|
أعطوه ألف ألف درهم
امين يونس
الحوار المتمدن-العدد: 3214 - 2010 / 12 / 13 - 14:40
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
كان للملوك والأباطرة والخُلفاء في الأزمنة القديمة ، صلاحيات مُطلقة ، إذ يَعتبِرون أنفسهم وكلاء الله في الأرض . وكانتْ كلمتهم أمراً واجب التنفيذ .. فلم يكن غريباً ان يأمرَ الملك او الخليفة ، بقطعِ رأسِ فلان ، حسب مزاجهِ وحالته النفسية ، فهو القانون والقضاء والحَكَم ، وقراراته غير قابلة للإستئناف ، وكان من الشائعِ أن يُعطي شاعراً أو مَدّاحا مبلغاً كبيراً من المال العام ، فهو المالك وهو المُتصرفِ بمالهِ حسبَ هواه " إذ انه من الناحية العملية فان كُل مال المملكة او الامبراطورية هو بمثابة ماله الخاص " . ففي جميع مراحل الامبراطوية الاسلامية المترامية الأطراف ، كان من الطبيعي تماماً ان يهِب الخليفة أو أحد ولاتهِ على الأمصار ، شاعراً أوطبالاً او أي شخصٍ آخر .. ألف دينار أو مئة ألف أو ألف ألف درهم ، حسب العملةِ المتداولة في ذلك الزمن ... أو يرمي لهُ بكيسٍ أو أكثر من القطع الذهبية . وكان هذا يحدث في الاماكن الاخرى من العالم أيضاً ، بدرجاتٍ متفاوتة وأشكال متباينة ، مثل الممالك والامارات الاوروبية او مثيلاتها في شرق أسيا . ولكن مع تطور الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية ، في العديد من البلدان وحدوث الثورات الكبرى في كُل من فرنسا وبريطانيا ، في المجالات الاجتماعية والصناعية ، والقفزات الهائلة في التقدم العلمي ، فان " نوعية الحُكم " تغيرتْ تدريجياً ، وبرزتْ مفاهيم جديدة ، مثل المساواة والعدالة والحريات العامة والمباديء الاولية للديمقراطية والانتخابات وتداول السلطة وقبلها جميعاً القوانين والدساتير ، التي تُنّظِم الحقوق والواجبات وتفرض قيوداً على الحاكم والمحكوم . نجحتْ الكثير من دول العالم في تقنين وتحجيم صلاحيات الحاكم وإخضاع هذه الصلاحيات الى الدستور والقانون والمُراقبة والمُحاسبة ، بحيث ان السُلطات الاربعة في تلك البلدان ، تعودتْ بمرور الزمن على القيام بمهامها ، كُلٌ في مجاله ، وهذا ما يحدث في الدول التي لها باعٌ طويل في التجربة الديمقراطية ، أو حتى الديمقراطيات الحديثة نسبياً والتي إستفادت من تجارب الآخرين وإختصرتْ الوقت للوصول الى نظام حكمٍ مقبول . الذي يحدث عندنا في العراق عموماً ، هو إمتلاك " الحاكم " لصلاحيات ضخمة خصوصاً في الجانب المالي ، وهو شكلٌ آخر من صلاحيات الملوك والخلفاء القدامى ، ففي بغداد اليوم ، سمحَ الدستور بفقراتهِ السائبة ، بتخصيص ما يُسمى " منافع إجتماعية " الى المواقع السيادية كافة ، فكُل من رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء ورئيس البرلمان ونوابهم ، لديهم تخصيصات ضخمة بملايين الدولارات شهريا تحت عنوان غريب لا يعرف أحد معناه ( منافع إجتماعية ) ... ومن المفروض ان يقوم هؤلاء القادة السياديون بصرف هذه الاموال ، مثلاً على : ضحايا الارهاب ، مساعدات للمرضى المحتاجين ، إكراميات وهدايا ومنح للفنانين والرياضيين والصحفيين ..