|
مرثية سلة مخلوقات
قاسم فنجان
الحوار المتمدن-العدد: 3204 - 2010 / 12 / 3 - 20:10
المحور:
الادب والفن
سـلة مخلوقات الى/ جعفر موسى* مرثية كنت في العزاء و لا تعلم أنه عزاؤك الأخير،منزوياً كنت في أقصى خيمة الحزن ،يجانبك كهل لم أره سابقاً ،يحمل سحنتك الشاحبة وله نفس عينيك العسليتين ، شعره الأشيب الصافي يشبه شعرك الأشيب تماماً ، لم اكترث بحضوره الغريب لكن ما روعنّي كثيراً وجودك المريب في العزاء ، كيف اجتزت كل تلك العوالم المستحيلة وأنت ميت، كيف حضرت الى العزاء وحيداً،أما كنت تدرك عندما مادت الأرض تحت أقدامك فجأة أن الساعة الآزفة كانت ساعتك القاصمة، بماذا كنت تفكر عندما ألهبت سياط الوداع جلدك الناعم و أختض جسدك النحيل من لسعاتها القاتلة . أيها الطائر الحزين اعتراني الشك في تحليقك الأخير بعد أن مسني حفيف أجنحتك الكليلة ،إستسلمت لخرافة الحضور و أيقنت بعودتك المستحيلة وها أنت من جديد هنا، تتهادى من فضاء الفجيعة مثل طائر مجروح ، تطالع وجوه الحاضريـن و تصغي بإرتباك لما يدور من كلام،تجول ناظريك في هول المصاب الكبير،عيناك الجميلتان تجوسان خيفة مما يدور ،تبـرران لروحك الرقيقة وطأة الكابوس الثقيل و تمنيــان الجسد الناعم بالنشور ..تنتفض من مكانك النائي في اقصى الجلسة و تتحرك صوب المقدمة مستفهماً عما يجري ! تسألني عينياك فتلجمني نظراتك عن البوح ، ألوذ بفيض الحزن و أبكي حينما تسألني عن الميت ؟ انتفض بعد ان يجرفني وجع السؤال بقسوة وأصرخ : ألا تعلم انـه أنت ،أنت يا جعفر*! ينهال وقع الكلمة القاسية عليك كالصاعقة فيعلوك الأسى و تكتظ في مقلتيك معالم البؤس ،تبكي وتمسح كفاك الصغيرتان الدمع عن و جهك البرئ ثم تستدير منكسراً من هول ما سمعت،تمضي إلى الركن البعيد من الخيمة وتجلس وحيداًً ممعناً في الحزن عليك ،تقبض روحك الحائرة على خيوط الفاجعة التي تنسج من وجع الجميع لوحتها الأخيرة ،ترى صورتك الهائمة في لجتها ترنو للأنفلات ،يعتريك سيل الرؤى الجارفة و تتشبث بحبل الذكريات المنثوثة من أدعية الصحب عليك ،تتبّعها مأخوذاً بخطى قادتك إلى حيث المسرات كانت تهطل مع مطر العمر الندي لتبلل أيامك الملونة بالسعادة وترطب ساعاتك بالسرور،تضحك روحك الباردة و تتناهى قهقهاتك البريئة لمسامع الآخرين، تضحك بشدة ويلومك الأصدقاء كثيراً ،تخلفهم في حيرتهم يقلبون تهكمك منهم و تمضي بعد ان تستمع الى رجع المدينة المنادي ،وحيداً تخطو في شوارعها التي تعرفك جيداً،قريباً تطوف حول ساحاتها التي تحبك كثيراً،تستجمع ما تراكم فيها من ود وتوثقه بالشرايين المتعبة الى قلبك العليل ،تطعمه من دمك المتخثر فينمو و يستحيل الى امل يرقش سماءك المدلهمة بالغيوم ،تقسم به من اجلهم و تلوح لهم بالرحيل إلى الحلم ،ترحل منفرداً في لجة الليل، تجوب المدينة الخالية إلا من الأشباح ، ترى روحك قبالة المقهى ، تتأمل عبر قضبانها السوداء فترى كل شيء ساكن و مخيف ، تتسلل بهدوء و تجلس على أريكتك الخاصة ، تصغي لخواء الفراغ الشاسع و لسكون الظلام العميق ،يداهمك ضجيج الصباحات التي شاكستها بالود ، تنتظر الغد المستحيل الذي لن يأتي، تنتظر و لا ينجلي الليل ، تنتظر و لا يبزغ الفجر ، تنتظر حتى تتسمر روحك الحائرة وترن الأجراس في مخيالها ، تصرخ بكل الأدوار التي مثلتها سابقاً فتحضر شخصياتك التي كنتها ، تتراقص بحزن على إيقاع النـزيف الذي يكتنفك ، يؤلمك دفق نزيفها الوحشي فتطردها لتتلاشى متبوعة بالأشباح و الظلام ، يقلقك مآل الحال الغريب فتحنث العهد الذي قطعته للأصدقاء و تنـزلق كالطيف في رؤاهم ، تتسللُ الى مخادعهم وتقض مضاجعهم الهادئة و تشق سباتهم بالحنين ..