|
رسائل اليبرالي الجميل
بديع الآلوسي
الحوار المتمدن-العدد: 3175 - 2010 / 11 / 4 - 23:18
المحور:
الادب والفن
الى/ الشهيد كفاح فخري
اربعون يوما ًمن الحداد الواجم قد إنتهت ، نوبات العويل هدأت ، تفكك الزمن الفائت ، إضطرب ، عاود الإنسياب في مساره الحافل . قلت : حسنا ً، بماذا ستفيض أرواحنا لو مرة واحدة أديت الواجب وخصصته بالزيارة ؟. بغتة ًخُسفت بنبأ مفزع : محترف الألغام مات بسيارة إرهابية مفخخة . ما يثيرني حقا ً ، هو إحجام رفيقي ابا الندى عن الجهر بالوعكات الروحية التي عكرت حياته وقلبتها راسا ً على عقب . واأسفاه ....وا أسفاة لو... . اغتياله البربري ، مصيبة ثكلتني ، هكذا إذن و بلمح البصر ، توارى عنا هذا الليبرالي المؤدب مكرها ً، مبتعدا ً ، مبتعدا ً عن مشهد حياتنا المضطربة . تساءلت بحسرة وإحتجاج : يا خالقي لِم َ خطفت صاحبي ؟ . ********************************************
نعم ، بعد منتصف الليل البارد باغتني ابو الندى الليبرالي من خلال الأنجيل ، حينها كنت امعن النظرفي الرفوف باحثا ً عن وصف للقيامة في الكتاب السماوي، تهاوت رسائله الجبلية العشر والتي هجعت حبيسة برفقة الأنبياء . كثافة هذه الأسرار شحنت المكان بحدث مضاد وغير متوقع ، توهج عقلي بالمفاجأة ، انصرفت اتصفح الوريقات كأني اراها للمرة الأولى، وهي تتعالى على الموت حقيقة تدنو وتغيب . هي الحيرة اولا ً ......تطاول نرجسي ان نتصفح مشاعر من غادرونا ، لما تخفي بين طياتها من علامات بريئة محملة بالشهادات. قلت : الأفضل أن أعيد ترتيب المكتوب ، لكي لا نموت . لم يفسد الوقت الدوار بريق رسائله النزيهة التي تنأى الى ربع قرن، بينما كنت ارنوالى اناقتها الموغلة في دروب الغربة والمشقة ، طالني الإستغراب لكثرة النجوم او الورود التي احتوتها . يسألني في اغلب المكاتيب : متى واين سنلتقي ؟ لم ارتب حالي حيئذ لرؤيته قلت : ان نفعل ما نشاء ومتى نشاء ليس بالأمر الهين . تذكر خواطره شؤونا ً عن رحلته :(( مخيلتي تحاصرها نساء روسيا الطيبات الى حد السذاجة المفرطة ، لا ...ادري لو ... )) . يتوارثني حزن مشوش محفوف برائحة الندم الخائب ، لماذا لم اجهد نفسي او احسم أمري للالتقاء به ؟. هكذا اذن ، حظنا إقتصر على سلوى المراسلات المشاكسة ، المترعة بالمتعة والمناصرة والتي ساعدتنا حتما ً على تخطي محنتنا اوالتسامي على الأخطاء الآدمية الفجة ؟. كنت اتطلع أن يبين لي الفرق بين الإحباط المفاجيء والإيمان بغد أفضل ، لكن لا ادري لماذا وكيف كان يتحاشى الأمر ؟ الحياة بمنعطفاتها لم تتح لنا الفرصة ولو بلقاء عابر، نتكاشف او نتشاجرمن خلاله، هذا عزاؤنا اللامرئي . توقفت متنفسا ً هفيف الإنثيالات التي عصفت بنا ، نعم تكالبت علينا الأحداث ، شغلنا بحروب جبلية متناثرة ، سحقنا بإحباطات المنفى فيما بعد، عندها إفترق ابو الندى الليبرالي عني وعن خصوصيات الاستأناس بما هو مبهج. حين يسألونني : كيف عرفته ؟ أرد بإيجاز: في جبل متين كانت المصادفة . مذهلة هي الذكريات ،حنان رسائله المتحدية تشحن ذاكرتي برفض الموت ، اكتشف من جديد إن لكل منها حدث خاص يعنيننا ، وموقف نتوحد به، كذلك رغبة ترصد التحولات ، بالإضافة الى كونها حلم متفائل ينتظر إجابة منعشة . يهمس لي بأدب (( لقد مارست طقوسي ...