ناصر بن رجب
الحوار المتمدن-العدد: 3214 - 2010 / 12 / 13 - 08:04
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
صدرت مؤخّرا الترجمة الفرنسية لكتاب بارت إهرمان (Jesus, Interrupted) تحت عنوان : "بناء شخصية المسيح، في مصادر الدين المسيحي"([1]).
في الفصل الأول من كتابه تحت عنوان : "هجوم التاريخ على العقيدة"، يقول بارت إهرمان : "أن نقرأ كتابا من البداية إلى النهاية، فهذا شيء طبيعي جدّا. وهذا ما نسمّيه القراءة "العموديّة". نبدأ من رأس الصفحة ونقرأ إلى أسفلها؛ ننطلق من بداية الكتاب ونمضي في القراءة إلى النهاية. وهذا لا عيبَ فيه، فالأناجيل ولا شكّ كُتبت لكي نقرأها هكذا. ولكن يمكن قراءتها على نحو آخر؛ أي "أفُقيّا". ففي القراءة الأفقية نقرأ قصّة في واحد من الأناجيل، ثم نقرأ نفس القصة في إنجيل آخر، وكأنّما نضعهما جنبًا إلى جنب، على عمودين. وبعدها نقارن القصّتين بالتّفصيل.
قراءة الكتاب المقدس أفقيّا تسمح بإظهار كل أنواع الإختلافات والتناقضات، أحيانا الإختلافات هي مجرّد تغييرات بسيطة في القصّة، وقد تكون مُهمّة لِفهم ما كان مُؤلِّف الإنجيل يريد إبرازه، ولكنّها غير متناقضة. مثلا، إذا قرأنا أفقيّا قصّة ميلاد المسيح في إنجيل متّى ولوقا، فإنّنا سنرى أنّ متّى يحكي قصّة المجوس الذين يجيئون لكي يسجدوا للمسيح، في حين يروي لوقا قصّة الرُّعاة الذين يجيئون لنفس الغرض. وهذا ليس متناقضا : متّى يبتغي (لأسباب مهمّة في الواقع) أن يروي قصّة المجوس، ولوقا (لأسباب أخرى) يبتغي أن يقصّ حكاية الرُّعاة.
(...) لنكتفي بالقول الآن أنّ مُعظم القرّاء لا يرون هذه الإختلافات لأنّهم تعلَّموا قراءة الكتاب المقدّس عموديّا – أو على الأقل هم مياّلون لذلك – في حين أنّ المقاربة التاريخيّة تقترح أنّه من المفيد أيضا قراءته قراءة أفقيّة" (ص 38-39) [الترجمة من عندنا].
وكامتداد لهذه القراءة التاريخيّة المقارنة فإنّنا سوف نحاول القيام بقراءات أفقية للّسيرة النبويّة من خلال ما ألَّفه ابن إسحاق أكثر من مائة عام بعد وفاة نبيّ الإسلام. يمكننا أن نقوم بقراءة أفقية على مستويات ثلاثة؛ قراءة أفقية في النصوص الإسلامية؛ ثم قراءة أفقية في النصوص المسيحية (بين الأناجيل)؛ ثم قراءة أفقية بين النصوص الإسلامية والنصوص المسيحية.
فعكسا للأسطورة الرائجة عن أنّنا نعرف كل التفاصيل عن سيرة نبيّ الإسلام، عن طريق سيرة ابن إسحاق التي اختصرها ابن هشام فأصبحت بذلك المصدر الوحيد لهذه السيرة، فالحقيقة أنّنا لا نعرف عنه إلاّ شيئا قليلا، والكثير الذي نعرفه هو من إنشاء محمّد ابن إسحاق الذي سمّاه فقيه المدينة مالك بن أنس "دجّالاً من الدَّجاجِلة" لأنّه كان يتتبّع : " غزوات النبيّ (ص) من أولاد اليهود الذين أسلموا وحفظوا قصّة خيبر وغيرها وأن ابن إسحاق يتتبّع هذا منهم من غير أن يحتجّ بهم"([2]).
معروف أن ابن إسحاق ينحدر بأبيه من مجموعة الرهبان الذين أسرهم خالد بن الوليد وأرسلهم إلى المدينة ليصبحوا موالي لأعيان الصحابة، فهو يعرف بالتفصيل أساطير أنبياء العهدين القديم والجديد فأسقطها حرفيّا على السيرة التي تخيَّلَها لنبيّ الإسلام.
مثلا رواية نزول جبريل في غار حراء هي إسقاط حرفي لنزول جبريل نفسه على النّبي إشعيا. تقول السيرة أن جبريل جاء إلى نبيّ الإسلام وقال له ثلاثا : "إقرأ!"، فكان في كلّ مرّة يجيبه "ماذا أقرأ؟". وكذلك فعل جبريل مع نبيّ بني إسرائيل إشعيا (40، 6) : "صوت قال : إقرأ، فقلتُ : ماذا أقرأ؟"."Une voix dit : "Proclame!", et je dis : "Que proclamerai-je?".([3])
إسقاط آخر للقصّة التي ذكرها بارت إيهرمان في كتابه واستلهمها ابن إسحاق في سيرته النبوية، نجده في إنجيل لوقا عن الرّعاة الذين بشّرهم ملاكٌ [جبريل؟] بميلاد يسوع المسيح : "وكان في تلك المنطقة رُعاة يبيتون في العراء، يتناوبون على حراسة قطيعهم في الليل وإذا ملاك من عند الرّب قد ظهر لهم، ومَجْدُ الرّب أضاء حولهم، فخافوا أشدّ الخوف، فقال لهم الملاك : "لا تخافوا! فها أنا أبشّركم بفرح عظيم يَعُمّ الشعب كلّه ...".