يصحون فزعين منقبين في ظلام أرواحهم التائهة عنك يفتشون و لا يعثروا إلا على بصيص يلوح في عتمات حياتهم ، يستدرجونك بالأغاني و الترانيم الحزينة فتتوهج متسعاً كالسد يم ، تملأ خواء الموت بالحياة وتفتح للمدينة باباً من قلبك المريض تدعوهم ليشاهدونك ثانية كيف تدور في الأزقة و الشوارع ، يراقبونك وحيداً في الليل تمر على الحقول و المسارح الخالية من روادها ، يشاهدونك تتجول في أروقتها الفارغة تبحث عما تراكم من نهاراتك السابقة ،نهاراتك التي وشمتها بالمسك و العنبر لتفوح بأريج يعرفه الصحب النائمين في العسل، توقظهم النسمات اللزجة فيهرعون بسرور الى الشوارع الموحشة ، يلاحقون بفرح طيفك العائد من الأقاصي ، طيفـك الذي يـبزغ كالقمر من العتمة و يتماوج مع الأثير محلقاً من جديد على مرأى من السماء، يجاهد الجميع في السمو محلقين في أثرك للأعالي ، يعرجون عالياً و يحفّونك بوجودهم كالإكليل،يستفزك طوق الحنان و تتوق لتحطيم الآسار الناعمة بالشوق،تحطمهاوتتهادى مائجاًمع الملائكة تتجول في هدوء الليل ، تبحث بحزن عن بيت وحيد..بيت كان لك فيمامضى في الحياة ، بيت كان بيتك الوحيد في الدنيا الوحيدة. دلفتـه و امتدت كفاك الرقيقتان تمسدان رؤوس صغارك الخائفين ، طالعت في وجوههم الغضة أسى الحزن الشديد حين امتدت ذراعاك الناحلتان الى أجسادهم اللدنة مطمئنة فزعهم الكبير ،احتضنتّهم فأربكهم دفء حضورك المريب،لاذوا بك منك و فروا مفزوعين من هول اللحظة العصيبة صوب أمهم التي أدركت بقلبهـا حضورك المهيب ، كدستّهم في حضنها الصغير وتركت وجيب قلبها يلاحق وجودك المستحيل،راعها الحال المأساوي الذي آل إليه كل شئ،بكت بأقصى وجعها و ناحت فانساحت قطرات الذكريات وتشظت على مرأى منك،مستك طراوة الماضي السحيق فدب الندى في يباب جسدك الميت ،تجلى ما فيك من وجع لامرأتك التي انتفضت تلملم ما تراءى منك و تشّد على أوقاتك السعيدة ،استجمعتْ رؤى الأزمنة الهانئة و بسطتها إمام الصغار الهلعين من غيابك،حدثتهم بالدموع عن حكاية ممثل باع جسده الرقيق للمسرح و الحب ولم يندم على هذه المقايضة الخاسرة ،تحدثت عن عروضك التي تقاسمت قلبك الصغير بوحشية،تكلمت عن سِفرك القاسي المرير،تكلمت حتى انفرجت الأسارير الحزينة للأطفال و ناموا، ناموا و ظلت بسمة الأسى ترتسم على سيمائهم البريئة ،كدت تصرخ و أنت تصغي لوجعهم عليك ،كنت تسمعها تجمل الحزن لهم و تلقمهم شيئاً من ألمها لئلا تموت ، كنت و كانت وكان الكون سابتاً في الظلام السحيق،كنت تتمنى أن تراها وكانت تود أن تراك وكان الموت الأعمى كعادته لا يرى ،خطوت وجثوت قبالتها حزيناً ،تأملتها بأسى فلم تكترث ، حدثتها فلم تصغي ، بكيت و لم تبكي ،جرجرت خطواتك التائهة بعد أن أحسست بمرارة الضياع ،عدت من جديد للعزاء ، عزاؤك الذي أفترش بلاطه الرمادي حزن الأصدقاء السرمدي،وصلت و عيناك الجميلتان مغرورقتان بالدمع تستجدي من يراك و لو لمرة واحدة ،كان الحشد المفجوع يمـور في فضاء الفجيعة ،يتهامس في الخفاء عن فنائك السريع ،يروي حكاية انتهائك القاسية ويبسط على حوافها الملغومة بالقهر صبرك أيها النجيب ،يملؤك الزهو عندما تشاهد أنفراط الدمع من عيون الحضور ،تصلك طراوة وجعهم الثقيل فتنتبه للمصيروتقول :متى يكفون عن البكاء ؟ تقول ولايكفون فتسعى كما كنت تسعى دائماً لحقن نزيفهم ،تحدثهم فلا يأبهون ، يخالجك الحياء من صدهم فَـتصيح بهم ، يسمعك من يعرفك بقلبه فيصرخ و يصرخ معه الجميع و يعلو النواح المرير يتسرب نشيجه الشديد إليك فتعرفه ،رزاق ،أنه رزاق الذي يطوقه الآن الحزن عليك ، تحدثه و تشير إلى أقصى الخيمة حيث كنت وحيدا هناك تطالع كيف يكون الحزن عليك ،يرضخ الصديق الحزين ويرفع رأسه المتعب بالهواجس صوبك ،تحتضنه كفاك و تضمه الى صدرك النحيف ،يبكي حينما يلسعه برد موتك في الصميم ،يحدق في وجهك الشاحب فتتقاطر من قلبه الدموع ،ينغزك ألمه في صدرك فتتأوه و تهوي ،تتلاقفك أكفه الحنونة و ترفعك للأعلى،يرفعك عالياً ويخالك تمثل آخر الأدوار ،يدور بك على خشبة الحزن مردداً مشهدك الأخيرفي فراديس إبتكرتها مخيلة الصديق صائحاً: ها أنت ترفل أخيرا بإغفاءة الأزل غير مكترث بنـا ،لقد رسمتنـا حتى سال من نسغنا دمـك ،دمـك الذي أرقته من أجلنا و صرخت أيها المكللون بتيجان قبلتها اكف الملائكة،انتم بثور حصبتي و طفولتي الملونة ،عودوا بي فلكل كائن مصير،أما أنا فبلا مصير،مصيري مثل مساء حزين،وحياتي شمعّت آذانها بنشيج العدم ..يختتم الصديق كلامه فتنساب ترانيمه الموجعة الى خلايا ر وحك المتوهجة ، يتشربها نسغك الذي ما زال مصراً على الحياة ، تنتفض و تنهض فيعترض رأسك سقف التابوت الخشبي،يغشى عليك و يخلد جسدك التعبان للنوم ،تنام هادئاً و يسجيك الصحب في حضن الأرض الرحيمة ، تصحو حين تنهال عليك أحجار الرثاء الثقيلة،تتأمل الكدمات التي تخلفها الأحجار في جسدك الرقيق ولا تتألم ،تطالع روحك التراب و هو يواري جسدك الملفوف بالبياض و لا تغيب،تتأمل ظلام المشهد فيسورك الهم الشديد وتصرخ (قريباً سأعرف من أنا)* تقولها بصرخة تتداعى لها أحجار لحدك الضيق،ينكشف الحال المروع و تطالع عبر الخراب سماء جديدة ، سماء تنـزع ردائها وتفتح صدرها لك لترى حقولها الجميلة مسورة بأسلاك شائكة ،تهتف من قبرك ،ياوز !يا ياوز الصديق لقد صدق رائـد أخيراً ،هاهو الشوك يحل محل أزهاري الملونة ،ينـزع عنها أريجها السامي و يلطخ خضرتها بالعتمة المخيفة ،يسمعك الصديق الحالم بالتحليق أبدا ،ينـزع بوجع من جلده الفراشات و يطلقها من أجلك عالياً ، تحلق الفراشات بألم و يقوده أصطفاق أجنحتها الملونة نحو قبرك الوحيد ، يصل ويألفك مقرفصاً أمام قبرك الأخيـر،وحيداً تترقب من يجئ لتروي له حكاية الممثل الذي مات و لم يمت . *جعفر موسى..قاص وممثل مسرحي من مواليد كركوك 1954،مارس التمثيل و الأخراج المسرحي منذ الستينات و يعتبر من رواد الحركة المسرحية الذيـن أسهموا في بناء المسرح الجاد في مدينة كركوك ، مات بشكل مفاجئ في احد شوارعها جراء جلطة أسكتت قلبه الرقيق في 5-3-6..2. رزاق مجمد عزيز .. مخرج مسرحي قام بأخراج أغلب أعمال الراحل . ياوز فائق .. ممثل مسرحي شارك الراحل في جميع الأعمال المسرحية . رائد حازم .. ممثل مسرحي عمل مع الراحل قي آخر أعماله . * الجملة للقاص الأرجنتيني المشهور خورخي لويس بورخس .
#قاسم_فنجان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ضفة النهر الثالثة
-
سوأى بنت آرو
المزيد.....
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
-
انطلاق فعاليات معرض الكويت الدولي للكتاب 2024
-
-سرقة قلادة أم كلثوم الذهبية في مصر-.. حفيدة كوكب الشرق تكشف
...
-
-مأساة خلف الكواليس- .. الكشف عن سبب وفاة -طرزان-
-
-موجز تاريخ الحرب- كما يسطره المؤرخ العسكري غوين داير
-
شاهد ما حدث للمثل الكوميدي جاي لينو بعد سقوطه من أعلى تلة
-
حرب الانتقام.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 171 مترجمة على موقع
...
-
تركيا.. اكتشاف تميمة تشير إلى قصة محظورة عن النبي سليمان وهو
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|