|
التحضر والفنون الأدبية
متعب عالي القرني
الحوار المتمدن-العدد: 3208 - 2010 / 12 / 7 - 08:01
المحور:
الادب والفن
مع تحرك الناس وتنقلاتهم وهجراتهم، يبدأ النمو القروي في الظهور والحضور على حساب البيئات البدوية البسيطة ذات الخيام والأغادير، ثم ينتقل مع مرور الزمن إلى نمو مدنى حضاري، يصل بقوة حضوره إلى درجة الظاهرة، كظاهرة التحضر المعروفة بـ Urbanization. هذا النمو المدني يُعزى في درجته الأولى إلى كثافة الهجرة القروية والبدوية لتحسين مستويات المعيشة، كطلب العلوم وتحصيل الوظائف وترقية المستويات والتي كثيرا ما ترتبط بموارد الحضارة المتواجدة حصرا في المدن بعيدا عن القرى والهجر. ويكون مستوى التحضر في البلدان أكثر نضوجا ورسوخا في المناطق النامية، ذلك أن المناطق المتقدمة قد تجاوزت قنطرة التحضر وتوغلت فيه حتى أصبحت جزءا رئيسا في غالب مقاطعاتها، بحيث تجزم بأن الثقافة البدوية والقروية مستأصلة تماما وغائبة عن الحضور. وما يثبت ذلك ما أوضحه التقرير العالمي للأمم المتحدة عن ملامح التحضر بعام 2005 في أن سكان الحضر والمدن قد ارتفع إلى ما نسبته 29% في 1950م محققا فارقا ملوحظا عن أوائل القرن العشرين والذي كانت نسبتهم 13%، فيما بلغ بحلول 2005 إلى نسبة 49% بمعنى أن أكثر من نصف العالم الحالي قد دخل في مجال التحضر اليوم.
وقد يرى البعض تشجيع هذة الظاهرة وتحسينها لتشكيل حضارة تاريخية تفوق بكثير مستوى الحضارات القديمة الأولى كالبابلية والرومانية والأغريقية والفرعونية التي كانت تحظى بأشكال حضارية عظمى تتمثل في الحدائق والمُدن والأهرامات وغيرها، وقد تهمل حقيقة الجانب الخطير الذي يشكله النمو التحضري على فنون الأدب كالشعر والنثر والقصص والروايات في البيئات البسيطة التي تتعرض لموجات تحضر متسارعة، وسبب ذلك يعود إلى أن الشاعر أو الراوي وجميع ممتهني فنون الأدب الأخرى يتأثرون كما هو معروف بالبيئة المحيطة بكل أشكالها وألوانها سواء بدوية أو قروية أو تحضرية، فالنظرة التأملية التي يتميز بها الشعراء والرواة ..إلخ تنعكس بشكل ملحوظ في منتجاتهم الأدبية، وتعمل كمرآة تورد وتعرض كل الصور الشعرية أو الروائية والنثرية العالقة بتلك البيئات.
ولعلنا نتذكر حادثة الشاعر (علي بن الجهم) والذي كان يعيش في طيات بيئة بدوية جافة قاسية، وحينما وفد على الخليفة العباسي المتوكل مدحه بقوله أنت كالكلب في حفاظك للود .... وكالتيسِ في قراعِ الخطوب أنت كالدلوِ لا عدمناك دلوا .. من كبار الدلا كثير الذنوبِ فثب الحضور يريدون قتله، فقال المتوكل: اتركوه، لقد مدحنا بأفضل ما عنده، فكافئه ببستان قريبا من الرصافة وهي مدينة عند جسر بغداد، فعاش بها مدة من الزمن طويلة، فدعاه المتوكل وسأله شعرا، فأجاب بقصيدة شعرية قوامها 56 بيت تغيرت بمضامينها عن السابقة، ومن أبياتها: عيون المها بين الرصافة والجسرِ ... جلبنا الهوى من حيثُ أدري ولا أدري وبتنا على رغم الحسودِ كأننا .. خليطانِ من ماء الغمامة والخمرِ فقلتُ أسأتِ الظنَّ بي، لستُ شاعرا .. وإن كان أحيانا يجيشُ به صدري فما كل من قادَ الجيادَ يسوسها .. ولا كل من أجرى يقالُ له مُجري ومن قال أن البحر والقطر أشبها .. يداهُ فقد أثنى على البحر والقطرِ
فقال المتوكل لأصحابة مسرورا بهذا التغير: إني أخشى عليه أن يذوب رقة.