لكن اعتقد إن تأمل حواسنا بعناية حالة مخيفة ومتعبة رغم بساطتها ، وقد أكون ......................... )). نافذة الرسائل هرعت بي لكي ألامس عصب الغياب وجدوى الحضور ، إمتلأنا بأشياء كثيرة حينما كنا معا ً نمتهن لعبة حرب العصابات المنهكة ، انتظرنا أمل الخلاص بصبر، نعم سعدنا بتراقص النار ، بترف التعاليل، بنضج الثمار ،، بشهوة الطواف، بنعمة الحرية في ذلك الجيب الآمن*. مرارا ً الرفاق الذين يعرفونه عن قرب يقولون : أبو الندى وديع ،صموت ،عصامي، ليبرالي ، يفرط بشرب الشاي ويفضل النثر على الشعر. ها هو يستدرج بشكل ذاتي وصادق محاولا ً الراحة :(( مصيبتنا يا اخي إننا طيبون نغرم بمباهج التفاصيل المهيجة، نحن نُدهش كالأطفال ، مع ذلك يجب أن نكبت حواسنا التي .....)) يا له من ليل سخي، تنتصر فيه الوريقات المسالمة والمسكونة بالافتراضات والحقيقة، إنها وفية لذاكرة الإنتماء والأنصار*، لا بد إنها تتلصص الى وحدتي كما استرق النظر الى جمالها الحي او الى ماضيها الذي يخص عواطفنا المتوجسة ، قناعاتنا المترقبة ، خيباتنا المزعجة ، فراقنا عن من نحب . ارهف السمع تطاردني بسؤال خاطف : ما الفارق بين لحظة الولادة لحظة الموت ، اليس كلاهما إنتصارا ً لاهوتيا ً بإمتياز ؟ . يعرف صاحبي ان الشجرة انقذته ، لذلك يتطاول على الوجع ويكاشفها : انا امضي الى الخضراء فهي لا تشي بأحد ، شامخة ، أليفة ، عنيدة ، نَضرة ، معطاء، ظليلة ، إنها ملكة المكان . صيفا ً ، صرعته ولم تبارحه هواجس الحنين في غفلة ٍوبخشونة ، تمادت بكتريا التيفوئيد وكادت ان تسحقه ، هدت القشعريرة قواه . ازعجتني ،اربكتني ، هزتني رسالته المعفرة بالهزيمة المنتصرة . يصرح بائحا ً، نائحا ً :(( بلا إشراقات ،مواجع سوداوية مسكونة بالتأويل ، محنتي الحالية تتعدى كونها خواء يعذبني او يهددني بالأنتحار ، الروتين يتقاذفني من هوس الى جنون ، سأعترف لك يوما ً لكي لا نهزم ، فلكل متاهة بوصلة ،اتظن أننا.... )) . عرفت انه يواصل وبلا ضجيج مسيرته بين قرى : كردية ، مسيحية ، يزيدية ، مفتونا ً بارض كردستان المحررة ،العصية على الفهم والطاعنة بالبدائية . يقول مبهورا ً بغموض ما حدث : (( طريق الأنسحاب كان طويلا ً طويلا ً ، فجأة سمعنا هدير الطائرات ، تحول الواقع الى كابوس متجبر، احتمينا بالحجر والشجر ، هتاف الموت قد لامس ارواحنا بالخطر الدامي ، يا له من يوم ملعون ، لكن دفع الله ما كان اعظم، رغم ذلك اتعلق برباطة ال ... )) . حين استلمت رسالته التي ترصد واقعة المحاصرة تلاشت معنوياتي وولجت في وجع خانق . شاءت الأقدارالحمقاء أن تنفصل عن عوالمنا ، لكني مذهول الى حد الأن بالسؤال المُلح: ترى كيف ، كيف ايها اليقظ افترستك الذئاب المفخخة ؟. يغلبني الشعور ذاته منذ اربعين يوما ً : آه... لو إنتبه وسافر و لم يغرق روحه بوحول الوطن المهلكة . قالوا : قبل الحادثة المشؤومة ، ابو الندى الليبرالي كان متماسكا ضد الجلاد ، منذ شهر دخل منعطف وسأم الضحية . خرج من كردستان بذراع مشلولة ، حقا ً ، ان الحياة رفسته لكنها امهلته . هنا حدقت او تلصصت الى تلك البشرى ، بعناد يكتب لي بخط متعثر ، متفائلا ً بتوجس : الجديد ، انا حي ، سأشد الرحال الى ايران لأجراء العملية الجراحية اللازمة ، اللعنة ..