جميل عبدالله
الحوار المتمدن-العدد: 3190 - 2010 / 11 / 19 - 14:55
المحور:
الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية
" استطاع الشاعر تفاردوفسكي أن يصوغ نموذجا حقيقيا للجندي والإنسان الثوري المقاتل لا من تصوره للواقع أو من خلال صور فنية مليئة بالاستعارات والتشبيهات وإنما صاغه من الواقع الدموي الذي كان جزء منه, فقد أصبح تيوركين نبضا حيا وتعبيرا عن كل جندي يعاني ولا تسقط روحة "
بدا الأدب السوفيتي خلال أعوام المقاومة يبحث من خلال وسائل التعبير الواقعية عن حقائق الحرب إذ أصبحت مشاعر الجندي المقاتل مادة أساسية في شعر المقاومة. لقد تجسدت المعاناة الخصبة لمعنى الحرب, ومعنى المقاومة, ومعنى البطولة في الاندماج بالتجربة الإنسانية العميقة التي خاضها الشعب السوفيتي حيث برزت ميزة أساسية وهي خلق نموذج الإنسان السوفيتي الثوري المقاتل من خلال نضاله وكفاحه ضد الفاشية. لم يكن الأبطال الذين خلقهم الأدب السوفيتي المقاوم تماثيل جوفاء إنما مقاتلون حقيقيون يحيون بطولتهم من خلال واقع الحرب . تمكن الشاعر الكسندر تفادوفسكي أن يصوغ نموذجا حقيقيا للجندي المقاتل . تجلت تلك الشخصية بوضوح في ملحمته الطويلة " فأسيلتي تيوركين " بكل أبعادها إذ عاش الشاعر تجربة الحرب بنفسه , وانخرط منذ الشرارة الأولى في خضم الحرب , وكثيرا ما رافق الجيش في تنقلاته من جبهة إلى أخرى ومن خندق إلى أخر . لقد أتاح له عملة كمراسل حربي في الجبهة أن يتعرف على مكامن حياة الجنود , وان بغوص في أعماقهم فاستطاع بذلك أن يعطي صورة صادقة وحيوية للجندي السوفيتي المقاتل . عندما كان تفاردوفسكي ينشر مقاطع من قصيدته , كانت أيدي الجنود تتلقفها بحماس ثوري ... يتداولونها من يد إلى أخرى أثناء المعارك الضارية . وبذلك أصبحت القصيدة نشيدا يردده المقاتلون وسط لهيب المعارك. ومن خلال هذه الشخصية كان كل جندي يتعرف على نفسه. وبفعل معرفته ودرايته الكبيرة , تمكن الشاعر من التعرض إلى أكثر تفصيلات الحياة القاسية للجنود ... في حفر الخنادق والمتاريس, ونقل العتاد والأسلحة, ورسم الخطط الحربية, وبتلك القدرة رسم الشاعر بثبات وصدق الشخصية المركزية القاعدية.. شخصية " فأسيلتي تيوركين " .. النموذج الذي يتواجد في كل الخنادق والجبهات , استطاع الشاعر تفاردوفسكي أن يصوغ نموذجا حقيقيا للجندي والإنسان الثوري المقاتل لا من تصوره للواقع أو من خلال صورة فنية مليئة بالاستعارات والتشبيهات , وإنما صاغه من الواقع الدموي الذي كان جزءا منه . فقد أصبح تيوركين نبضا حيا وتعبيرا عن كل جندي يعاني ولا يسقط روحة , وتمكن الشاعر أن يحول تيوركين إلى رمز خالد ليس في أذهان الجنود فحسب , وإنما في أذهان جميع أبناء الشعب السوفيتي , يستهل الشاعر قصيدته الطويلة بالأبيات التالية :
من وراء القمة البعيدة ,
انبعث ضجيج المعارك وبريقها ,
لكن رفيقنا تيوركين ,
يرقد وحيدا على الثلوج ,
حيث اصطبغت بلون قرمزي,
والبطل الجريح يتمدد هناك ,
يأتي الموت متلصصا كالبغي ,
تعال أيها الجندي: لقد أزف وقت الرحيل,
دعني أقودك خلال العواصف,
إذا الزوابع تعصف والثلوج تهب على قافلتنا.
