَّه لا يتقمَّص القصة.. وإنَّما يتقمَّص الراوي.. والراوي في قصصه هو الشخصية الطفلية.. وما يُقدِّمه لنا هو تفريغ لذاكرة طفلية.. بعبارة أخرى إنَّ الكاتب يعيش طفولته مرَّة ثانية.. ولكن على الورق.. مُستحضِراً كلَّ الأدوات والإكسسوارات اللازمة التي تُضاهي عالم الجبل الأخضر.. وإذا قُيِّض لأحدنا الآن المجازفة والتوجُّه إلى قرية (عمر المختار) لاستقصاء مفردات ومسرح قصصه فقد لا يجد شيئاً.. هذه القرية القصصية توجد في ذهن القاصّ بالشكل الذي تصورها أو صوًّرتْها ذاكرته.. لكننا لم نجد حتى الآن ما يُبَرِّر هذا الحنين المُفرِط للكاتب إلى قريته.. وهو الذي مايزال يُقيم قريباً منها.. ولم يحدث ما يضطرُّه لمغادرة بلده أو عالم الجبل.. هذا الجبل.. عالمه الذهني والشعوري الطفلي يقف كذلك بمثابة يوتوبيا انزياحية.. في وصف ثانٍ لميكانزم السرد عند (أحمد يوسف عقيلة).. ولكننا مرَّة أخرى نبحث عن ماوراء الشيء.. والذي (قد) تتكشَّف عنه كتبه اللاحقة.
وإذا كان تعويل الكاتب لاختيار مسمَّيات معينة للتعبير عن الرفض والقبول والحُبّ والكره في عناوين قصصه.. فإنه يميل إلى السخرية والتهكم في ثنايا المتن.. ففي قصة (غناء الصراصير) يرسم صورة هزلية ساخرة للعامل الهندي وطقوسه الهندوسية.. لانتمائه إلى عالم خارج القرية.. من جهة.. ولكون شركته تريد سفلتة شارع القرية وتجريده من براءته الطبيعية.. واستخدم الكاتب نفس السخرية والتهكم في مجموعته الأولى في قصة (تحولات) التي تتحدث عن زيارة وزير للقرية.. وقصة (الوصفة الأخيرة) التي تتحدث عن طبيب القرية.. وينطبق عليهما ما ينطبق على الهندي من انتمائهما لخارج القرية.. ومحاولتهما إحداث تغييرات في عالمها.. وإخراجها عن شِرْعتها الطبيعية.. ويقودنا ذلك إلى الدلالة الفكرية الثالثة في القصص.. مُمثَّلةً في إصرار الكاتب على تجميد مجتمع القرية في نقطة زمنية تاريخية مُحدَّدة.. لا تتجاوز مرحلة الرعي والزراعة البدائية.. وموقفه الصارم ضد كل محاولة تغيير أو تطوير للبنى التحتية أو المعالم الخاصة بها.. في إطار موقف عام من مسالة التطور عموماً.. واستخدامات التكنولوجيا خاصة.. والتي ازدادت أصابع الاتهام المتجهة نحوها.. باعتبارها مصدر الشرور واللعنات.. التي انعكست على الإنسان والمجتمع الإنساني.. الذي تحوَّل إلى مجرَّد جهاز خدمي واستهلاكي لتلبية متطللبات النمو الرأسمالي الامبريالي..الذي لم يُحَوِّل العالم إلى قرية كبيرة.. وإنما مسخ الكائن الإنساني في صورة روبوت.. مُفتقِد لأبسط خصائصه وشروطه الإنسانية.. وأوَّلها الحرية والكرامة.