بعد هذا اليوم سيكون تواصلنا مستحيلا ً. لا ادري لماذا ثنائية الخطأ والصواب تختلطان في ذهني ، حين افكر به الان تنتابني الوحشة وتتصارع الهواجس قافزة ً تبحث عن منطق ذي معنى . يبتكر ويرتجل مصرحا ًفي ورقة اخرى : (( تعلمت صناعة الألغام في بيروت مع الفلسطينين ، وهبتني التجربة ان لا أرتبك، هذه الحرفة لا تحتمل الارتجاف ،الخطأ فيها يعني لسعة الموت، نقتحم المكان في.............. )) . رسالة وحيدة اثارت انتباهي ربما لتفردها بتلك الرسوم الطفولية المضطربة ، لكن لماذا هذا الجسر الهرم؟ وما معنى العيون التي تتغامز في الفضاء ؟ . رغم افتتاني بهذة الهواجس التي ارسلت لي حصرا ً، لكني كمن يتمثل جرحا ً قديما يستفزني ويثير في نفسي الشك بكل ما جرى ويجري من عبث لا يوصف تعايشنا اونتعايش معه يوميا ً. بحنين يحلم ، بلهجة مغرية يستنتج: (( الحياة لعبة ... علينا ان نستنبط متعتها المُجدية و ...........)) . نعم كان ابو الندى الليبرالي ملمح بأغلب رسائله الى إن ثمة مصادفات تلهب غرائزنا بدماء مشحونة بالتوتر الوجداني، ترهف مخيلتنا بالنضج ، توشم ارواحنا بأسئلة غريبة ونادرة . على غير عادته يراوغ بمداعبة :(( يوم شتوي ،،اطفال كردستان الحلوين يسألونني عن اسمي فأقول لهم : امي تسميني الشيطان المكتمل ،فيضحكون ..هكذا ارنو الى وجه التشابه بيني و ....................... )) . رسائله الحميمية تتحرش بالحلم المؤجل ، تحاول رأب الصدع بين الأمل والخيبة، ايضا ً تنبض بالفكاهة ، بالإيمان الحر ، نعم إنه دونها بمزاج رائق و بحس ذي نكهة جبلية رغم قساوة الزمن . نراه يتخيل اجواء كردستان فيحرر على سجيته : (( نحن نطوف بجنان الفردوس الربانية دون ان ندري، شقائق النعمان السعيدة تملأ السفوح ، الينابيع الناضحة تشق الوديان ولا تكترث البغال هنا بنشيد الموت ال... )). قلت في خلدي : ابا الندى، يا ابا الندى ، بالله عليك، الى اي كينونة مزاجية تنتمي؟ . أوقفني مشوار تلك الرسائل التي لم تهزم التي شَغَلتني في عزلتي ، تركتني في طريق مفتوح يفضي الى تساؤله الذي وخزني والمنسوخ بخط احمر : ((لا يعنينا حاليا ًخطأ آدم الفاجر لكن هل الكفاح المسلح خطوة عاقر؟ )). عند ذلك التقاطع المتداخل بحذر اوالمرتب بارتياب ، ابتسمت منتبها ً الى ما هو متغير وغير روتيني ، الأجمل اني التقيتك ولو متأخرا ً ياصاحبي؟ . يقولون :عجيب ، بصيص المحبة يقهر جحافل الموت أحيانا ً ، لكني اقول لك الأن : اني اراك ، أراك ، هل تراني ايها الليبرالي الجميل ؟. 28 / 9/ 2010
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الجيب الآمن : اراضي كردستان المحرر. * الأنصار :هم البشمركة او الفدائيون الذين خاضوا حرب العصابات ضد سلطة صدام حسين بين عامي 1979 ـ1988.
#بديع_الآلوسي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
وكان ماكان ..وقصص أ ٌخرى قصيرة جدا ً
-
قصة قصيرة جدا ً : من يصمت يحصد .....
-
قصة قصيرة : مسيرة راجلة
-
قصة قصيرة : ما قاله لها عن ....
-
قصص قصيرة جدا ً : اين / يوم ليس كباقي الأيام
-
سيدة الدوائر
-
احذروا الحب وقصص اخرى قصيرة جدا ً
-
قصة قصيرة :نحن من قتلنا الرفاعي
-
قصص قصيرة جدا ً / بلا ميعاد / ماعاد كما
-
قصص قصيرة جدا ً : منعطف / هل ....
-
تأملات بعنوان : لقاء افتراضي معهم
-
قصة قصيرة : المطارد
-
قصة قصيرة : غبش الأنتظار
-
قصة قصيرة جدا ُ : حياة بين قوسين
-
قصة قصيرة : بلا تردد
-
رسالة الى بيكاسو
-
قصص قصيرة جدا ً : تداعيات في البئر
-
( بول كلي ) وموسيقى اللون
-
تباريح الشوق
-
حكابة ( الخنجر )
المزيد.....
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|