الخ . وكما هو واضح ، فان طريقة توزيع هذه المنافع .. مطاطة ومزاجية ولا تعتمد على شروط دقيقة بحيث تصل الى المُستحقين فعلاً ، بل ان " المُستشارين " هم الذين يحددون في الواقع حجم ووجهة صرف هذه الاموال على الأغلب. والأنكى من ذلك ... انه لا توجد أية رقابة فعلية ومن أية جهة ، على كيفية صرفها !. ان اية دولة متحضرة في العالم ، لا يُمكن ان يكون لحكامها حق التصرف بالأموال العامة ، بل ان حتى النثرية " البسيطة مُقارنة بما تحت يد حكامنا " ، خاضعة للرقابة الصارمة . المصيبة ان هذا الفساد المُقنن عندنا لايقتصر على الرئاسات ونوابهم ، فقط ، بل انه يمتد الى كافة المواقع الأدنى .. فحين يكون القائد او الزعيم او الرئيس ، يرضى ان يتصرف هو نفسه ، بالملايين دون ان يكون خاضعاً للرقابة او المسائلة ، فأنه لايستطيع ان يُحاسب بجدية ، الموظفين الأقل منه شأناً الضالعين في الفساد. سألتُ أحد أصدقائي : هل سمعت ان فلان الفلاني إشترى داراً جديدة ؟ أجاب : نعم وكلفَته أكثر من 700 ألف دولار واشتراها من خلال المكتب العقاري الفلاني . قلتُ : ومن أين له هذا ، فنحن نعرفه ونعرف إمكانياته المادية المتواضعة ، هل باع داره القديمة ؟ كلا ، ثم ان داره القديمة لا تساوي غير ربع هذا المبلغ ، لكنه كما تعرف كان عضوا في البرلمان في الدورة السابقة . قلتُ : وحتى لو كان كذلك ، إحسب خمسين شهراً أو ستين شهراَ وإضربها بعشرة آلاف دولار ، وعلى إفتراض انه وعائلته لايصرفون شيئاً على الاطلاق طيلة هذه المدة ، فانه لايستطيع شراء دارٍ بثلاثة أرباع المليون دولار !. قال : المسألة ليست هي الراتب ، وكفاكَ تشكيكاً بنزاهة الرجل ، فانه لم يسرق ولم يختلس ، فهو لم يكن موظفاً مهما او مسؤولاً مؤتمناً على الاموال العامة ، بل ان " القيادة " منحَتْهُ مبلغاً محترما لكي يشتري دارا وسيارة جديدة !. صديقي أعلاه إنسانٌ طيب ومتعلم وصاحب شهادة ، ومع هذاهومُقنتعٌ بأن " من الطبيعي " ان يمنح الرئيس او الزعيم او المحافظ ... " إكرامية " او " منحة " لأي أحد ، حسب قناعاته . ولأن صديقي يعتقد ان الكبير كبير لأنه يستطيع ان يعطي ويمنح ويهِب ، وإلا فما معنى " أهميتهِ " إذا لم يفعل ذلك ؟! فانه يقول بان هذا الفعل لا يدخل ضمن ( الفساد المالي والاداري ) ، وهنالك الكثيرون في المجتمع أمثال صديقي ، يعتقدون نتيجة التعود والأمر الواقع وربما الطيبة التي تصل لحد السذاجة ، ان هذا الأمر طبيعي . بينما في الحقيقة ، فان مُجرد وجود أموال تحت تصرف المسؤول " مَهما كان مركزه " وكون صَرْف هذه الاموال غير خاضع للرقابة والمُحاسبة ، هو الفساد بعينهِ . بل ان قُطع " الأراضي " التي يوزعونها بنفس طريقة توزيع الاموال ، هي هدرٌ لحقوق المواطنين ، وهي إستغلالٌ للمنصب والسلطة ، وهي نوعٌ آخر لل " الرشوة " السياسية !. فالمسؤول يقترف جريمتين في هذه الحالة : هو يستغل منصبه لأغراض شخصية وحزبية ، وهو يَهِبُ ما لا يملك ، فأن المال أو الارض ، هي ملكية الشعب وليس له الحق ان يتصرف بها خارج حدود القانون والعدالة . والذي يزيد في الطين بّلَة ، انه ، ليس الشخص المُهم او الرأس الكبير ، فقط هو الذي " يُمارس " تبذير المال العام وهدره ، بل أصبح من الطبيعي ان يكون لإبنهِ وأخيه وأبناء عمومتهِ .. وحتى لخياطهِ او حلاقهِ الذي يصبغ شواربه .. لكُل هؤلاء نفوذ ، وسطوة ، وكلمة مسموعة .. كُلٌ من موقعهِ وحسب حجمهِ !، بحيث تكونتْ طبقة من المنتفعين الطفيليين . ان " ثقافة المكرمة " والتي هي من بقايا ثقافة العهد البائد ، لازالتْ موجودة للأسف الشديد ، وبدلاً من ان يكون رئيس الجمهورية او رئيس الوزراء او الوزراء .. خَدماً للشعب وأدوات لتحقيق العدالة وتوفير الخدمات ... فان هؤلاء الكِبار " الذين إنتخبناهم نحنُ " ، يّمنونَ علينا ب " مكراماتهم " و " عطاياهم " ... وكأننا خدمٌ لديهم وكأن تلك الأموال من بقية تركة أجدادهم !.