بل ورد عن حافظ ابراهيم الذي أدرك عامل البيئة أن قال أن كنيته في مصر (ابن النيل) ولو ذهب إلى سوريا لأصبح ابن (بردى)، ولو ذهب إلى لبنان لأصبح ابن الكلب نسبة إلى (نهر الكلب)، فالبيئة هي الموّرد والموّلد الرئيس لأشكال الصور والرموز الأدبية التي سيتبناها الشاعر. واتساع رقعة التحضر قد يفرض أن تتحلى تلك الفنون الأدبية بكسوة جديدة تحضرية وكلما زاد مداه واتساعه (من 13% عام 1900 إلى 49% عام 2005)، كلما كان أكثر وطأة وسطوة على النظرة الأصيلة الأولى التي تمثل أشكال الثقافة وملامح الحياة للبيئة القديمة، فستكون الروايات على سبيل المثال مصبوبة في قوالب حضارية مدنية ومتجددة، وستتأثر شخصياتها ومفرداتها ومسارحها بالواقع التحضري، بعيدا عن القروي والبدوي والذي قد يعرض صورا أكثر جمالية وأدوم تلذذا، وسيكون الشعر - كما هو معاش بحاضرنا - ذا مفردات حديثة متهالكة وسيفقد مطلب قوة اللفظ وجمال الصورة، وهذا ما لحظناه من تغييرات جذرية طارئة على الشعر من الوقت الجاهلي مرورا بالإسلامي إلى الأموي والعباسي والأندلسي ..إلخ!
ورغم أن البعض قد يرى أن المفردات والصورة من الإمكان تحصيلها وتضمينها في الشعر المعاصر المحفوف بالبيئات المتحضرة، إلا أن قصر النظر عن البيئات المندثرة - البدوية والقروية - قد يجعل العين بعيدة العهد بها، وقد يتطلب من العقل جهد تأملي كبير لاستدرار الصور عن طريق التخيل والتصور، وبهذا لا يصل إلى كل الصور الجمالية البديهية بسبب إختفائها وغيابها عن عينيه، فقد يضيق أفقه ويتركز على البيئة التحضرية، بل قد تنحى أشكال الأدب الأخرى في مسار وحدوي تحضري، ويتم بذلك تضييق مسارات أخرى متوفرة وتفكيك حلقات متجذرة في ثقافة البيئات الأولى ذات الطابع الثقافي الأصيل.
#متعب_عالي_القرني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
سمات الخطاب الإسلامي
-
الحج والإقتصاد السعودي
-
الحداثة في السعودية
-
الديمقراطية في الوطن العربي
-
فقه المعارضة السياسية
-
ملابسات المشاهد السياسية والإقتصادية
-
لسان المأمون المقطوع!
المزيد.....
-
-جزيرة العرائس- باستضافة موسكو لأول مرة
-
-هواة الطوابع- الروسي يعرض في مهرجان القاهرة السينمائي
-
عن فلسفة النبوغ الشعري وأسباب التردي.. كيف نعرف أصناف الشعرا
...
-
-أجواء كانت مشحونة بالحيوية-.. صعود وهبوط السينما في المغرب
...
-
الكوفية: حكاية قماش نسجت الهوية الفلسطينية منذ الثورة الكبرى
...
-
رحيل الكوميدي المصري عادل الفار بعد صراع مع المرض
-
-ثقوب-.. الفكرة وحدها لا تكفي لصنع فيلم سينمائي
-
-قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
-
مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|