|
أنا والرئيس في باريس
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 3210 - 2010 / 12 / 9 - 23:51
المحور:
كتابات ساخرة
لقد التقيتُ سيادة الرئيس، أثناء زيارته إلى باريس. هذه الحكاية عجيبة، ولكنها حقيقية. كنتُ في ذلك الصباح في الخدمة، ألمّ الأوساخ ـ العفو ـ في الشارع المؤدي إلى الشانزيليزيه. فجأة، تناهى إلى سمعي أصوات هادرة من بعيد لمزامير سيارات وموتورسيكلات البوليس. " أكيد هناك موكب رسمي، متوجّه لقصر الرئاسة.. "، قلتُ في نفسي. دقيقة أخرى، وسكتت تلك الأصوات. فأدركتُ أن الموكب وصلَ إلى غايته. المهمّ، أنني كنت عندئذ قد دخلتُ في جادة ضيقة، تقع خلف ذلك المبنى الرسمي مباشرة ً. ألا تقول أن أحدهم كان يقف هناك بمواجهة الجدار، فيما ظهره نحوي. في الشام، ما أن يرى المرء منظراً كهذا حتى يدرك أن أحدهم يبول بلا أدب ولا حياء. " لا تبول هنا يا عرص "، هي جملة معتادة يمكن للمرء أن يقرأها على جدران الأبنية الخلفية، الدمشقية، تحذيراً لمن يمارسون هذه الفعلة القبيحة. ولكننا، هنا، في باريس وليس في الشام. العمى. وذاك الأفندي، الطويل القامة مثل الشنتير، ما يفتأ سعيداً بفعلته. وقلتُ لنفسي: " لأعكرنّ بهجته، حالاً ". " ماذا تفعل، ولاه؟ "، صرختُ به بالفرنسية وأنا أمدّ يدي نحو ياقة قميصه الحريري، المنشى. التفتَ الرجلُ نحوي ملهوجاً، وقد عراه الارتباكُ الشديد.. وربما الرعبُ أيضاً. كانت نظارة شمسية، غامقة، تستر عينيه. ولكني اشتبهتُ في أنني سبق ورأيته في مكان ما؟ وعلى كل حال، حاول السيّد أن يتملص، إلا أنني وقفتُ كالطود في طريقه. وإذ دعوته " السيّد "، فلأنه هو بنفسه من أشار إلى تلك الناحية؛ أينَ كان الموكبُ، الرسميّ، ما زال ينتظر فخامته: " أنا الرئيس الشرعي فلان ابن فلان، وأرغب بالتفاوض مع الأمريكان.. أعني، مع الفرنسيين "، هتف بخوف باللغة الانكليزية وهو يرفع يديه إلى الأعلى بحركة استسلام. " آه، إنه عدوّي اللدود أبن عدوّي السابق "، فكرتُ بتشفّ. لن أضيّع هذه الفرصة الثمينة، التي لا يجود بها الزمنُ مرتين. نعم. بدون نأمة، أمسكته من رقبته هذه المرة، ولويتها. كيفَ سأشرحُ لكم: يعني، ربطتُ رقبته الطويلة مثل العقدة. وحينما انحبسَ بتلك الحركة صوته، قمتُ وشلته بيديّ القويتين ثمّ قذفتُ به في حاوية الخدمة. لحسن الحظ، كان النهار في أوله والحاوية لم تكن مملوءة بالزبالة بعدُ. ثمّ جررتُ أمامي هذه العربة، ذات الدولابين، وغادرتُ المكان بسرعة.