#امين_يونس (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
على هامش مؤتمر ح د ك في أربيل
-
إعفاء مُزّوري الشهادات من العقاب
-
هل يُغادر - إبليس - العراق ؟
-
إتقاء شرور ويكيليكس
-
لا تستطيع ان تستبدل اُمك !
-
لو كُنتَ شُجاعاً .. تعال الى الميدان
-
جواد البولاني .. بالدشداشة والعقال
-
المالكي .. والمُعّلِم المسيحي
-
الكُل راضون ولهم حصتهم .. ماعدا الشعب !
-
خسَرْنا أمام الكويت .. بصورةٍ مُتَعمدة !
-
أياد علاوي ... شرطي مرور وحّلاق !
-
عادات سيئة .. -3- عدم الإلتزام بالطابور
-
تقاليد وعادات بالية .. -2- الأعراس
-
تقاليد وعادات بالية .. -1- التعازي
-
إيميلات اعضاء البرلمان العراقي
-
يونس محمود : الرياضة ليسَ لها ظَهر !
-
الاحزاب الحاكمة و - مناديل الجّنة - !
-
كتلة - التغيير - ووزارة النفط
-
مشهدٌ مسرحي
-
المالكي المسكين
المزيد.....
-
رقصت بالعكاز.. تفاعل مع إصرار هبة الدري على مواصلة عرض مسرحي
...
-
هل باتت فرنسا والجزائر على الطريق الصحيح لاستعادة دفء العلاق
...
-
الجزائر تعلن إسقاط طائرة درون عسكرية اخترقت مجالها الجوي من
...
-
من الواتساب إلى أرض الواقع.. مشاجرة بين المسؤولين العراقيين
...
-
قفزة بين ناطحتي سحاب تحول ناج من زلزال تايلاند إلى بطل
-
قراءة في تشكيلة الحكومة السورية الانتقالية : تحديات سياسية
...
-
قناة i24 الإسرائيلية: ترامب يعتزم لقاء الشرع خلال زيارته للس
...
-
إعلام أمريكي: دميترييف وويتكوف يلتقيان في البيت الأبيض
-
الخارجية الألمانية تعلن إجلاء 19 مواطنا ألمانيا مع عائلاتهم
...
-
الولايات المتحدة توسع قوائم عقوباتها ضد روسيا
المزيد.....
-
أمريكا وأوروبا: ملامح علاقات جديدة في عالم متحوّل (النص الكا
...
/ جيلاني الهمامي
-
قراءة جديدة للتاريخ المبكر للاسلام
/ شريف عبد الرزاق
-
الفاشية الجديدة وصعود اليمين المتطرف
/ هاشم نعمة
-
كتاب: هل الربيع العربي ثورة؟
/ محمد علي مقلد
-
أحزاب اللّه - بحث في إيديولوجيات الأحزاب الشمولية
/ محمد علي مقلد
-
النص الكامل لمقابلة سيرغي لافروف مع ثلاثة مدونين أمريكان
/ زياد الزبيدي
-
العولمة المتوحشة
/ فلاح أمين الرهيمي
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
الخروج للنهار (كتاب الموتى)
/ شريف الصيفي
-
قراءة في الحال والأداء الوطني خلال العدوان الإسرائيلي وحرب ا
...
/ صلاح محمد عبد العاطي
المزيد.....
|