|
(طيّب، خلّص، يلّلا) لرانيا عطيّة ودانييل غارسيا. . يرصد الشخصية اليومية، ويتفادى الفذلكات الدرامية
عدنان حسين أحمد
الحوار المتمدن-العدد: 3185 - 2010 / 11 / 14 - 16:05
المحور:
الادب والفن
(طيّب، خلّص، يلّلا) لرانيا عطيّة ودانييل غارسيا يرصد الشخصية اليومية، ويتفادى الفذلكات الدرامية أبو ظبي/ عدنان حسين أحمد
أعلنت لجنة تحكيم مسابقة (آفاق جديدة 2010) التي رأَسَها المخرج الفلسطيني إيليا سليمان في تقيّيمها المقتضب أنها منحت جائزة اللؤلؤة السوداء وقيمتها مائة ألف دولار أميركي لفيلم (طيّب، خلّص، يلّلا) للمخرجَين رانيا عطية ودانييل غارسيا بوصفه أفضل فيلم روائي جديد من العالم العربي، وذلك (لتحوّله عن تفاهة الحياة اليومية الى بُعد شاعري عميق). ولا شك في أن هذا التقيّيم الدقيق يشير من طرف غير خفي الى أن الفيلم لا ينطوي على قصة مألوفة تتطور فيها الأحداث على وفق المفهوم الأرسطي الذي يعتمد على بداية وذروة ونهاية. ويبدو أن المخرجَين اللذين كتبا سيناريو الفيلم أرادا قصة سينمائية مستوية تتحرك في سياق أفقي لا يتوفر على (مطبّات) معقدة أو منعرجات شائكة. بكلمات أُخَرْ، لم يردا الخوض في قصة محبوكة المتن، وإنما فضّلا الانهماك في الهوامش والتفاصيل الصغيرة. فالجزء المنزوي في السينما يكشف، من دون شك، عن الكل الظاهر والمعلَن. ثمة مجازفة تجريبية إذاً، فالسينما هي فن الواقع بإمتيار، وأن الفضاء الفنتازي، وإن كان موجوداً، لكنه محدود ومحفوف بالمخاطر. فحينما يبحث الناقد أو المتلقي بوصفه مستقبلاً متفاعلاً مع الأحداث ومنفعلاً بها فإنه لا يجد تلك القصة محبوكة المتن، وإنما يجد فُتات قصة، وشخصيات لا تنمو سريعاً، ولا تتطوّر بطريقة عضوية واضحة للعيان، وإنما هناك سياقات مستوية تبدو وكأنها تتحرك على وتيرة واحدة. الذات المنطوية إختارا كاتبا السيناريو قصة مهشّمة أو مفتّتة عند قصد تتمحور حول شاب منعزل يعيش مع والدته الطاعنة في السن في مدينة طرابلس الواقعة في شمالي لبنان. ويبدو أن هذا الشاب (جسّد الدور بإتقانٍ عالٍ دانييل أرزوني) قد كرّس جل حياته لوالدته. فلا زواج، ولاعلاقات إجتماعية، ولا أصدقاء إلا ما ندر. يتحاور معها يومياً بلغة لا تجد صدى طيباً في نفسها، وتعترض على آرائه في الأعم الأغلب. يلعب معها (الورق) لكي يمضي وقته الثقيل الذي لا يخلو من ملل وتشابه. ثم ينام معها في غرفة واحدة. يقترح عليها أن يسافرا الى القاهرة حينما يجد عروضاً مغرية، لكنها لا توافق على مغادرة بيتها أو مدينتها (طرابلس) في أفضل الأحوال. يصبغ لها شعرها في كل مرة، ويدخلان في نزاعات ومشّادات كلامية لأتفه الأسباب. ذات يوم تتخذ الأم قرار جريئاً فتترك بيتها وتغادر الى بيروت علّه يجد حلاً لوحدته وحياته اليومية الرتيبة المحصورة بين البيت ومحل الحلويات الذي يعمل فيه. تبدو شخصية الشاب الإنطوائية مضطربة نفسياً لأنه يتعامل مع زبائنه بطريقة فظة تكشف عن توتره الدائم في الأقل، هذا التوتر الذي سينعكس على الجيران تحديداً، وخصوصاً على الصبي الصغير (وليد الأيوبي) الذي يكسر له غالباً بعض المزهريات، ويدمّر له بعض النباتات المنزلية، ومع ذلك فإنه يأخذه ذات مرة الى مدينة حديقة الألعاب تنفيذاً لوعد قطعه على نفسه، وربما هروباً من طبيعة الحياة المملة التي يحياها بين المسافة المحصورة من المنزل الى محل الحلويات الذي لا يتردد عليه الكثير من الزبائن بسبب توتره المستمر. إكتشاف العالم حينما