قلنا أنني وصلتُ بطريدتي إلى حديقة صغيرة، ينتصب في مستديرتها تمثال برونزي لشاعر كلاسيكيّ. المكان، كانَ شبه مهجور في هذه الساعة المبكرة. عند ذلك، أوقفتُ الحاوية قرب أحد المقاعد العريضة، ثمّ رفعتُ الغطاء عنها. ألا تقول أن صاحبنا، الفلان ابن فلان، ينتفض واقفا على الفور بقامته المشموطة، فيما هوَ يتلوى برقبته المعقودة مثل حبل المشنقة. ليس شفقة بحاله، ولكن لضرورات الحوار، قمتُ وفكيت رقبته.. أعني، حللتُ عقدتها. " اسمع، يا هذا.. "، خاطبته بحزم بالعربية ثمّ أضفتُ " إياكَ أن تسوّل لك نفسك بالصراخ، أو محاولة المقاومة. سأتكلم معكَ برهة قصيرة، ثم أخلي سبيلكَ ". ما أن سمعني أتحدث بالعربية، وبلهجة أهلية محلية، حتى اصفر وجهه وشحب. ثمّ إذا به يرتعد مثل ورقة في مهبّ هذا الشتاء القارص. ولكي أطمأنه، ناولته نظارته الشمسية، التي كانت قد سقطت منه في الحاوية: " تفضل، واهدأ " " ولكن، ماذا تريد مني؟ وأي حوار هذا، فيما أنتَ تعاملني كالأسير ؟ "، هتفَ منفعلا. فما كانَ مني، هادئا دوماً، سوى تذكيره بما يمارسه هو ونظامه من " حوار " مع معارضيه في الداخل. إذاك، هز رأسه مُتمتماً: " وإذاً، فأنتَ من جماعة المعارضة الخارجية، غير الوطنية؟ " " وما هي المعارضة الوطنية، ما دمتَ تخوّن حتى معارضيك في الداخل وتزج بهم بالمعتقلات بمحاكمة وبدونها ؟ " " إنها الجبهة الوطنية التقدمية؛ معارضة وموالاة تحت سقف واحد.. " " ولكنني سمعتُ، أن أعضاء القيادة المركزية للجبهة يذهبون الواحد وراء الأخرى إلى مأوى العجزة، لكي يقضوا شيخوختهم هناك بسلام و.. " " ولكننا، مع ذلك، نستدعيهم من هناك بشكل دوري، عندما يحين موعد الاجتماع المقرر أو لإصدار بيان تنديد بالمؤامرات الصهيونية الشرسة "، أجابني بثقة هذه المرة مُشفعاً ذلك بابتسامة صفراء. إلا أنه ما لبث أن توجّه إليّ مكشراً: " وهل هذا هو مستوى المعارضة، في الخارج؟ "، تساءل فيما يشيرُ باحتقار لبَذة العمل، الزرقاء، التي أرتديها. عندئذ، ذكرتُ له اسمي، وشهادتي العلمية. فما كان منه إلا أن هتف مذهولاً: " أأنتَ تحملُ شهادة طبيب عيون، مثلي؟ " " أجل، ومتخصص بالقرون.. أعني، بجراحة الشعيرات القرنية " " ولماذا تشتغل زبالاً، ولا تمارس مهنتكَ وتعيش بكرامة كأي دكتور؟ " " لأنني، يا سيادة الرئيس الدكتور.. رجلٌ مهاجرٌ، وفوق ذلك منفيّ ومعارض " " أنتَ قلتها بلسانكَ؛ فلو لم تكن معارضاً وبقيتَ في الوطن، لكنتَ الآن غنياً و.. " " وذليلا مهاناً بلا كرامة ولا شرف ولا ضمير " " إنني أحذركَ، أيها المواطن: فأنت بهذا القول تهين جميع أطباء بلدك الذي منحكَ شهادتك العلمية " " لو كان هذا بلدنا، لما كانَ عنوان آخر كتاب للمبدع الراحل محمد الماغوط " سأخون وطني "؛ ولما قال الراحل نزار قباني، أهم شاعر عربي، في آخر مقابلة له تلفزيونية: " إذا ضربني وطني على خدي الأيمن، فلن أعطيه خدي الأيسر "؛ ولما طلب حنا مينه، أهم روائي عربي بعد نجيب محفوظ، في وصيته الأخيرة: " أطلبُ تشييع جنازتي من لدن عائلتي فقط، ولا أريد حضور أي مسئول رسمي فيها و.. " " لعلمك، فإنّ هؤلاء الذين تسميهم أنتَ " مبدعين "، كانوا غاضبين من الدولة بسبب عدم تكريمهم بجائزة ثقافية كما يحصل في باقي الدول " " ولماذا لم تكرموهم بجائزة، يا سيّدي؟ " " هذا سؤال مهم. كما أنني أقدّرُ احترامك لمقامي كسيّد رئيس. وجواباً أقولُ، أنّ الجائزة من المفترض أن تكون ماليّة: فهل تريد أن ينقصَ دَخل أبن عمي ، الملياردير، أو دخل أبن خالي ، الأوفرملياردير، أو أو أو..؟ " " معك حق، والله. وحتى التكريم بإشارة قماشية ووسام نحاسي، فإنه مخصص في بلدنا لأولئك المطربجية الذين سبق وغنوا لوالدكم أغان تمجيدية، من قبيل: " معك الشعب كلّ الشعب، الله معك يا حبيبَ الشعب " " معلوم. وكذلك للفنانين المُبَشّرين بجنة المقاومة والصمود والممانعة " " على ذكر المقاومة، فهل اقتنعَ الرئيس ساركوزي، أخيراً، ببراءتكم وبراءة موكلكم المنتصر بالله؟ " " بخصوص قضية الحريري، قصدكَ؟.. آه، نعم. إنها قضية بسيطة، فنية، واتفقنا على طيها نهائياً. لدينا الآنَ مهام أخرى، أكثر إلحاحاً: من أهمها، كيفية تجنيب لبنان الشقيق من فتنة داخلية يعمل جميع الأطراف الداخلية هناك على تجنبها من خلال طرح مسألة المحكمة الدولية جانبا وضرورة معاقبة شهود الزهور قضائيا وجلب أولئك الساسة اللبنانيين وفق مذكرة القبض، القضائية، التي أصدرها قاضي الفرد العسكري لدينا الخ الخ " " عال. وهل يؤيد السيد ساركوزي إقامة دولة فلسطينية في الضفة وغزة، كما طرحها الرئيس محمود عباس؟ " " أوف كورس. هذا إذا وافقت المقاومة هناك على هذه الفكرة.. " " كيف، لم أفهم؟ " " أعتقدُ أنّ لدى حماس وحلفاءها فكرة أخرى، أكثر واقعية: وهيَ رمي اليهود في البحر، ثم العودة لحدود ما قبل الخامس من حزيران على أساس الأرض مقابل السلاح.. أعني، مقابل السلام " " وطبعا الشأن العراقي، كانَ أيضا على رأس جدول المباحثات مع مضيفكم الفرنسي؟ " " طبعاً. ولقد اتفقنا على عروبة العراق ووحدة أراضيه ومكافحة الإرهاب ضد المدنيين و.. " " ولكن، من المعروف أنكم تسمون الإرهاب بالمقاومة؟ " " هذا حديث آخر. أنت تعرف، لدينا 11 فرعا للأمن في البلد. وكل واحد من هذه الفروع عليه أن يقدم تقريره، اليومي، أمام حضرتنا. وآلية عمل الفروع وصلتها بالقصر جد سلسة وشفافة: يقوم فرع المخابرات الداخلية بتدريب وتسليح المقاومين القاعديين والبعثيين، ثم يُرسلوا إلى العراق. هناك، يقبض على بعضهم ، فيتم إبلاغنا من قبل السلطات العراقية أو سلطات الاحتلال سابقا. عند ذلك، يقوم فرع المخابرات الخارجية لدينا بعمل المطلوب، فيطالب السلطات العراقية بتسليم أولئك الإرهابيين لعدالتنا. حينما ترفض تلك السلطات تسليمهم، يتم إبلاغي بالأمر. هنا يأتي دوري. فأدلي بتصريح أو مقابلة مع صحيفة عربية أو غربية، قائلا أن العراقيين لا يتعاونون معنا ضد الإرهاب الخ الخ " " عفوا، سيدّي، لهذا السؤال الساذج: وبقية فروع المخابرات؛ ما هي مهماتها إذاً؟ " " إنهم يعتنون بالمعارضة الداخلية و.. " " ولكنكَ، بنفسك، نوهتَ بضعف هذه المعارضة أو بعدم وجودها..؟ " " وهل هذا ذنبي؟ هل تريدني أن أسرّحَ من عملهم عشراتِ الألوف من أبناء قريتي والقرى المجاورة لقريتي، من العاملين في الفروع الأمنية، بسبب ضعف المعارضة لدينا؟ " " أعوذ بالله، وهل ينقصنا بطالة وهجرة وتهجير..؟؟ " " بمناسبة الهجرة، فقد التقيت يوم أمس مع ممثلي جاليتنا في فرنسة. وكانوا سعداء بوضعهم هنا، من ناحية سرعة الحصول على الإقامة والجنسية والعمل ووو " " هذا، مع أنّ 300 ألف مواطن كردي بلا جنسية، منذ أن سحبت أوراقهم الشخصية قبل حوالي خمسين عاماً..؟ " " هذا حديث آخر، ومرتبط بآفاق حل القصية الكردية مع معارضين داخليين شرفاء غير مرتبطين بأجندة خارجية، فضلا عن الضرورات القومية فيما يخص حالة الحرب مع العدو الصهيوني أو حالة السلام مع الجارة إسرائيل الخ الخ " " وهل ستحاربون أم تعقدون الصلحَ ؟ " " لا هذا ولا ذاك. الآن، فالمهمة الوحيدة، الملحة، قدّام المعارضة والموالين هيَ إخراجي من حاوية الزبالة هذه.. ".
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أسكي شام: استهلالٌ، أو اكتشافُ الأسلاف
-
أعمالي غير الكاملة في موقع متكامل
-
خاتمَة السيرَة: الشام القديمَة
-
الأمكنة الكمائنُ 14: المَبغى المُقدّس
-
الأمكنة الكمائنُ 13: الجدرانُ الأخرى
-
الأمكنة الكمائنُ 12: السّفح المُتسكع
-
الأمكنة الكمائنُ 11: المَخطر المَشبوه
-
الأمكنة الكمائنُ 10: الجوار المُتأجّج
-
الأمكنة الكمائنُ 9: المَحفل المُزدوَج
-
الأمكنة الكمائنُ 8: أسطحُ الأصحاب
-
الأمكنة الكمائنُ 7: خرائبُ الرّغبة
-
الأمكنة الكمائنُ 6: أوابدُ الوَجاهة
-
الأمكنة الكمائنُ 5: بيتُ بَديع
-
الأمكنة الكمائنُ 4: مَأوى آموجنيْ
-
الأمكنة الكمائنُ 3: كهف الفتوّة
-
الأمكنة الكمائنُ 2: حجرة الحَديقة
-
الأمكنة الكمائنُ: جنينة جَميل
-
الأوانس والجَواري 5
-
الأوانس والجَواري 4
-
الأوانس والجَواري 3
المزيد.....
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
-
انطلاق فعاليات معرض الكويت الدولي للكتاب 2024
-
-سرقة قلادة أم كلثوم الذهبية في مصر-.. حفيدة كوكب الشرق تكشف
...
المزيد.....
-
فوقوا بقى .. الخرافات بالهبل والعبيط
/ سامى لبيب
-
وَيُسَمُّوْنَهَا «كورُونا»، وَيُسَمُّوْنَهُ «كورُونا» (3-4)
...
/ غياث المرزوق
-
التقنية والحداثة من منظور مدرسة فرانكفو رت
/ محمد فشفاشي
-
سَلَامُ ليَـــــالِيك
/ مزوار محمد سعيد
-
سور الأزبكية : مقامة أدبية
/ ماجد هاشم كيلاني
-
مقامات الكيلاني
/ ماجد هاشم كيلاني
-
االمجد للأرانب : إشارات الإغراء بالثقافة العربية والإرهاب
/ سامي عبدالعال
-
تخاريف
/ أيمن زهري
-
البنطلون لأ
/ خالد ابوعليو
-
مشاركة المرأة العراقية في سوق العمل
/ نبيل جعفر عبد الرضا و مروة عبد الرحيم
المزيد.....
|