إنَّ السؤال الذي يُخالجنا ونحن نقف أمام كاتب جيِّد ومقتدِر مثل (أحمد يوسف عقيلة) هو: ما هي أبعاد الفكرة التي تتناوش الكاتب.. ما هي إمكانيات النمو والامتداد..؟ إنَّ إصدار كتاب هو بمثابة هويّة معرفية.. قادرة على أن تُقدِّم نفسها.. أو تُقدِّم شيئاً جيِّداً للقارئ.. ولكن القارئ يستلزم أيضاً فضاءً واسعاً للنمو والتجدُّد.. و(أحمد يوسف) صاحب الفكرة أو الفلسفة الإنسانية العصرية مُطالَب بالانتقال.. أونقل قارئه إلى مرحلة أو مستوى معرفي جديد.. لاستكشاف فضاءات وكائنات أخرى لا تني التكنولوجيا المعاصرة عن التهامها وتدميرها.. (غناء الصراصير) تعمَّدت تهميش الكائن الإنساني.. ودفع الحيوان إلى المركز أو المسرح.. ونحن معه.. والنقلة لم تحدث مفاجأة.. وإنما ثَمَّة ما هيّأ لها في مجموعته الأولى.. وما نشره في الصحافة خلال ذلك.. في مجموعته الأولى أمكن تشخيص مستوى بدائي من الصراع الحضاري والسياسي إذا صحَّ التعبير.. ولكنّه افتقد الهوية الطبقية أوالاقتصادية.. في مجموعته الثانية تقدُّم محسوس في مستوى الصراع.. ولكنه ليس نوعياً.. أذكر هنا قصة (دفن الجثة) للكاتب الليبي (سالم الأوجلي) حيث تدور السيارة والمُشيِّعون بانتظار الوصول إلى (مقبرة).. ولكنهم كلما بلغوا واحدة اتضح تحويلها إلى معمل أو منشأة صناعية.. هذا الاتجاه الذي يبرز بشدّة في القصة الليبية لافت للاهتمام.. وجدير بالعناية والتطوير.. فيما أولغت القصة العربية في بلدان أخرى باتجاهات مختلفة.. يبدو اتجاه القصة الليبية.. إذا حاولنا تأصيل هذا التيار.. متميزاً وأكثر تقدماً على صعيد الرؤية.. وهو الاتجاه الذي نادى به فلاسفة ومفكرون أوروبيون بعد الحرب العالمية الثانية.. مُحذِّرين ومُندِّدين بآثار التقدم التكنولوجي.. والتطور الاقتصادي الرأسمالي على حساب الإنسان والذات الإنسانية.. وهو ما أصبح أكثر وضوحاً اليوم مع بدء الألفية الجديدة.. والانحدار المُريع للإنسانية والأخلاق.
إنَّ الاحتماء في محيط القرية والتصدي (الذهني) لخُطى التكنولوجيا على أعتابها لن يكون كافياً.. ولا بُدَّ من نقلة نوعية في الخطاب الليبي القصصي والفكري.. وهو ما ننتظره من صديقنا (أحمد يوسف عقيلة) وزملائه في القصة الليبية.
#وديع_العبيدي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أصل الشرّ.. (2)
-
أصل الكلام.. كلمة
-
عندما ندم الله.. (25) الأخير
-
عندما ندم الله.. (24)- ما قبل الأخير
-
الاطفال.. طريق إلى أنانية الأنثى
-
عندما ندم الله.. (23)
-
أصل الشر..(1)
-
عندما ندم الله.. (22)
-
عندما ندم الله.. (21)
-
عندما في الأعالي.. (20)
-
عندما ندم الله.. (19)
-
عندما ندم الله (18)
-
عندما ندم الله.. (17)
-
عندما ندم الله.. (16)
-
عندما ندم الله.. (15)
-
عندما ندم الله..(14)
-
عندما ندم الله..(13)
-
عندما ندم الله.. (12)
-
عندما ندم الله .. (11)
-
عندما ندم الله ..(10)
المزيد.....
-
دانيال كريغ يبهر الجمهور بفيلم -كوير-.. اختبار لحدود الحب وا
...
-
الأديب المغربي ياسين كني.. مغامرة الانتقال من الدراسات العلم
...
-
“عيش الاثارة والرعب في بيتك” نزل تردد قناة mbc 2 علي القمر ا
...
-
وفاة الفنان المصري خالد جمال الدين بشكل مفاجئ
-
ميليسا باريرا: عروض التمثيل توقفت 10 أشهر بعد دعمي لغزة
-
-بانيبال- الإسبانية تسلط الضوء على الأدب الفلسطيني وكوارث غز
...
-
كي لا يكون مصيرها سلة المهملات.. فنان يحوّل حبال الصيد إلى ل
...
-
هل يكتب الذكاء الاصطناعي نهاية صناعة النشر؟
-
-بوشكين-.. كلمة العام 2024
-
ممثلة سورية تروي قصة اعتداء عليها في مطار بيروت (فيديو)
المزيد.....
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
المزيد.....
|