تغادر أمه المنزل يتنفّس الشاب الصعداء، أو هكذا تبدو له الحياة مغايرة للسياق الذي إعتاده من قبل. إذ يوافق على لقاء صديقه الوحيد، على ما يبدو، (لعب دور الصديق ثيودور حايك)، ويجلسا في مقهى، ويتجاذبا أطراف الحديث عن العمل والعلاقات العاطفية. ثم يشجعه هذا الصديق على الإتصال بالنسوة اللواتي يتحرشن به، ويضربن له بعض المواعيد، لكنه كان يحجم عن الذهاب أول الأمر. وحينما يمهّد له هذا الصديق الطريق الى إكتشاف حاجته الجنسية تحديداً، يتصل بإحدى بائعات الهوى (مثلّت الدور نوال مقداد) فيكتشف عالماً مغايراً لم يكن يألفه من قبل. وحينما تتكرر مواعيده يخرج من إطار العزلة المقيتة التي كان يحياها من قبل، وصار أشبه بالعصفور الذي تحرر من قفصه أو سجنه الرمزي. لم يقتصر هذا الاكتشاف على ذاته، وإنما تعداها الى مدينة طرابلس التي يعيش فيها، والى أحيائها الجوانية التي يزدهر فيها البغاء وينتعش فيها الرقيق الأبيض. يحرضه هذا الصديق على إستقدام خادمة الى منزله لكي تسهّل له حياته اليومية، وحينما يذهب الى متعهد الخدم (ناظم عطية) يقدّم له شرحاً تفصيلياً عن طبيعة الخادمات الأجنبيات، فالفليبينية جميلة وخفيفة الظل، والسريلانكية ثقيلة الظل ولا تتوفر على مواصفات شكلانية مريحة، أما الأثيوبية فقد تكون رخيصة مثل السريلانكية، لكنها لا تجيد الكلام بالعربية، وربما تهرب إذا ما تعرضت لأي شكل من أشكال الضغوط، خصوصاً وأن بعض المخدومين لا يجدون ضيراً في إنزال العقوبات البدنية بالخادمات. ويبدو أن هذا الشاب عاثر الحظ، لأن الخادمة التي تعاقد عليها كانت لا تجيد اللغة العربية، وأكثر من ذلك أنها لا تتكلم ألبتة، ولا تأكل أو تشرب أي شيء. وحينما يذهب لشراء بعض (الفلافل) تهرب من السيارة وتتركه أسيراً لوحدته القاتلة وعزلته الأبدية. وسنكتشف لاحقاً أنها تخشى من العقوبة البدنية والاستغلال الجنسي. التوثيق يمزج المخرجان تقنية الفيلم الرواي مع الفيلم التسجيلي ففي المشاهد الأخيرة من الفيلم تتحدث الشخصيات الرئيسة في الفيلم تباعاً بدءاً بالأم، مروراً بولدها الشاب، فالصبي الصغير، ابن الجيران، وإنتهاء بالخامة الأثيوبية (سابلاورك تسفاي). فالأم تسترجع ذكرياتها في بلد أفريقي لم تشر إليه صراحة، وتتحدث عن بعض أشغالها اليدوية. أما الابن فينغمس في الحديث عن هوايته المفضلة في تجميع نماذج عديدة من السيارات الصغيرة التي ينظفها، ويعتني بها، ويضعها في معارضه الزجاجية بمنزله، ويجد متعة كبيرة في التمعن بها وإطالة النظر إليها طالما أنه يتوفر على أوقات فراغ كثيرة لا يعرف كيف يملؤها. أما ابن الجيران، الصبي الصغير فمولع بمختلف أنواع الأسلحة التي تذكّرنا بطريقة ما بالحروب العبثية، ليس في لبنان حسب، وإنما في مختلف أرجاء العالم. وربما تكون الخادمة، أو الشخصية الرابعة هي الأنموذج القاسي لشكل العلاقة التي تربط الخدم بالمخدومين الذي يتعرضون الى العقوبات الجسدية، والاعتداءات الجنسية، ومختلف أشكال الاهانات، إلا انها في هذا الفيلم تمثل تعزيزاً للقطيعة، وإنعداماً للتواصل بين هذا الشاب المعزول وبين الآخرين. وقد بذل الشاب جهداً جهيداً من أجل التواصل معها، ولكنها كانت صمّاء بكماء فاقمت عزلته، وزادت من شعوره بالوحدة والقطيعة مع العالم الخارجي. مارس المخرجان المبدعان رانيا عطية ودانييل غارسيا نوعاً من الرصد النفسي الدقيق لشخصية وحيدة معزولة نأت بنفسها عن الحياة إلا لُماماً من خلال هذه الكاميرا