والقصيدة عبارة عن حوار ممتع بين الموت والجندي, فالشاعر يصف الموت بالبغي التي تقنع الجندي للاستسلام للموت. بينما الجندي الصامد يصارع الموت ممتددا على الثلوج , ويصيبه الوهن والضعف لكنه يقاوم حتى النفس الأخير " والموت تلاشى مع الضحكات " وفي محاورة الموت يصور حالة الجندي المأساوية , ويأتي الموت بمثابة المنقذ لتعاسة الجندي لكن الجندي لا يعتبر حالته تعيسة وإنما حالة كل جندي يناضل من اجل الحياة والبقاء . إن بقاء الجندي هو بقاء لافكارة الثورية الملتهبة ذد النازية , ويؤكد الجندي بان الموت " لا يخيفه أبدا " وهو كذلك لا ينسى بان " هذه هي الحرب " و " الحياة ليست فراشا من الأزهار " . فيما بعد يفكر هذا الجندي بالبيوت التي تركها حينما التحق بالجبهة , ويتصور بان تلك البيوت أبيدت من قبل الوحشية الفاشية " كل شيء أصبح رمادا وأنقاضا وأشلاء " لكن ذلك لا يخيب الجندي , فأنة سوف يشيد من جديد تلك البيوت المتهدمة والمحترقة ما دام ذلك الجندي هو الذي " حرثها مرة " , ويؤكد الجندي بان " الإنسان ينتصر على الموت " كما وانه ليس وحيدا في غمار هذه الحرب " أي لست أفضل من الآخرين إنني استطيع أن أموت كما يموتون " . في النهاية القصيدة يلتمس الجندي من الموت رجاء واحدا وهو أن يعتقه بعد الموت " هل ستحررني يوما واحدا كي ارحل إلى موسكو " من اجل أن يرى يوم واحتفال أهالي القرية. بعد ذلك يدرك أن النصر على الفاشية سيتحقق لكن لا يجعله يرى ذلك. فيقول الجندي بكل إصرار " سوف اصرخ حتى اهلك على هذا الجبل ولن استسلم طوع اراردتي " . بعد فترة يتخيل الجندي مشهد دفنه حيث يحمله رفاقه الجنود إلى القبر " تعال أيها الجندي احمل هذا الجندي " وهو لا يهتم لموته لكنه يفكر بطريقة رفاقه الجنود الذين عليهم أن يقطعوا الطرق الوعرة المغطاة بالجليد . بعد ذلك ييأس الموت من هذا الجندي لأنه يدرك بأنه هذا الجندي لن يرحل معه لان روحة امتزجت ونفذت إلى أعماق الجنود الآخرين في الخندق وجبهات القتال .
إن هذا الشعر وكل شعر المقاومة عبارة عن صياغة رائعة للألم الهائل الذي احسسة كل إنسان عاش تلك الأيام , إذ كان كل فرد على استعداد لان يموت من اجل الآخرين . ولم يكن أمل تيوركين إلا أن يرى الأرض والإنسان متحررين من الغزاة الفاشيين .ولم تكن هذه القصيدة هي القصيدة الوحيدة التي كتبها تفاردوفسكي وإنما كتب قصائد عديدة حول الحرب تميزت بغنائيتها وعذوبتها . في قصيدة أخرى يصور الشاعر حالة الجبهة, وحالة المقاتل الذي يناضل في الدفاع عم مثله ومبادئه وتراثه, فيقول:
وكمثل الجراح الطرية تزهو جبهتنا ,
فانا اعرف باني ميت,
انه لشيء مفرح ,
إن أرضنا أنقذت ,
الأرض التي متنا من اجلها,
كالمحاربين الشجعان...
هكذا يكون الموت حافزا للقتال ما دام هذا الموت يضمن إنقاذ الوطن والآخرين , ظل الشاعر تفاردوفسكي يتذكر ماسي الحرب , ويكتب حتى بعد انتهائها , وقصيدته " بيت على الطريق " ماهي إلا حزن مأساوي ورجع متمرد لويلات سنوات الحرب . وبعد بضع سنين على مرور الحرب , أكمل تفاردوفسكي قصيدته الطويلة " فضاء خلف فضاء " . وهكذا ظل الشاعر صادقا مع نفسه, مخلصا للمبادئ الإنسانية, لعملة الخلاق الذي تتجلى فيه الحقيقة والبساطة.
في الأخير: ومن خلال قصائد المقاومة عامة, نلمس بان هذه الأشعار تنفذ من " النفس إلى النفس " ومن " القلب إلى القلب ". فشعراء المقاومة توغلوا في أعماق الإنسان من خلال حربه ضد النازية . ولكي نفهم غضب الشعراء وجراحاتهم وقلقهم, ينبغي أن ندرك بان الحرب الوطنية العظمى ما كانت إلا تتويجا للآلام التي كابدها الشعب على يد النازية. وبذلك أصبح الشعراء جزءا رئيسيا في الجبهة القتال ... انتهى .
ولاء تمراز
حزب الشعب الفلسطيني - قطاع غزة
#جميل_عبدالله (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