هذه الرواية الأسطورية عن الرعاة والملاك لفّقها ابن إسحاق في السيرة التي غدت الآن مع الاسف مصدرا لا يكاك يرقى إليه الهمس رغم أنّها من بابها إلى محرابها دَجَل في دجل عندما يُورد نفس قصّة إنجيل لوقا كما يلي : "... وحدّثني ثور بن يزيد، عن بعض أهل العلم، ولا أحسبه إلاّ عن خالد بن معدان الكلاعي، أنّ نفرا من أصحاب رسول الله (ص) قالوا له : أخبرنا عن نفسك؟ قال : نعم، أنا دَعْوَة أبي إبراهيم، وبُشرى أخي عيسى، ورأت أمّي حين حملت بي أنّه خرج منها نور أضاء لها قصور الشّام. واستُرضِعتُ في بني سعد بن بكر. فبينا أنا مع أخٍ لي خلف بيوتنا نرعى بَهْما لنا، إذا أتاني رجلان عليهما ثياب بيض بطَسْت من ذهب مملوءة ثلجا. ثم أخذاني فشقّا بطني، واستخرجا قلبي، فشقّاه فاستخرجا منه عَلَقة سوداء فطرحاها، ثم غسلا قلبي وبطني بذلك الثلج حتّى أنقياه ..." (السيرة، ج 1، ص 152). ونفس هذه القصّة نجدها عند عدد كبير من المحدِّثين والمؤرخين المسلمين الذين جاؤوا بعده من الطبري في تاريخه إلى البخاري في صحيحه، إلى أبو نعيم الأصبهاني في دلائل النبوّة وذلك مع تنويعات التي بالرغم من أنّها طفيفة لكنّها تفضح الظرف التاريخي المختلف الذي كتب فيه كلّ واحد منهم. وسوف نعود لاحقا لدراسة هذه القصّة، وقصص أخرى استعارها ابن إسحاق من التوراة والأناجيل، دراسة تفصيلية أفقيّة مقارنة تضع بالتوازي مختلف الصيغ التي وردت فيها سواء في التراث اليهودي، أو المسيحي، أو الإسلامي مع إبراز مواقع تقاطعها ومكامن اختلافاتها وتطابقاتها.
ما نستطيع قوله هنا الآن أنّه يتّضح لنا من إسقاط أسطورة تلقّي نبيّ بني إسرائيل أشعيا الوحي لأوّل مرّة على تلقّي نبيّ الإسلام الوحي لأوّل مرّة ومن إسقاط "دجّال الدّجاجلة" لِبِشارة الملاك للرّعاة بميلاد عيسى في مجيء الملاكين لنبيّ الإسلام من بين الأطفال الرعاة لشقّ قلبه وانتزاع العلقة السوداء وتنظيف أمعائه بماء الثلج و "ماء الورد" كما يضيف الأصبهاني، أنّ سيرة ابن إسحاق، المصدر الوحيد لتاريخ نبيّ الإسلام، هي مجرّد خيالات وأكاذيب. فما أحوجنا اليوم لكتابة سيرة جديدة أقرب إلى تاريخ نبيّ الإسلام كما حدث أو كما كان يمكن أن يحدث فعلا، والمصدر الأول لذلك هو القرآن الكريم الذي بإمكاننا – عكسا لما رأى دو بريمار – إنطلاقا منه أن نعرف حقائق أكيدة وثمينة عن تاريخ نبيّنا عليه السلام.
لكن لا يمكن لأي سيرة جديدة تاريخية فعلا أن تحلّ محلّ سيرة ابن إسحاق الأسطورية إلاّ إذا فكّكناها تاريخيّا بقراءة تاريخية أفقية تقارب بين أساطير العهدين القديم والجديد عن أنبيائهما وبين سيرة ابن إسحاق، وكلّما وجدنا تطابقا بين سيرة أولئك الأنبياء وسيرة نبيّنا أسقطناها كمرجع تاريخي للسّيرة.
[email protected]
[1] Bart EHRMAN, La construction de Jésus, Aux sources de la religion chrétienne, éd. H&O, Paris, 2010
[2] المغازي الأولى ومُؤلِّفوها، يوسف هوروفيتس، ترجمة حسين نصّار، راجعه وقدّم له مصطفى السقا، القاهرة 1949، ص 79. أُعيد طبعه بدار بيبليون، باريس 2005.
[3] أنظر المقال الذي ترجمناه أخيرا للمستشرق الراحل ألفريد لويس دو بريمار : "المقاربة التاريخية للشخصيات الدينية : محمّد"، وهو منشور في موقع الأوان وأُعيد نشره من قبل عدّة مواقع على الأنترنيت.
#ناصر_بن_رجب (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