التي كانت ترصد التفاصيل وتغوص في أدق الاشياء التي قد تبدو غير منظورة بالنسبة للآخرين. ومن هنا نتلمّس البُعد الشاعري العميق الذي أشارت إليه لجنة التحكيم وحدّدته في شخصية الشاب الإنطوائية التي كانت تلوذ بالأم والمنزل الموحش ومحل الحلويات الخالي من الزبائن. لقد غاصت كاميرا دانييل غارسيا في أعماق هذا الشاب المأزوم الذي لم يكتشف حتى الحي الذي كان يسكن فيه، مثلما غاصت الرؤية الاخراجية لرانيا عطية في تفاصيل مدينة لبنانية ضمّت هذا النمط من البشر الذين يجدون عزاءهم في هذه الزوايا الضيقة على الرغم من سعة الفضاء العام الذين يغلي بالحياة الصاخبة التي لا تعرف السكون تقريباً. سبق للمخرجَين رانيا عطية ودانييل غارسيا أن أنجزا عدداً من الأفلام القصيرة المهمة من بينها (المتراس) 2005، و (طرابلس هادئة) 2009. أما (طيّب، خلّص، يلّلا) فهو فيلمهما الروائي الطويل الأول الذي حفر إسمه بقوة في المشهد السينمائي العربي.
#عدنان_حسين_أحمد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
كيارستمي في فيلمه التجريبي الجديد - شيرين - مُجدِّد لم يكف ع
...
-
على خطى هاينكة سليم إيفجي يعرّي الطبقة الوسطى، وينشر غسيلها
...
-
بلا نقاب: فن جديد قادم من الشرق الأوسط وشمال القارة السمراء
-
يشيم أستا أوغلو و - رحلة الى الشمس -
-
في فيلمه الروائي الجديد - خريف - أوزجان ألبير يرصد قمع المنا
...
-
تشتّت الرؤية الاخراجية لعمرو سلامة: - زي النهاردة - فيلم يتر
...
-
الفيلم الوثائقي- طفل الحرب - لكريم شروبورغ محاولة لنبذ العنف
...
-
فيلم - بورات - للاري تشارلس . . . من السخرية الوثائقية المُر
...
-
أهمية القصة السينمائية في صناعة الفيلم الناجح
-
في فيلمه الروائي الجديد - الحقل البرّي - ميخائيل كالاتوزيشفي
...
-
الشاعرة الأسكتلندية جين هادفيلد تفوز بجائزة ت. أس. إليوت للش
...
-
الفنان البريطاني رون مُوِيك يصعق المشاهدين ويهُّز مشاعرهم
-
المُستفَّزة . . فيلم بريطاني يعيد النظر في قضية العنف المنزل
...
-
في شريط - بدي شوف - لجوانا حاجي وخليل جريج: هل رأت أيقونة ال
...
-
في فيلمها الأخير - صندوق باندورا - يشيم أستا أوغلو تستجلي ثل
...
-
المخرجة التركية يسيم أستا أوغلو في - رحلتها الى الشمس -
-
رشيد مشهراوي في فيلم -عيد ميلاد ليلى-: نقد لواقع الحال الفلس
...
-
قوة الرمز واستثمار الدلالة التعبيرية في فيلم - فايروس - لجما
...
-
أين يقف المفكر حسين الهنداوي. . . أ عَلى ضفاف الفلسفة أم في
...
-
من ضفاف الفلسفة الى مجراها العميق: قراءة نقدية في ثنائية الأ
...
المزيد.....
-
الكاتبة ريم مراد تطرح رواية -إليك أنتمي- في معرض الكتاب الدو
...
-
-ما هنالك-.. الأديب إبراهيم المويلحي راويا لآخر أيام العثمان
...
-
تخطى 120 مليون جنيه.. -الحريفة 2- يدخل قائمة أعلى الأفلام ال
...
-
جائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي تكرِّم المؤسسات الإع
...
-
نقل الموناليزا لمكان آخر.. متحف اللوفر في حالة حرجة
-
الموسم السادس: قيامة عثمان الحلقة 178 باللغة العربية على ترد
...
-
حبس فنانة مصرية 3 سنوات
-
راسل كرو.. لماذا انطفأ نجم صاحب الأوسكار وأصبح يعيش في الماض
...
-
أحداث مليئة بالإثارة والتشويق في الحلقة 178 من مسلسل المؤسس
...
-
الكاتبة الروائية (ماجدة جادو) ضيفة صالون الفنان -مصطفى فضل ا
...
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|